[3/143] الْفَصْلُ الْخَامِسُ
( التَّسْمِيعُ ) مِنَ الشَّيْخِ ( بِقِرَاءَةِ اللَّحَّانِ وَالْمُصَحِّفِ ) ، وَالْحَثُّ عَلَى الْأَخْذِ مِنْ أَفْوَاهِ الشُّيُوخِ

( وَلْيَحْذَرِ ) الشَّيْخُ الطَّالِبَ ( اللَّحَّانَ ) بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ ، أَيِ : الْكَثِيرَ اللَّحْنِ فِي أَلْفَاظِ النُّبُوَّةِ .
وَكَذَا لِيَحْذَرِ ( الْمُصَحِّفَا ) فِيهَا ، وَفِي أَسْمَاءِ الرُّوَاةِ ، وَلَوْ كَانَ لَا يَلْحِنُ ( عَلَى حَدِيثِهِ بِأَنْ يُحَرِّفَا ) أَيْ : خَوْفَ التَّحْرِيفِ فِي حَرَكَاتِهِ أَوْ ضَبْطِهِ ( مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ) فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ ؛ ( فَيُدْخِلَا ) أَيِ : الشَّيْخُ ، وَكَذَا الطَّالِبُ مِنْ بَابِ أَوْلَى ( فِي ) جُمْلَةِ ( قَوْلِهِ ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَنْ كَذَبَا ) أَيْ : ( كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ .
قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ : جَاءَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَنِ الْأَصْلِ مُعْرَبَةً ، ويَتَأَكَّدُ الْوَعِيدُ مَعَ اخْتِلَالِ الْمَعْنَى فِي اللَّحْنِ وَالتَّصْحِيفِ .
وَإِلَى الدُّخُولِ أَشَارَ الْأَصْمَعِيُّ ، فَقَالَ أَبُو دَاوُدَ السِّنْجِيُّ : سَمِعْتُ الْأَصْمَعِيَّ يَقُولُ : إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ [3/144] النَّحْوَ أَنْ يَدْخُلَ فِي جُمْلَةِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ ) . لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ ، فَمَهْمَا رَوَيْتَ عَنْهُ وَلَحَنْتَ فِيهِ فَقَدْ كَذَبْتَ عَلَيْهِ .
وَعَنْ سَالِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ هُبَيْرَةَ الْأَكْبَرِ ، فَجَرَى ذِكْرُ الْعَرَبِيَّةِ ؛ فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا اسْتَوَى رَجُلَانِ دِينُهُمَا وَاحِدٌ ، وَحَسَبُهُمَا وَاحِدٌ ، وَمُرُوءَتُهُمَا وَاحِدَةٌ ، أَحَدُهُمَا يَلْحَنُ وَالْآخَرُ لَا يَلْحَنُ ؛ لِأَنَّ أَفْضَلَهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الَّذِي لَا يَلْحِنُ .
فَقُلْتُ : أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ ، هَذَا أَفْضَلُ فِي الدُّنْيَا لِفَضْلِ فَصَاحَتِهِ وَعَرَبِيَّتِهِ ، أَرَأَيْتَ الْآخِرَةَ مَا بَا لُهُ أَفْضَلُ فِيهَا ؟ قَالَ : إِنَّهُ يَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ عَلَى مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ ، وَإِنَّ الَّذِي يَلْحِنُ يَحْمِلُهُ لَحْنُهُ عَلَى أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، وَيُخْرِجَ مَا هُوَ فِيهِ . فَقُلْتُ : صَدَقَ الْأَمِيرُ وَبَرَّ .
وَعَنْ أَبِي سَلمَةَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ لِإِنْسَانٍ : إِنْ لَحَنْتَ فِي حَدِيثِي فَقَدْ كَذَبْتَ عَلَيَّ ، فَإِنِّي لَا أَلْحَنُ . وَصَدَقَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ كَانَ مُقَدَّمًا فِي ذَلِكَ ، بِحَيْثُ إِنَّ سِيبَوَيْهِ شَكَى إِلَى الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ فِي رَجُلٍ رَعُفَ ، - يَعْنِي بِضَمِ الْعَيْنِ عَلَى لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ - فَانْتَهَرَهُ ، وَقَالَ لَهُ : أَخْطَأْتَ ، إِنَّمَا هُوَ رَعَفَ - بِفَتْحِهَا - ؛ فَقَالَ لَهُ الْخَلِيلُ : صَدَقَ ، أَتَلْقَى بِهَذَا الْكَلَامِ أَبَا سَلمَةَ ؟
وَهُوَ مِمَّا ذُكِرَ فِي سَبَبِ تَعَلُّمِ سِيبَوَيْهِ الْعَرَبِيَّةَ ، وَيُقَالُ : إِنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ أَيْضًا كَانَتْ سَبَبًا لِتَعَلُّمِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ أَحَدِ التَّابِعِينَ مِنْ شُيُوخِ حَمَّادٍ هَذَا [3/145] لَهَا .
كَمَا رُوِّينَا فِي ( الْعِلْمِ ) لِلْمَوْهِبِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ ؛ قَالَ : سَأَلَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ ؛ فَقَالَ : يَا أَبَا سَعِيدٍ ، مَا تَقُولُ فِي " رَعُفَ " ؟ فَقَالَ : وَمَا " رَعُفَ " ؟ أَتَعْجِزُ أَنْ تَقُولَ : رَعَفَ ؟ فَاسْتَحَيى ثَابِتٌ وَطَلَبَ الْعَرَبِيَّةِ حَتَّى قِيلَ لَهُ مِنَ انْهِمَاكِهِ فِيهَا : ثَابِتٌ الْعَرَبِيُّ .
وَكَذَا كَانَ سَبَبُ اشْتِغَالِ أَبِي زَيْدٍ النَّحْوِيِّ بِهِ لَفْظَةً ، فَإِنَّهُ دَخَلَ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ ؛ فَقَالَ لَهُ : ادْنُهْ . فَقَالَ : أَنَا دَنِيٌّ . فَقَالَ : يَا بُنَيَّ ، لَا تَقُلْ : أَنَا دَنِيٌّ . وَلَكِنْ قُلْ : أَنَا دَاني .
وَأَدخل بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الدُّخُولِ فِي الْوَعِيدِ مَنْ قَرَأَ الْحَدِيثَ بِالْأَلْحَانِ وَالتَّرْجِيعِ الْبَاعِثِ عَلَى إِشْبَاعِ الْحَرْوفِ الْمُكْسِبِ لِلَّفْظِ سَمَاجَةً وَرَكَاكَةً ، فَسَيِّدُ الْفُصَحَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ .
وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِشَخْصٍ كَانَ يُطَرِّبُ فِي أَذَانِهِ : إِنِّي أُبْغِضُكَ فِي اللَّهِ .