( وَطَلَبُ الْعُلُوِّ ) الَّذِي هُوَ قِلَّةُ الْوَسَائِطِ فِي السَّنَدِ أَوْ قِدَمُ سَمَاعِ الرَّاوِي أَوْ وَفَاتِهِ ( سُنَّةٌ ) عَمَّنْ سَلَفَ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، بَلْ قَالَ الْحَاكِمُ : إِنَّهُ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ ، مُتَمَسِّكًا فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي مَجِيءِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْمَعَ مِنْهُ مُشَافَهَةً مَا سَلَفَ سَمَاعُهُ لَهُ مِنْ رَسُولِهِ إِلَيْهِمْ ؛ إِذْ لَوْ كَانَ الْعُلُوُّ غَيْرَ مُسْتَحَبٍّ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُؤَالَهُ عَمَّا أَخْبَرَهُ بِهِ رَسُولُهُ عَنْهُ ، وَتَرْكَ اقْتِصَارِهِ عَلَى خَبَرِهِ لَهُ .
وَلَكِنْ إِنَّمَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ عَلَى اخْتِيَارِ الْبُخَارِيِّ فِي أَنَّ قَوْلَ ضِمَامٍ : ( آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ ) إِخْبَارٌ ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ عِيَاضٌ ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : إِنَّهُ حَضَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ مُسْتَثْبِتًا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ : ( فَإِنَّ رَسُولَكَ زَعَمَ ) ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ : ( أَتَتْنَا كُتُبُكَ ، وَأَتَتْنَا رُسُلُكَ ) .
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ : ( آمَنْتُ ) إِنْشَاءٌ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ أَبِي دَاوُدَ حَيْثُ ذَكَرَهُ فِي بَابٍ مَا جَاءَ فِي الْمُشْرِكِ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ ، وَرَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ [3/347] مُتَمَسِّكًا فِيهِ بِقَوْلِهِ : ( زَعَمَ ) ؛ فَإِنَّ الزَّعْمَ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يُوثَقُ بِهِ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ وَغَيْرُهُ ، فَلَا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ إِنَّمَا يَكُونُ مَجِيئُهُ وَهُوَ شَاكٌّ لِكَوْنِهِ لَمْ يُصَدِّقْهُ ، وَأَرْسَلَهُ قَوْمُهُ لِيَسْأَلَ لَهُمْ .
قَالَ شَيْخُنَا : ( وَفِيهِ نَظَرٌ ، أَمَّا أَوَّلًا : فَالزَّعْمُ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ كَمَا نَقَلَهُ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ فِي شَرْحِ فَصِيحِ شَيْخِهِ ثَعْلَبٍ ، وَأَكْثَرَ سِيبَوَيْهَ مِنْ قَوْلِهِ : زَعَمَ الْخَلِيلُ فِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا : فَلَوْ كَانَ إِنْشَاءً لَكَانَ طَلَبَ مُعْجِزَةً تُوجِبُ لَهُ التَّصْدِيقَ ، عَلَى أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ إِيمَانِ الْمُقَلِّدِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ مُعْجِزَةٌ
)
، وَكَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ .
وَبِالْجُمْلَةِ ، فَطَرَقَهُ الِاحْتِمَالُ ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ ضِمَامٌ قَصَدَ الْعُلُوَّ ، ونَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي كَوْنِهِ قَصَدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي بَاقِي الْخَبَرِ : ( وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي ) . وَعَلَى تَقْدِيرِ تَحَتُّمِ قَصْدِ الْعُلُوِّ فَعَدَمُ الْإِنْكَارِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ جَائِزًا ، وَلَكِنْ قَدِ اسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ لَمَّا رَآهُ كَمَا فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِهِ فِي الْجَسَّاسَةِ : ( يَا تَمِيمُ ، حَدِّثِ النَّاسَ بِمَا حَدَّثْتَنِي ) . وَبِقَوْلِهِ أَيْضًا : ( خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ) الْحَدِيثَ ؛ فَإِنَّ الْعُلُوَّ بقَرِّبُهُ مِنَ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ .
[3/348] وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : مَنْ أَدْرَكَ إِسْنَادًا عَالِيًا فِي الصِّغَرِ رَجَا عِنْدَ الشَّيْخُوخَةِ وَالْكِبَرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَرْنٍ أَفْضَلَ مِنَ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَالَّذِي بَعْدَهُ وَيَلِيهِ .
وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ الطُّوسِيِّ : قُرْبُ الْإِسْنَادِ قُرَبٌ ، أَوْ قَالَ : قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ فَإِنَّ الْقُرْبَ مِنَ الرَّسُولِ بِلَا شَكٍّ قُرْبٌ إِلَى اللَّهِ .
وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي حَفْصِ ابْنِ شَاهِينَ فِي جُزْءِ ( مَا قَرُبَ سَنَدُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) مِنْ تَخْرِيجِهِ : نَرْجُو بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنْ نَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ) .
ثُمَّ أَسْنَدَ إِلَى زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى قَالَ : الْقَرْنُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ عَامًا . قُلْتُ : وَهَذَا أَقْصَى مَا قِيلَ فِي تَحْدِيدِهِ ، وَلَكِنَّ أَشْهَرَهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَرْنَ مِائَةٌ .
وَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ لِلْعُلُوِّ أَيْضًا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَخْبَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ عَنْ رُؤْيَتِهِ فِي الْمَنَامِ الْأَذَانَ ، وَأَعْلَمَهُ بِأَلْفَاظِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ ، قَالَ لَهُ : ( أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ ) ، وَلَمْ يُلْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ .
[3/349] وَبِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ سَمِعَ عَنْ عَائِشَةَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ : ( لَوْ كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَيْهَا لَدَخَلْتُ حَتَّى تُشَافِهَنِي بِهِ ) .
وَكَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ لَهُ اسْتِحْبَابُ الرِّحْلَةِ ؛ إِذْ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى النَّازِلِ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - إِبْطَالٌ لَهَا وَتَرْكُهَا ، وَقَدْ رَحَلَ خَلْقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا إِلَى الْأَقْطَارِ الْبَعِيدَةِ طَلَبًا لِلْعُلُوِّ كَمَا قَدَّمْنَا .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : ( وَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ يَرْحَلُونَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْ عُمَرَ وَيَسْمَعُونَ مِنْهُ ) .
وَهَذَا كُلُّهُ شَاهِدٌ لِتَفْضِيلِ الْعُلُوِّ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ ، بَلْ لَمْ يَحْكِ الْحَاكِمُ خِلَافَهُ ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُكْتَفَى بِسَمَاعِ النَّازِلِ مَعَ وُجُودِ الْعَالِي ، وَقَدْ حَكَى الْخَطِيبُ فِي الِاكْتِفَاءِ وَعَدَمِهِ مَذْهَبَيْنِ ، وَذَكَرَ مِنْ أَدِلَّةِ الْأَوَّلِ قَوْلَ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( لَيْسَ كُلُّنَا كَانَ يَسْمَعُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَانَتْ لَنَا ضِيَاعٌ وَأَشْغَالٌ ، وَلَكِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَكْذِبُونَ يَوْمَئِذٍ ، فَيُحَدِّثُ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ) .
وَقَوْلَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ : كُنَّا نَكُونُ فِي مَجْلِسِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ فَنَسْمَعُ رَجُلًا يُحَدِّثُ عَنْ أَيُّوبَ فَنَكْتُبُهُ مِنْهُ ، وَلَا نَسْأَلُ مَنْ أَيُّوبُ عنه . وَمَيَّلَ أَحْمَدُ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِهِ حَيْثُ فَوَّتَ بِالِاشْتِغَالِ بِالْعُلُوِّ مَنْ يَسْتَرْشِدُ بِهِ لِلِاسْتِنْبَاطِ وَنَحْوِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ لِابْنِ مَعِينٍ : إِنْ فَاتَكَ حَدِيثٌ بِعُلُوٍّ وَجَدْتَهُ بِنُزُولٍ ، وَإِنْ فَاتَكَ عَقْلُ هَذَا الْفَتَى - وَعَنَى إِمَامَنَا الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَوْشَكَ أَنْ لَا تَرَاهُ .