[8/2] بسم الله الرحمن الرحيم
( كتاب الجنائز )


أي هذا كتاب في بيان أحكام الجنائز ، كذا وقع للأصيلي وأبي الوقت ، ووقع لكريمة : " باب الجنائز " ، وكذا وقع لأبي ذر ، ولكن بحذف لفظة : " باب " ، والجنائز جمع جنازة ، وهي بفتح الجيم اسم للميت المحمول ، وبكسرها اسم للنعش الذي يحمل عليه الميت . ويقال عكس ذلك - حكاه صاحب ( المطالع ) ، واشتقاقها من جنز إذا ستر ذكره ابن فارس وغيره ، ومضارعه : يجنز بكسر النون ، وقال الجوهري : الجنازة واحدة الجنائز ، والعامة تقول : الجنازة بالفتح ، والمعنى للميت على السرير ، فإذا لم يكن عليه الميت فهو سرير ونعش . قيل : أورد المصنف كتاب الجنائز بين الصلاة والزكاة ؛ لأن الذي يفعل بالميت من غسل وتكفين وغير ذلك أهمه الصلاة عليه ؛ لما فيها من فائدة الدعاء بالنجاة من العذاب ، ولا سيما عذاب القبر الذي يدفن فيه . انتهى .
( قلت ) : للإنسان حالتان حالة الحياة وحالة الممات ، ويتعلق بكل منهما أحكام العبادات وأحكام المعاملات ؛ فمن العبادات الصلاة المتعلقة بالأحياء . ولما فرغ من بيان ذلك شرع في بيان الصلاة المتعلقة بالموتى .
( ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله ) .

هذا من الترجمة ، وفي غالب النسخ : " باب من كان آخر كلامه لا إله إلا الله " ، أي هذا باب في بيان حال من كان آخر كلامه عند خروجه من الدنيا : " لا إله إلا الله " ، ولم يذكر جواب من ، وهو في الحديث مذكور ، وهو لفظ ( دخل الجنة ). وقد رواه أبو داود عن مالك بن عبد الواحد المسمعي ، عن الضحاك بن مخلد ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن صالح بن أبي عريب ، عن كثير بن مرة الحضرمي ، عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، وروى أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اعلم أن من شهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة " ، وفي مسند مسدد عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا معاذ ، قال : لبيك يا رسول الله - قالها ثلاثا ، قال : بشر الناس أنه من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة "، وروى أبو يعلى في مسنده عن أبي حرب بن زيد بن خالد الجهني ، قال : أشهد على أبي أنه قال : " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أنه من شهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة " ، وقال الكرماني : قوله : لا إله إلا الله ، أي هذه الكلمة ، والمراد هي وضميمتها محمد رسول الله .
( قلت ) : ظاهر الحديث في حق المشرك ، فإنه إذا قال : لا إله إلا الله يحكم بإسلامه ، فإذا استمر على ذلك إلى أن مات دخل الجنة ، وأما الموحد من الذين ينكرون نبوة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو يدعي أنه مبعوث للعرب خاصة ، فإنه لا يحكم بإسلامه بمجرد قوله : لا إله إلا الله ، فلا بد من ضميمة [8/3] محمد رسول الله على أن جمهور علمائنا شرطوا في صحة إسلامه بعد التلفظ بالشهادتين أن يقول : تبرأت عن كل دين سوى دين الإسلام ، ومراد البخاري من هذه الترجمة أن من قال : لا إله إلا الله من أهل الشرك ومات لا يشرك بالله شيئا ، فإنه يدخل الجنة ، والدليل على ذلك حديث الباب على ما نذكر ما قالوا فيه . وقيل : يحتمل أن يكون مراد البخاري الإشارة إلى من قال : لا إله إلا الله عند الموت مخلصا كان ذلك مسقطا لما تقدم له ، والإخلاص يستلزم التوبة والندم ، ويكون النطق علما على ذلك .
قلت : يلزم مما قاله أن من قال : لا إله إلا الله ، واستمر عليه ، ولكنه عند الموت لم يذكره ، ولم يدخل تحت هذا الوعد الصادق والشرط أن يقول : لا إله إلا الله واستمر عليه - فإنه يدخل الجنة ، وإن لم يذكره عند الموت ؛ لأنه لا فرق بين الإسلام النطقي وبين الحكمي المستصحب ، وأما أنه إذا عمل أعمالا سيئة فهو في سعة رحمة الله تعالى مع مشيئته ، فإن قلت : لم حذف البخاري جواب " من " من الترجمة مع أن لفظ الحديث : " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " ؟ . قلت : قيل : مراعاة لتأويل وهب بن منبه ؛ لأنه لما قيل له : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ قال : بلى ، ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان إلى آخره ، فكأنه أشار بهذا إلى أنه لا بد له من الطاعات ، وأن بمجرد القول به بدون الطاعات لا يدخل الجنة ، فظن هذا القائل أن رأي البخاري في هذا مثل رأي وهب ، فلذلك حذف لفظ دخل الجنة الذي هو جواب "من" . قلت : الذي يظهر أن حذفه إنما كان اكتفاء بما ذكر في حديث الباب ، فإنه صرح بأن من مات ، ولم يشرك بالله شيئا ، فإنه يدخل الجنة ، وإن ارتكب الذنبين العظيمين المذكورين فيه مع أن الداودي قال : قول وهب محمول على التشديد ، أو لعله لم يبلغه حديث أبي ذر ، وهو حديث الباب .
( وقيل لوهب بن منبه : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ قال : بلى ، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان ، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك ، وإلا لم يفتح لك ) .

وهب بن منبه مر في كتاب العلم ، وهذا القول وقع في حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكره البيهقي عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن : " إنك ستأتي أهل كتاب يسألونك عن مفتاح الجنة ، فقل : شهادة أن لا إله إلا الله ، ولكن مفتاح بلا أسنان ، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك ، وإلا لم يفتح لك " .
وذكر أبو نعيم الأصفهاني في كتابه أحوال الموحدين أن أسنان هذا المفتاح هي الطاعات الواجبة من القيام بطاعة الله تعالى وتأديتها والمفارقة لمعاصي الله تعالى ومجانبتها . قلت : قد ذكرنا أحاديث فيما مضى تدل على أن قائل لا إله إلا الله يدخل الجنة ، وليست مقيدة بشيء غاية ما في الباب جاء في حديث آخر أن هذه الكلمة مفتاح الجنة ، والظاهر أن قيد المفتاح بالأسنان مدرج في الحديث ، وذكر المفتاح ليس على الحقيقة ، وإنما هو كناية عن التمكن من الدخول عند هذا القول ، وليس المراد منه المفتاح الحقيقي الذي له أسنان ولا يفتح إلا بها ، وإذا قلنا : المراد من الأسنان الطاعات يلزم من ذلك أن من قال : لا إله إلا الله واستمر على ذلك إلى أن من مات ، ولم يعمل بطاعة - أنه لا يدخل الجنة ، وهو مذهب الرافضة والإباضية وأكثر الخوارج ؛ فإنهم يقولون : إن أصحاب الكبائر والمذنبين من المؤمنين يخلدون في النار بذنوبهم ، والقرآن ناطق بتكذيبهم ؛ قال الله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وحديث الباب أيضا يكذبهم ، وفي صحيح مسلم من حديث عثمان مرفوعا : " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة "
1 - حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا مهدي بن ميمون ، قال : حدثنا واصل الأحدب ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني آت من ربي فأخبرني ، أو قال : بشرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة . قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق .

مطابقته للترجمة من حيث إن الحديث يدل على أن من مات ، ولم يشرك بالله شيئا ، فإنه يدخل الجنة ، وهو معنى قوله [8/4] في الترجمة : " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله " ، فإن ترك الإشراك هو التوحيد ، والقول بلا إله إلا الله هو التوحيد بعينه .
ذكر رجاله .
وهم خمسة : الأول : موسى بن إسماعيل أبو سلمة المنقري ، يقال له : التبوذكي ، وقد مر غير مرة . الثاني : مهدي بفتح الميم ابن ميمون المعولي الأزدي . مر في باب : إذا لم يتم السجود . الثالث : واصل اسم فاعل من الوصول ابن حيان ، بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف ، وقد تقدم في باب المعاصي من أمر الجاهلية في كتاب الإيمان . الرابع : المعرور - بفتح الميم وسكون العين المهملة وبالراء المكررة - ابن سويد بضم السين المهملة وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف ، وفي آخره دال مهملة ، وقد تقدم أيضا في الباب المذكور . الخامس : أبو ذر اسمه جندب بن جنادة ، وقد تكرر ذكره
ذكر لطائف إسناده :
فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع ، وفيه العنعنة في موضعين ، وفيه القول في ثلاثة مواضع ، وفيه أن شيخه ومهديا بصريان ، وواصل ومعرور كوفيان ، وفيه واصل مذكور بلا نسبة ، وقد ذكر بلقبه الأحدب ضد الأقعس .
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره :
أخرجه البخاري أيضا في التوحيد ، عن بندار ، عن غندر ، عن شعبة . وأخرجه مسلم في الإيمان ، عن أبي موسى وبندار ، كلاهما عن غندر به . وأخرجه النسائي في اليوم والليلة عن بندار به ، وعن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الله بن بكر ، عن مهدي بن ميمون . وأخرجه الترمذي فقال : حدثنا محمود بن غيلان ، قال : حدثنا أبو داود قال : أخبرنا شعبة ، عن حبيب بن أبي ثابت ، وعبد العزيز بن رفيع والأعمش كلهم سمعوا زيد بن وهب ، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام ، فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة . قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : نعم " . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وفي الباب عن أبي الدرداء . قلت : روى حديث أبي الدرداء مسدد في مسنده : حدثنا يحيى ، حدثنا نعيم بن حكيم ، حدثني أبو مريم ، سمعت أبا الدرداء يحدث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ما من رجل يشهد أن لا إله إلا الله ومات لا يشرك بالله شيئا إلا دخل الجنة ، أو لم يدخل النار . قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق ، ورغم أنف أبي الدرداء " . ورواه أبو يعلى ، حدثنا أبو عبد الله المقري ، حدثنا يحيى . فذكره ، ورواه أحمد أيضا في مسنده . قلت : يحيى هو القطان ، ونعيم بن حكيم وثقه ابن معين والعجلي ، وذكره ابن حبان في الثقات ؟، وأبو مريم الثقفي قاضي البصرة ذكره ابن حبان في الثقات .
ذكر معناه
قوله : " أتاني آت من ربي " ، والمراد به جبريل عليه الصلاة والسلام ، وفسره به في التوحيد من طريق شعبة ، وكان هذا في رؤيا منام ، والدليل عليه ما رواه البخاري في اللباس من طريق أبي الأسود عن أبي ذر ، قال : " أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم ثم انتبه ، وقد استيقظ " ورواه الإسماعيلي من طريق مهدي في أول قصة : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير له ، فلما كان في بعض الليل تنحى فلبث طويلا ثم أتانا " فذكر الحديث .
قوله : " وإن زنى وإن سرق " حرف الاستفهام فيه مقدر ، وتقديره أدخل الجنة وإن سرق وإن زنى . قال الكرماني : والشرط حال . فإن قلت : ليس في الجواب استفهام فلزم منه أن من لم يسرق ، ولم يزن لم يدخل الجنة ؛ إذ انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط . قلت : هو من باب نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ، والحكم في المسكوت عنه ثابت بالطريق الأولى .
قوله : " من أمتي " يشمل أمة الإجابة وأمة الدعوة .
قوله : " لا يشرك بالله شيئا " ، وفي رواية البخاري في اللباس بلفظ " ما من عبد قال : لا إله إلا الله ثم مات على ذلك " الحديث ، ونفي الشرك يستلزم إثبات التوحيد ، والشاهد له حديث عبد الله بن مسعود : "من مات يشرك بالله شيئا دخل النار " على ما يجيء عن قريب .
قوله : " فقلت " القائل هو أبو ذر ، وليس هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقد يتبادر الذهن إلى أنه هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وليس كذلك ؛ لأنه في رواية قال أبو ذر : " يا رسول الله وإن سرق وإن زنى " ثلاث مرات ، وفي الرابعة قال : " على رغم أنف أبي ذر " ، وقال صاحب ( التلويح ) : ويجمع بين اللفظين بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قاله مستوضحا ، وأبو ذر قاله مستبعدا ؛ لأن في ذهنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن وما " في معناه ، وإنما ذكر من الكبائر نوعين ؛ لأن [8/5] الذنب إما حق الله تعالى ، وأشار بالزنا إليه ، وإما حق العباد ، وأشار بالسرقة إليه .
ذكر ما يستفاد منه .
فيه حجة لأهل السنة أن أصحاب الكبائر لا يقطع لهم بالنار ، وأنهم إن دخلوها خرجوا منها ، وقال ابن بطال : من مات على اعتقاد لا إله إلا الله وإن بعد قوله لها عن موته إذا لم يقل بعدها خلافها حتى مات ، فإنه يدخل الجنة . ويقال : وجه هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن أهل التوحيد سيدخلون الجنة وإن عذبوا في النار بذنوبهم ، فإنهم لا يخلدون في النار . وقيل حديث أبي ذر من أحاديث الرجاء التي أفضى الاتكال عليها لبعض الجهلة إلى الإقدام على الموبقات ، وليس هو على ظاهره ، فإن القواعد استقرت على أن حقوق الآدميين لا تسقط بمجرد الموت على الإيمان ، ولكن لا يلزم من عدم سقوطها أن لا يتكفل الله بها عمن يريد أن يدخله الجنة ، ومن ثم رد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أبي ذر استبعاده . ويحتمل أن يكون المراد بقوله : " دخل الجنة " ، أي صار إليها إما ابتداء من أول الحال وإما بعد أن يقع ما يقع من العذاب .