زِيَادَاتُ الثِّقَاتِ
وَهُوَ فَنٌّ لَطِيفٌ تُسْتَحْسَنُ الْعِنَايَةُ بِهِ ، يُعْرَفُ بِجَمْعِ الطُّرُقِ وَالْأَبْوَابِ ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ ، وَلَكِنْ كَانَ الْأَنْسَبُ - كَمَا قَدَّمْنَا - ذِكْرَهُ مَعَ تَعَارُضِ الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ
.
وَقَدْ كَانَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ ابْنُ خُزَيْمَةَ - لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ - مُشَارًا إِلَيْهِ بِهِ ; بِحَيْثُ قَالَ تِلْمِيذُهُ ابْنُ حِبَّانَ : مَا رَأَيْتُ عَلَى أَدِيمِ الْأَرْضِ مَنْ يَحْفَظُ الصِّحَاحَ بِأَلْفَاظِهَا ، وَيَقُومُ بِزِيَادَةِ كُلِّ لَفْظَةٍ زَادَ فِي الْخَبَرِ ثِقَةً ، حَتَّى كَأَنَّ السُّنَنَ كُلَّهَا نُصْبَ عَيْنَيْهِ - غَيْرَهُ .
وَكَذَا كَانَ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ ، وَأَبُو الْوَلِيدِ حَسَّانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ النَّيْسَابُورِيَّانِ ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ ; كَأَبِي نُعَيْمِ ابْنِ عَدِيٍّ الْجُرْجَانِيِّ ، مِمَّنِ اشْتُهِرَ بِمَعْرِفَةِ زِيَادَاتِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُسْتَنْبَطُ مِنْهَا [2/29] الْأَحْكَامُ الْفِقْهِيَّةُ فِي الْمُتُونِ .
( وَاقْبَلْ ) أَيُّهَا الطَّالِبُ ( زِيادَاتِ الثِّقَاتِ ) مِنَ التَّابِعِينَ ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ مُطْلَقًا ( مِنْهُمْ ) أَيْ : مِنَ الثِّقَاتِ الرَّاوِينَ لِلْحَدِيثِ بِدُونِهَا ، بِأَنْ رَوَاهُ أَحَدُهُمْ مَرَّةً نَاقِصًا وَمَرَّةً بِالزِّيَادَةِ .
( وَمَنْ سِوَاهُمْ ) أَيْ : مَنْ سِوَى الرَّاوِينَ بِدُونِهَا مِنَ الثِّقَاتِ أَيْضًا ، سَوَاءٌ أكَانَتْ فِي اللَّفْظِ أَمِ الْمَعْنَى ، تَعَلَّقَ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَمْ لَا ، غَيَّرَتِ الْحُكْمَ الثَّابِتَ أَمْ لَا ، أَوْجَبَتْ نَقْصًا مِنْ أَحْكَامٍ ثَبَتَتْ بِخَبَرٍ آخَرَ أَمْ لَا ، عُلِمَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ أَمْ لَا ، كَثُرَ السَّاكِتُونَ عَنْهَا أَمْ لَا .
( فـَ ) هَذَا - كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ - هُوَ الَّذِي مَشَى ( عَلَيْهِ الْمُعْظَمُ ) مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ ; كَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ ، وَالْغَزَالِيِّ فِي الْمُسْتَصْفَى ، وَجَرَى عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ فِي مُصَنَّفَاتِهِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ تَصَرُّفِ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ .
وَقَيَّدَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ ، فَلَوْ كَانَ السَّاكِتُ عَدَدًا أَوْ وَاحِدًا أَحْفَظَ مِنْهُ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ حَافِظًا ، وَلَوْ كَانَ صَدُوقًا فَلَا .
وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، فَقَالَ فِي التَّمْهِيدِ : ( إِنَّمَا تُقْبَلُ إِذَا كَانَ [2/30] رَاوِيهَا أَحْفَظَ ، وَأَتْقَنَ مِمَّنْ قَصَّرَ أَوْ مِثْلَهُ فِي الْحِفْظِ ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ حَافِظٍ وَلَا مُتْقِنٍ ، فَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهَا ) ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْخَطِيبِ : ( الَّذِي نَخْتَارُهُ الْقَبُولَ إِذَا كَانَ رَاوِيهَا عَدْلًا حَافِظًا وَمُتْقِنًا ضَابِطًا ) .
وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ : إِنَّمَا تُقْبَلُ مِمَّنْ يَعْتَمِدُ عَلَى حِفْظِهِ ، وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ .
وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ : إِنَّمَا يقْبَلُ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ مِنَ الثِّقَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ .
وَكَذَا قَيَّدَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعِدَّةِ الْقَبُولَ إِذَا كَانَ رَاوِي النَّاقِصَةِ أَكْثَرَ بِتَعَدُّدِ مَجْلِسِ التَّحَمُّلِ ; لِأَنَّهُمَا حِينَئِذٍ كَالْخَبَرَيْنِ يُعْمَلُ بِهِمَا .
وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ ، بِمَا إِذَا سَكَتَ الْبَاقُونَ عَنْ نَفْيِهِ ، أَمَّا مَعَ النَّفْيِ عَلَى وَجْهٍ يُقْبَلُ فَلَا ، وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ : بِمَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُغَيِّرَةً لِلْإِعْرَابِ ، وَإِلَّا كَانَا مُتَعَارِضَيْنِ ، أَيْ فِي اللَّفْظِ ، وَإِنْ جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَعْنَى .
وَفَرِيقٌ بِمَا إِذَا أَفَادَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا ، وَآخَرُونَ بِمَا إِذَا كَانَتْ فِي اللَّفْظِ خَاصَّةً ; كَزِيَادَةِ ( أَخاقِيق جُرْذَانٍ ) فِي حَدِيثِ الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ ، فَإِنَّ [2/31] ذِكْرَ الْمَوْضِعِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ، حَكَاهُمَا الْخَطِيبُ .
[ وَقَالَ : إِنَّ أَوَّلَهُمَا لَا وَجْهَ لَهُ ; إِذِ الْأَحْكَامُ مَحَلُّ التَّشَدُّدِ ، فَقَبُولُهَا فِي غَيْرِهَا أَوْلَى ، وَكَأَنَّهُ لَحَظَ الْحَاجَةَ فِي الْقَبُولِ فَلَمْ يَتَجَاوَزْهَا ، وَلَا لِمَا قَصَرَهُ الْآخَرُ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ حَاجَةً فِي الْجُمْلَةِ ; بِحَيْثُ صَارَا كَطَرَفَيْ نَقِيضٍ فِي التَّسَاهُلِ وَغَيْرِهِ ] .
[ على أن لقائل أن يقول : لما كانت الأحكام محل التشديد لراويها وغيره ، اختصت بالقبول دون غيرها ، كما في شاهد الردة ، والمخبر بتنجس الماء ، حيث قيل بقبول الأول بدون سؤال عن السبب ؛ لعدم التساهل غالبا في مقتضى الردة ، وباستفسار المخبر عن السبب إن لم يكن فقيها ] ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَمَنْ وَافَقَه بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ السَّاكِتُونَ مِمَّنْ لَا يَغْفُلُ مِثْلُهُمْ عَنْ مِثْلِهَا عَادَةً ، أَوْ لَمْ تَكُنْ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ .
وَخَرَّجَ شَيْخُنَا مِنْ تَفْرِقَةِ ابْنِ حِبَّانَ فِي مُقَدِّمَةِ ( الضُّعَفَاءِ ) لَهُ بَيْنَ الْمُحَدِّثِ وَالْفَقِيهِ فِي الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى التَّفْرِقَةَ أَيْضًا هُنَا بَيْنَهُمَا فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ ، فَتُقْبَلُ مِنَ الْمُحَدِّثِ فِي السَّنَدِ لَا الْمَتْنِ ، وَمِنَ الْفَقِيهِ عَكْسُهُ ; لِزِيَادَةِ اعْتِنَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا قُبِلَ مِنْهُ ، قَالَ : بَلْ سِيَاقُ كَلَامِ ابْنِ حِبَّانَ يُرْشِدُ إِلَيْهِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
( وَقِيلَ : لَا ) تُقْبَلُ الزِّيَادَةُ مُطْلَقًا لَا مِمَّنْ رَوَاهُ نَاقِصًا ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ ، حَكَاهُ الْخَطِيبُ ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَبْهَرِيِّ [2/32] قَالُوا : لِأَنَّ تَرْكَ الْحُفَّاظِ لِنَقْلِهَا وَذَهَابَهُمْ عَنْ مَعْرِفَتِهَا يُوهِنُهَا وَيُضْعِفُ أَمْرَهَا ، وَيَكُونُ مُعَارِضًا لَهَا ، وَلَيْسَتْ كَالْحَدِيثِ الْمُسْتَقِلِّ ; إِذْ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فِي الْعَادَةِ سَمَاعُ وَاحِدٍ فَقَطْ لِلْحَدِيثِ مِنَ الرَّاوِي وَانْفِرَادُهُ بِهِ ، وَيَمْتَنِعُ فِيهَا سَمَاعُ الْجَمَاعَةِ لِحَدِيثٍ وَاحِدٍ ، وَذَهَابُ زِيَادَةٍ فِيهِ عَلَيْهِمْ وَنِسْيَانُهَا إِلَّا الْوَاحِدَ .
( وَقِيلَ : لَا ) تُقْبَلُ الزِّيَادَةُ ( مِنْهُمْ ) فَقَطْ ; أَيْ : مِمَّنْ رَوَاهُ بِدُونِهَا ثُمَّ رَوَاهُ بِهَا ; لِأَنَّ رِوَايَتَهُ لَهُ نَاقِصًا أَوْرَثَتْ شَكًّا فِي الزِّيَادَةِ ، وَتُقْبَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الثِّقَاتِ ، حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ فِرْقَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ .
وَكَذَا قَالَ بِهِ مِنْهُمْ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ . قَالَ بَعْضُهُمْ : سَوَاءٌ كَانَتْ رِوَايَتُهُ لِلزَّائِدَةِ سَابِقَةً ، أَوْ لَاحِقَةً .
وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الصَّبَّاغِ بِوُجُوبِ التَّوَقُّفِ ; حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ نَسِيَهَا ، فَإِنَّهُ قَالَ : وَلَوْ تَكَرَّرَتْ رِوَايَتُهُ نَاقِصًا ، ثُمَّ رَوَاهُ بِالزِّيَادَةِ ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ نَسِيَهَا قُبِلَتْ ، وَإِلَّا وَجَبَ التَّوَقُّفُ .
وَرَدَّ الْخَطِيبِ الثَّانِيَ : بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ تَعَدُّدُ الْمَجْلِسِ وَسَهْوُ الرَّاوِي فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى النَّاقِصَةِ فِي أَحَدِهِمَا ، أَوِ اكْتِفَاؤُهُ بِكَوْنِهِ كَانَ أَتَمَّهُ قَبْلُ ، وَضَبَطَهُ الثِّقَةُ عَنْهُ ، فَنَقَلَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَا سَمِعَهُ ، وَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ حَضَرَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ ، أَوْ فَارَقَ قَبْلَ انْتِهَائِهِ ، أَوْ عَرَضَ لَهُ شَاغِلٌ مِنْ نَوْمٍ أَوْ فِكْرٍ أَوْ نَحْوِهِمَا .
وَالثَّالِثَ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ رَاوٍ تَامًّا ، وَمِنْ آخَرَ نَاقِصًا ، ثُمَّ حَدَّثَ بِهِ كُلَّ مَرَّةٍ عَنْ وَاحِدٍ ، أَوْ يَرْوِيَهُ بِدُونِهَا لِشَكٍّ أَوْ نِسْيَانٍ ثُمَّ يَتَيَقَّنَهَا أَوْ يَتَذَكَّرَهَا .
[2/33] وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي اسْتِدْلَالِهِ عَلَى قَبُولِهَا مِنْهُ نَفْسِهِ ، بِقَبُولِهِ إِذَا رَوَى حَدِيثًا مُثْبِتًا لِحُكْمٍ ، وَحَدِيثًا نَاسِخًا لَهُ مَا يُشْعِرُ بِالْقَبُولِ مَعَ التَّنَافِي ، فَتَصْرِيحُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ بِرَدِّهَا عند نَفَى الْبَاقِينَ ، وَابْنِ الصَّبَّاغِ بِأَنَّهُمَا كَالْخَبَرَيْنِ يُعْمَلُ بِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ - قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ التَّقْيِيدُ ، وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا تَبَعًا لِغَيْرِهِ ، فَاشْتَرَطَ لِقَبُولِهَا كَوْنَهَا غَيْرَ مُنَافِيَةٍ لِرِوَايَةِ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْ رَاوِيهَا .
وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ الْمَاضِي فِي الْمُرْسَلِ ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ فِي تَعَارُضِ الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ ، يُشِيرُ إِلَى عَدَمِ الْإِطْلَاقِ .
( وَقَدْ قَسَّمَهُ ) أَيْ : مَا يَنْفَرِدُ بِهِ الثِّقَةُ مِنَ الزِّيَادَةِ ( الشَّيْخُ ) ابْنُ الصَّلَاحِ ( فَقَالَ ) : حَسْبَمَا حَرَّرَهُ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ : قَدْ رَأَيْتُ تَقْسِيمَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ الثِّقَةُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : ( مَا انْفَرَدْ ) بِرِوَايَتِهِ ( دُونَ الثِّقَاتِ ) أَوْ ثِقَةٍ أَحْفَظَ ( ثِقَةٌ خَالَفَهُمْ ) أَوْ خَالَفَ الْوَاحِدُ الْأَحْفَظَ ( فِيهِ ) أَيْ : فِيمَا انْفَرَدَ بِهِ ( صَرِيحًا ) فِي الْمُخَالَفَةِ ; بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، وَيَلْزَمُ مِنْ قَبُولِهَا رَدُّ الْأُخْرَى ( فَهُوَ رَدٌّ ) أَيْ : مَرْدُودٌ ( عِنْدَهُمْ ) أَيِ : الْمُحَقِّقِينَ ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ . [ سيما وقد حصل الاتفاق على الأصل ]
( أَوْ لَمْ يُخَالِفْ ) فِيمَا انْفَرَدَ بِهِ مَا رَوَوْهُ أَوِ الْأَحْفَظَ أَصْلًا ( فَاقْبَلَنْهُ ) بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ ; لِأَنَّهُ جَازِمٌ بِمَا رَوَاهُ وَهُوَ ثِقَةٌ ، وَلَا مُعَارِضَ لِرِوَايَتِهِ ; إِذِ السَّاكِتُ عَنْهَا لَمْ يَنْفِهَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى ، وَلَا فِي سُكُوتِها دَلَالَةٌ عَلَى وَهْمِهَا ، بَلْ هِيَ كَالْحَدِيثِ الْمُسْتَقِلِّ الَّذِي تَفَرَّدَ بِجُمْلَتِهِ ثِقَةٌ ، وَلَا مُخَالَفَةَ فِيهِ أَصْلًا ، كَمَا سَبَقَ كُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فِي الشَّاذِّ .
[2/34] ( وَادَّعَى فِيهِ ) أَيْ : فِي قَبُولِ هَذَا الْقِسْمِ ( الْخَطِيبُ الِاتِّفَاقَ ) بَيْنَ الْعُلَمَاءِ حَالَ كَوْنِهِ ( مُجْمَعًا ) وَلَكِنَّ عَزْوَ حِكَايَةِ الِاتِّفَاقِ فِي مَسْأَلَتِنَا لَيْسَ صَرِيحًا فِي كَلَامِ الْخَطِيبِ ، فَعِبَارَتُهُ : ( وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ - أَيِ : الْقَوْلِ بِقَبُولِ الزِّيَادَةِ - أُمُورٌ :
أَحَدُهَا : اتِّفَاقُ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ الثِّقَةُ بِنَقْلِ حَدِيثٍ لَمْ يَنْقُلْهُ غَيْرُهُ وَجَبَ قَبُولُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ تَرْكُ الرُّوَاةِ لِنَقْلِهِ إِنْ كَانُوا عَرَفُوهُ وَذَهَابُهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ مُعَارِضًا لَهُ وَلَا قَادِحًا فِي عَدَالَةِ رَاوِيهِ ، وَلَا مُبْطِلًا لَهُ ، فَكَذَلِكَ سَبِيلُ الِانْفِرَادِ بِالزِّيَادَةِ ) .
( أَوْ خَالَفَ الْإِطْلَاقَ ) فَزَادَ لَفْظَةً مَعْنَوِيَّةً فِي حَدِيثٍ لَمْ يَذْكُرْهَا سَائِرُ مَنْ رَوَاهُ ( نَحْوُ : ( جُعِلَتْ تُرْبَةُ الْارْضِ ) بِالنَّقْلِ لَنَا ، طَهُورًا فِي حَدِيثِ : فُضِّلْتُ عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا " .
( فَهِي ) أَيْ : زِيَادَةُ التُّرْبَةِ ( فَرْدٌ نُقِلَتْ ) تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهَا أَبُو مَالِكٍ سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ الْأَشْجَعِيُّ ، عَنْ رِبْعِيٍّ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ ، وَكَذَا أَخْرَجَهَا ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ بِلَفْظِ ( التُّرَابُ ) ، وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ مِنْ غَيْرِ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ لَفْظُهَا : وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا .
[2/35] قَالَ : " فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ يُشْبِهُ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَامٌّ ، يَعْنِي لِشُمُولِهِ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ ، وَمَا رَوَاهُ الْمُنْفَرِدُ بِالزِّيَادَةِ مَخْصُوصٌ ، يَعْنِي بِالتُّرَابِ .
وَفِي ذَلِكَ مُغَايَرَةٌ فِي الصِّفَةِ ، وَنَوْعُ مُخَالَفَةٍ يَخْتَلِفُ بِهَا الْحُكْمُ ، وَيُشْبِهُ أَيْضًا الْقِسْمَ الثَّانِيَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا
( فَالشَّافِعِيْ ) بِالْإِسْكَانِ ، وَ( أَحْمَدُ احْتَجَّا بِذَا ) أَيْ : بِاللَّفْظِ الْمَزِيدِ هُنَا ; حَيْثُ خَصَّا التَّيَمُّمَ بِالتُّرَابِ .
وَكَذَا بِزِيَادَةِ " مِنَ الْمُسْلِمِينَ " فِي حَدِيثِ زَكَاةِ الْفِطْرِ ، الَّذِي شُوحِحَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي التَّمْثِيلِ بِهِ ، كَمَا صَرَّحَ بِاحْتِجَاجِهَما مَعَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ بِهَا فِيهِ [2/36] خَاصَّةً ، وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنِ التَّصْرِيحِ فِي هَذَا الْقِسْمِ بِحُكْمٍ ، حَتَّى قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله : كَذَا قَالَ - يَعْنِي ابْنَ الصَّلَاحِ - وَالصَّحِيحُ قَبُولُهُ .
وَأَمَّا شَيْخُنَا فَإِنَّهُ حَقَّقَ تَبَعًا لِلْعَلَائِيِّ أَنَّ الَّذِي يَجْرِي عَلَى قَوَاعِدِ الْمُحَدِّثِينَ ، أَنَّهُمْ لَا يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ مُطَّرِدٍ مِنَ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ ، بَلْ يُرَجِّحُونَ بِالْقَرَائِنِ كَمَا فِي تَعَارُضِ الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ ، فَهُمَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ .
كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ .
وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ فِيهِمَا سَوَاءٌ ، بَلْ قَالَ مَا مَعْنَاهُ : ( وَالْوَصْلُ وَالْإِرْسَالُ ) فِي تَعَارُضِهِمَا ( مِنْ ذَا ) أَيْ : مِنْ بَابِ زِيَادَات الثِّقَاتِ ( أُخِذَا ) ، فَالْوَصْلُ زِيَادَةُ ثِقَةٍ ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِرْسَالِ نَحْوُ مَا ذُكِرَ هُنَا فِي ثَالِثِ الْأَقْسَامِ ، وَبَيَانُهُ فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ وَاضِحٌ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِي : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، أَوْ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا يُوَافِقُ الْآخَرَ فِي كَوْنِهِ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( لَكِنَّ ) بِالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ ( فِي الْإِرْسَالِ ) فَقَطْ ( جَرْحًا ) فِي الْحَدِيثِ ( فَاقْتَضَى تَقْدِيمَهُ ) أَيْ : لِلْأَكْثَرِ مِنْ قَبِيلِ تَقْدِيمِ الْجَرْحِ عَلَى التَّعْدِيلِ ، يَعْنَى : فَافْتَرَقَا ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ غَيْرِهِ : الْإِرْسَالُ عِلَّةٌ فِي السَّنَدِ ، فَكَانَ وُجُودُهَا قَادِحًا فِي الْوَصْلِ ، وَلَيْسَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَتْنِ كَذَلِكَ .
وَلَكِنْ قَالَ شَيْخُنَا : إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لَا يَخْلُو مِنْ تَكَلُّفٍ وَتَعَسُّفٍ . انْتَهَى .
وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ بَانَ تَبَايُنُ مَأْخَذِ الْأَكْثَرِينَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، لِئَلَّا يَكُونَ تَنَاقُضًا ; حَيْثُ يَحْكِي الْخَطِيبُ هُنَاكَ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ تَرْجِيحَ الْإِرْسَالِ ، وَهُنَا عَنِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْفُقَهَاءِ ، وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ قَبُولَ الزِّيَادَةِ ، مَعَ أَنَّ الْوَصْلَ زِيَادَةُ ثِقَةٍ .
[2/37] وَإِلَى الِاسْتِشْكَالِ أَشَارَ ابْنُ الصَّلَاحِ هُنَا بَعْدَ الْحِكَايَةِ عَنِ الْخَطِيبِ بِقَوْلِهِ : وَقَدْ قَدَّمْنَا عنه - أَيْ : عَنِ الْخَطِيبِ - حِكَايَته عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ تَرْجِيحَ الْإِرْسَالِ ، ثُمَّ خَتَمَ الْبَابَ بِإِلْزَامِهِمْ مُقَابِلَهُ ; لِكَوْنِهِ رَجَّحَهُ هُنَاكَ .
فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ : ( وَرُدَّ ) أَيْ : تَقْدِيمُ الْإِرْسَالِ بِـ ( أَنَّ مُقْتَضَى هَذَا ) أَيِ : الَّذِي عَلَّلَ بِهِ تَقْدِيمَهُ ( قَبُولُ الْوَصْلِ ) أَيْضًا ( إِذْ فِيهِ ) أَيْ : فِي الْوَصْلِ ( وَفِي الْجَرْحِ عِلْمٌ زَائِدٌ لِلْمُقْتَفِي ) أَيْ : لِلْمُتَّبِعِ .
وَأَيْضًا فَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِ الْقَائِلِينَ بِتَرْجِيحِ الْإِرْسَالِ تَعْلِيلُهُ بِأَنَّ مَنْ أَرْسَلَ مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ .
وَالْحَقُّ أَنَّ الزِّيَادَةَ مَعَ الْوَاصِلِ ، وَأَنَّ الْإِرْسَالَ نَقْصٌ فِي الْحِفْظِ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنَ النِّسْيَانِ ، وَحِينَئِذٍ فَالْجَوَابُ عَنِ الْخَطِيبِ : أَنْ يُقَالَ : إِنَّ الْمَحْكِيَّ هُنَاكَ عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ خَاصَّةً ، وَهُوَ كَذَلِكَ .
وَأَمَّا هُنَا فَعَنِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ ، فَالْأَكْثَرِيَّةُ بِالنَّظَرِ لِلْمَجْمُوعِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اخْتِصَاصُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِالْأَكْثَرِيَّةِ .
تَتِمَّةٌ :
الزِّيَادَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ عَلَى صَحَابِيٍّ آخَرَ ، إِذَا صَحَّ السَّنَدُ مَقْبُولَةٌ بِالِاتِّفَاقِ .