فُرُوعٌ سَبْعَةٌ
حَسُنَ إِيرَادُهَا بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْ كُلٍّ مِنَ : الْمَرْفُوعِ وَالْمَوْقُوفِ .
أَحَدُهَا : وَقُدِّمَ عَلَى غَيْرِهِ ، مِمَّا يَصْدُرُ عَنِ الصَّحَابِيِّ لِقُرْبِهِ إِلَى الصَّرَاحَةِ ، ( قَوْلُ الصَّحَابِيِّ ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ( مِنَ السُّنَّةِ ) كَذَا ; كَقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : مِنَ السُّنَّةِ وَضْعُ الْكَفِّ عَلَى الْكَفِّ فِي الصَّلَاةِ تَحْتَ السُّرَّةِ .
( أَوْ نَحْوُ أُمِرْنَا ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ، كَأُمِرَ فُلَانٌ .
وَكُنَّا نُؤْمَرُ ، وَأُمِرَ بِلَا إِضَافَةٍ ، وَنُهِينَا ; كَقَوْلِ أُمِّ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - : أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ إِلَى الْعِيدَيْنِ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ ، وَأُمِرَ الْحُيَّضُ أَنْ يَعْتَزِلْنَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ .
وَ : نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا .
وَأُبِيحَ أَوْ رُخِّصَ لَنَا أَوْ حُرِّمَ أَوْ أُوجِبَ عَلَيْنَا ، كُلُّ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مَوْقُوفًا لَفْظًا ( حُكْمُهُ الرَّفْعُ وَلَوْ بَعْدَ ) وَفَاةِ ( النَّبِيِّ ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( قَالَهُ ) الصَّحَابِيُّ ( بِأَعْصُرٍ ) [1/195] فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ بَعْدَهُ بِيَسِيرٍ ، أَوْ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنَّهُ فِي الزَّمَنِ النَّبَوِيِّ فِي " أُمِرْنَا " أَبْعَدُ عَنِ الِاحْتِمَالِ فِيمَا يَظْهَرُ
.
وَيُسَاعِدُهُ تَصْرِيحُ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ بِقُوَّةِ الِاحْتِمَالِ " فِي السُّنَّةِ " ; لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الطَّرِيقَةِ ، وَسَوَاءٌ قَالَهُ فِي مَحَلِّ الِاحْتِجَاجِ أَمْ لَا ، تَأَمَّرَ عَلَيْهِ غَيْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ لَا ، كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا .
وَإِنْ لَمْ أَرَ تَصْرِيحَهُمْ بِهِ فِي الصَّغِيرِ ، فَهُوَ مُحْتَمِلٌ ، وَيُمْكِنُ إِخْرَاجُهُ مِنْ تَقْيِيدِ الْحَاكِمِ الصَّحَابِيَّ بِالْمَعْرُوفِ الصُّحْبَةِ ، وَكَذَا مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِهِ ، كَمَا سَيَأْتِي .
وَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ هُوَ : ( عَلَى الصَّحِيحِ ) عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ .
وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " فِي " بَابِ عَدَدِ كَفَنِ الْمَيِّتِ " بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ : وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقُولَانِ السُّنَّةَ إِلَّا سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
عَلَى أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ قَدْ جَزَمَ بِنَفْيِ الْخِلَافِ عَنْ أَهْلِ النَّقْلِ فِيهِمَا ، وَأَنَّهُ مُسْنَدٌ ، يَعْنِي : مَرْفُوعٌ ، وَكَذَا شَيْخُهُ الْحَاكِمُ ; حَيْثُ قَالَ فِي الْجَنَائِزِ مِنْ ( مُسْتَدْرَكِهِ ) : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ : مِنَ السُّنَّةِ كَذَا حَدِيثٌ مُسْنَدٌ .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ : أُمِرْنَا بِكَذَا أَوْ نُهِينَا عَنْ كَذَا ، أَوْ كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا ، أَوْ كُنَّا نَتَحَدَّثُ ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ خِلَافًا فِيهِ أَنَّهُ [1/196] مُسْنَدٌ
، وَمِمَّنْ حَكَى الِاتِّفَاقَ - أَيْضًا - لَكِنْ فِي السُّنَّةِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ .
وَالْحَقُّ ثُبُوتُ الْخِلَافِ فِيهِمَا ، نَعَمْ . قَيَّدَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ مَحَلَّ الْخِلَافِ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ يَحْتَمِلُ التَّرَدُّدَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ ، أَمَّا إِذَا كَانَ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ ; كَحَدِيثِ : " أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّفْعِ قَطْعًا .
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى خِلَافِ مَا حَكَيْنَاهُ فِيهِمَا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ صَاحِبُ الدَّلَائِلِ ، وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ .
[1/197] وَفِي السُّنَّةِ فَقَطِ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدَ قَوْلَيْهِ مِنَ الْجَدِيدِ ، كَمَا جَزَمَ الرَّافِعِيُّ بِحِكَايَتِهِمَا عَنْهُ ، وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ ، بَلْ حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانُ " عَنِ الْمُحَقِّقِينَ .
وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ ، وَابْنُ حَزْمٍ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ ، وَبَالَغَ فِي إِنْكَارِ الرَّفْعِ ; مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَلَيْسَ حَسْبَكُمْ سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، حَتَّى يَحُجَ عَامًا قَابِلًا فَيُهْدِيَ أَوْ يَصُومَ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا .
قَالَ : لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقَعْ مِنْهُ ؛ إِذْ صُدَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عُمَرَ ، بَلْ حَلَّ حَيْثُ كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةَ .
وَكَذَا مِنْ أَدِلَّتِهِمْ لِمَنْعِ الرَّفْعِ اسْتِلْزَامُهُ ثُبُوتَ سُنَّةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَمْرٍ مُحْتَمِلٍ ; إِذْ يَحْتَمِلُ إِرَادَةَ سُنَّةِ غَيْرِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ ، فَقَدْ سَمَّاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةً فِي قَوْلِهِ : " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ، أَوْ سُنَّةَ الْبَلَدِ ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ ، ونَحْوَ ذَلِكَ .
[1/198] وَنَحْوُهُ تَعْلِيلُ الْكَرْخِيِّ لِـ " أُمِرْنَا " بِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ كَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَوْ إِلَى أَمْرِ الْقُرْآنِ ، أَوِ الْأُمَّةِ ، أَوْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ ، أَوِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِنْبَاطِ ، وَسُوِّغَ إِضَافَتُهُ إِلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ ، يَعْنِي لِكَوْنِهِ صَاحِبَ الْأَمْرِ حَقِيقَةً ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِهِ مِنَ الشَّارِعِ .
قَالَ : وَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ تَمْنَعُ كَوْنَهُ مَرْفُوعًا .
وَفِي " أُمِرْنَا " فَقَطْ - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - فَرِيقٌ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ .
وَخَصَّ ابْنُ الْأَثِيرِ - كَمَا فِي مُقَدِّمَةِ جَامِعِ الْأُصُولِ لَهُ - نَفْيَ الْخِلَافِ فِيهَا بِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَاصَّةً ; إِذْ لَمْ يَتَأَمَّرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ غَيْرِهِ ، فَقَدْ تَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ ، فَطَرَقَهُ الِاحْتِمَالُ النَّاشِئُ عَنْهُ الِاخْتِلَافُ .
وَنَحْوُهُ قَوْلُ غَيْرِهِ فِي : أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ : إنَّهُ نَظَرَ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا تَأَمَّرَ عَلَيْهِ فِي الْأَذَانِ غَيْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَمَحَّضَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْآمِرَ ، وَيَتَأَيَّدُ بِالرِّوَايَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِذَلِكَ .
وَكَذَا قَالَ آخَرُ : يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ الِاخْتِلَافُ فِيهِمَا ، بِمَا إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الِاحْتِجَاجِ ، أَمَّا فِي مَحَلِّ الِاحْتِجَاجِ : فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ مِثْلَهُ ، فَلَا يُرِيدُ بِالسُّنَّةِ وَبِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَّا مَنْ لَهُ ذَلِكَ حَقِيقَةً ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّحِيحُ فِيهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ .
[1/199] ( وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ ) مِنَ الْعُلَمَاءِ ; إِذْ هُوَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنَ الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْلٌ ، وَسُنَّةَ غَيْرِهِ تَبَعٌ لِسُنَّتِهِ ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا يَنْصَرِفُ بِظَاهِرِهِ إِلَّا لِمَنْ هُوَ إِلَيْهِ ، وَهُوَ الشَّارِعُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَأَمْرُ غَيْرِهِ تَبَعٌ ، فَحَمْلُ كَلَامِهِمْ عَلَى الْأَصْلِ أَوْلَى ، خُصُوصًا وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَقْصُودَ الصَّحَابَةِ بَيَانُ الشَّرْعِ .
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي مُقَدِّمَةِ " جَامِعِ الْأُصُولِ " فِي " أُبِيحَ " وَمَا بَعْدَهَا : يَقْوَى فِي جَانِبِهِ أَن لا يَكُونَ مُضَافًا إِلَّا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ ، قَالَ : وَلَا يُقَالُ : أَوْجَبَ الْإِمَامُ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلٍ .
وَاسْتِدْلَالُ ابْنِ حَزْمٍ الْمَاضِي لِلْمَنْعِ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ - مَمْنُوعٌ بِأَنَّهُ لَا انْحِصَارَ لِمُسْتَنَدِهِ فِي الْفِعْلِ ، حَتَّى يُمْنَعَ إِرَادَةُ ابْنِ عُمَرَ بِالسُّنَّةِ الرَّفْعَ فِيمَنْ صُدَّ عَنِ الْحَجِّ مِمَّنْ هُوَ بِمَكَّةَ بِقِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّتِي صُدَّ فِيهَا عَنْ دُخُولِهَا ، بَلِ الدَّائِرَةُ أَوْسَعُ مِنَ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ أَوْ غَيْرِهِمَا ، وَيَتَأَيَّدُ بِإِضَافَتِهِ السُّنَّةَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَكَذَا مَا أَبْدَاهُ الْكَرْخِيُّ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ فِي الْمَنْعِ أَيْضًا بَعِيدٌ - كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا - " فَإِنَّ أَمْرَ الْكِتَابِ ظَاهِرٌ لِلْكُلِّ ، فَلَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْوَاحِدُ دُونَ غَيْرِهِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّنَزُّلِ فَهُوَ مَرْفُوعٌ ; لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ وَغَيْرَهُ إِنَّمَا تَلَقَّوْهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمْرُ الْأُمَّةِ لَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ مِنَ الْأُمَّةِ ، وَهُوَ لَا يَأْمُرُ نَفْسَهُ .
وَأَمْرُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ إِنْ أَرَادَ مِنَ الصَّحَابَةِ مُطْلَقًا فَبَعِيدٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بحُجَّة عَلَى غَيْرِهِ مِنْهُمْ ، وَإِنْ أَرَادَ مِنَ الْخُلَفَاءِ فَكَذَلِكَ ; لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ فِي مَقَامِ تَعْرِيفِ الشَّرْعِ بِهَذَا الْكَلَامِ وَالْفَتْوَى ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الشَّرْعُ .
وَبِالْجُمْلَةِ : فَهُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ لَا يَحْتَجُّونَ بِأَمْرِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ لَيْسَ مِنْ مُجْتَهِدِي الصَّحَابَةِ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِالْآمِرِ أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْهُمْ .
وَحَمْلُهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِنْبَاطِ بَعِيدٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ : " أُمِرْنَا بِكَذَا " يُفْهَمُ مِنْهُ : حَقِيقَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، لَا خُصُوصُ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْقِيَاسِ .
[1/200] وَمَا قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الصِّدِّيقِ ، فَهُوَ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا وَغَيْرُهُ - مَقْبُولٌ ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي غَزْوَةِ " ذَاتِ السَّلَاسِلِ " عَلَى جَيْشٍ فِيهِ الشَّيْخَانِ ، أَرْسَلَ بِهِمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَدَدٍ ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِ أَبَا عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحَ ، فَلَمَّا قَدِمَ بِهِمْ عَلَى عَمْرٍو صَارَ الْأَمِيرَ .
بَلْ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَمِيرَ سَرِيَّةِ " الْخَبَطِ " عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، فِيهِمْ عُمَرُ ، وَأَظُنُّ أَبَا بَكْرٍ أَيْضًا .
وَكَذَا تَأَمَّرَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَلَى جَيْشٍ هُمَا فِيهِ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَخَلْقٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَتُوُفِّيَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ خُرُوجِهِ ، فَأَنْفَذَهُ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ أَنِ اسْتُخْلِفَ ; امْتِثَالًا لِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقِيلَ : إِنَّ أَبَا بَكْرٍ سَأَلَ أُسَامَةَ أَنْ يَأْذَنَ لِعُمَرَ فِي الْإِقَامَةِ ، فَأَذِنَ لَهُ ، وَفِي شَرْحِهَا طُولٌ .
وَبِالْجُمْلَةِ : فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ كُلًّا مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَعَمْرٍو وَأُسَامَةَ تَأَمَّرَ عَلَيْهِمَا ، وَصَارَ ذَلِكَ أَحَدَ الْأَدِلَّةِ فِي وِلَايَةِ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ أَوْ بِحَضْرَتِهِ ، فَطُرُوقُ الِاحْتِمَالِ فِيهِ بَعِيدٌ جِدًّا .
وَمَا قِيلَ فِي بِلَالٍ لَيْسَ بِمُتَّفَقٍ عَلَيْهِ ، فَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ أَذَّنَ لِأَبِي بَكْرٍ مُدَّةَ خِلَافَتِهِ ، وَلَمْ يُؤَذِّنْ لِعُمَرَ ، [ وعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ [1/201] الْمُسَيَّبِ ; أَنَّ بِلَالًا لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الشَّامِ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : تَكُونُ عِنْدِي ، قَالَ : إِنْ كُنْتَ أَعْتَقْتَنِي لِنَفْسِكَ فَاحْبِسْنِي ، وَإِنْ كُنْتَ أَعْتَقْتَنِي لِلَّهِ فَذَرْنِي ، فَذَهَبَ إِلَى الشَّامِ ، فَكَانَ بِهَا حَتَّى مَاتَ ، وَهُوَ أَصَحُّ مِمَّا قَبْلَهُ .
نعم هُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ مَالِكٍ : لَمْ يُؤَذِّنْ لِغَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِوَى مَرَّةٍ لِعُمَرَ حِينَ دَخَلَ الشَّامَ ، فَبَكَى النَّاسُ بُكَاءً شَدِيدًا .
وَمِنْ أَدِلَّةِ الْأَكْثَرِينَ سِوَى مَا تَقَدَّمَ : مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّ الْحَجَّاجَ عَامَ نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - : كَيْفَ تصْنَعُ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ ؟
فَقَالَ سَالِمٌ : إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ ، فَهَجِّرْ بِالصَّلَاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : صَدَقَ ، إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السُّنَّةِ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَقُلْتُ لِسَالِمٍ : أَفَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ فَقَالَ : وَهَلْ يَتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ إِلَّا سُنَّتَهُ . انْتَهَى .
وَكُلُّ مَا سَلَفَ فِيمَا إِذَا لَمْ يُضِفِ السُّنَّةَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَلَوْ أَضَافَهَا - كَقَوْلِ عُمَرَ لِلصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ : هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَمُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ [1/202] السَّابِقِ الرَّفْعُ ، بَلْ أَوْلَى ، وَابْنُ حَزْمٍ يُخَالِفُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
بَلْ نَقَلَ أَبُو الْحُسَيْنِ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ مَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَجَزَمَ الْبُلْقِينِيُّ فِي مَحَاسِنِهِ بِأَنَّهَا عَلَى مَرَاتِبَ فِي احْتِمَالِ الْوَقْفِ قُرْبًا وَبُعْدًا ، فَأَرْفَعُهَا مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ، وَدُونَهَا قَوْلُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : " لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ كَذَا " ، وَدُونَهَا قَوْلُ عُمَرَ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ : " أَصَبْتَ السُّنَّةَ " ; إِذِ الْأَوَّلُ أَبْعَدُ احْتِمَالًا ، وَالثَّانِي أَقْرَبُ احْتِمَالًا ، وَالثَّالِثُ لَا إِضَافَةَ فِيهِ . انْتَهَى .
وَقَالَ غَيْرُهُ فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : الصَّوَابُ فِيهِ لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا دِينَنَا . مَوْقُوفٌ ; فَدَلَّ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ مَرْفُوعٌ .
أَمَّا إِذَا صَرَّحَ بِالْآمِرِ ; كَقَوْلِهِ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا ، أَوْ سَمِعْتُهُ يَأْمُرُ بِكَذَا ، فَهُوَ مَرْفُوعٌ بِلَا خِلَافٍ ; لِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ السَّابِقِ .
[1/203] لَكِنْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ ، وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعِدَّةِ " عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ - : أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً حَتَّى يُنْقَلَ لَفْظُهُ ; لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي صِيَغِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ صِيغَةً ظَنَّهَا أَمْرًا أَوْ نَهْيًا ، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ .
وَقَالَ الشَّارِحُ : إِنَّهُ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ ، ثُمَّ وَجَّهَهُ بِمَا لَهُ وَجْهٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَوَجَّهَهُ غَيْرُهُ بِجَوَازِ أَنَّ نَحْوَ هَذَا مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى ، وَهُمْ مِمَّنْ لَا يُجَوِّزُهَا .
وَأَمَّا شَيْخُنَا فَرَدَّهُ أَصْلَا فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ ; حَيْثُ قَالَ : وَأُجِيبُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الصَّحَابِيِّ مَعَ عَدَالَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِأَوْضَاعِ اللُّغَةِ - أَنَّهُ لَا يُطْلِقُ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ ، مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ، نَفْيًا لِلتَّلْبِيسِ عَنْهُ بنقل مَا يُوجِبُ عَلَى سَامِعِهِ اعْتِقَادَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِيمَا لَيْسَ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا .
[1/204] تَتِمَّةٌ :
قَوْلُ الصَّحَابِيِّ : إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَا أَشْبَهه ، كَـ " لَأُقَرِّبَنَّ لَكُمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " - كُلُّهُ مَرْفُوعٌ .
وَهَلْ يَلْتَحِقُ التَّابِعِيُّ بِالصَّحَابِيِّ فِي " مِنَ السُّنَّةِ " أَوْ " أُمِرْنَا " ؟ سَيَأْتِي فِي خَامِسِ الْفُرُوعِ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أُمِرْتُ " هُوَ كَقَوْلِهِ : " أَمَرَنِي اللَّهُ " ; لِأَنَّهُ لَا آمِرَ لَهُ إِلَّا اللَّهُ ، كَمَا سَيَأْتِي نَظِيرُهُ فِي " يَرْفَعُهُ " ، وَ " يَرْوِيهِ " .
وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ ، فَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى ، يَقُولُونَ : يَثْرِبُ " وَمِنْ غَيْرِهِ : أُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْمَانَنَا عَلَى شَمَائِلِنَا فِي الصَّلَاةِ .
[1/205] وَالْحَاصِلُ : أَنَّ مَنِ اشْتُهِرَ بِطَاعَةِ كَبِيرٍ إِذَا قَالَ ذَلِكَ ، فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْآمِرَ لَهُ هُوَ ذَلِكَ الْكَبِيرُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .