فلما دخلت السنة السابعة والثلاثون .
كتب معاوية إلى علي بن أبي طالب : أما بعد فإن الله اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم بعلمه ، وجعله الأمين على وحيه ، والرسول إلى [2/287] خلقه ، واختار له من المسلمين أعوانا ، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام ، كان أفضلهم في الإسلام وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة بعده وخليفة خليفته والخليفة المظلوم المقتول رحمة الله عليهم ، وقد ذكر لي أنك تنتفي من دمه فإن كنت صادقا فأمكنا ممن قتله حتى نقتله به ، ونحن أسرع إليك إجابة وأطوعهم طاعة ، وإلا فإنه ليس لك ولا لأحد من أصحابك عندنا إلا السيف ، والذي لا إله غيره لنطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال حتى يقتلهم الله أو تلحق أرواحنا بعثمان والسلام .
فكتب إليه علي : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد ، فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك يذكر فيه محمدا صلى الله عليه وسلم وما أنعم الله عليه من الهدى ، والحمد لله على ذلك ، وأما ما ذكرت من ذكر الخلفاء فلعمري إن مقامهم في الإسلام كان عظيما ، وإن المصاب بهم لجرح عظيم في الإسلام ، وأما ما ذكرت من قتلة عثمان فإني قد نظرت في هذا الأمر فلم يسعني دفعهم إليك ، وقد كان أبوك أتاني حين ولى الناس أبا بكر فقال لي : يا علي أنت أحق الناس بهذا الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهات يدك حتى أبايعك ، [2/288] فلم أفعل مخافة الفرقة في الإسلام ، فأبوك أعرف بحقي منك ، فإن كنت تعرف من حقي ما كان يعرفه أبوك فقد قصدت رشدك ، وإن لم تفعل فسيغني الله عنك والسلام .
فلما قرأ معاوية الكتاب تهيأ هو ومن معه على المسير إلى علي ، ثم سار يريد العراق ، وسار علي من العراق ، وصلى الظهر بين القنطرة والجسر ركعتين ، وبعث على مقدمته شريح بن هانئ وزياد بن النضر بن مالك ، أمر أحدهما أن يأخذ على شط دجلة والآخر على شط الفرات ، معهما أكثر من عشرة آلاف نفس ، واستخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري ، ثم أخذ على طريق الفرات ، وجعل يقول : إذا سمعتموني أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما أقول ، وإذا لم أقل : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما الحرب خدعة ، فالتقى علي وأهل الشام بصفين لسبع بقين من المحرم ، فقام علي خطيبا في الناس فقال : الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض ، وإن أبرم أمرا لم ينقضه الناقضون ، مع أن لله - وله الحمد - لو شاء لم يختلف اثنان من خلقه ، ولا تنازعت الأمة في شيء من أمره ، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ، وقد ساقتنا وهؤلاء المقادير حتى جمعت بيننا في هذا المكان ، فنحن من ربنا بمنظر ومستمع ، ولو [2/289] شاء الله لجعل الانتقام ، وكان منه التغيير حتى يتبين أهل الباطل ويعلم أهل الحق أين مصيره ، ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال ، وجعل الآخرة هي دار القرار لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا . الآية . ألا إنكم تلقون عدوكم غدا فأطيلوا الليلة القيام ، وأكثروا فيها تلاوة القرآن ، وسلوه النصر ، وعليكم بالجد والحزم وكونوا صادقين ، ثم قعد فوثب الناس إلى سيوفهم يهيؤونها ، وإلى رماحهم يثقفونها ، وإلى نبالهم يريشونها ، ثم جعل على مقدمته شريح بن هانئ الحارثي والأشتر ، وعلى الميمنة الأشعث بن قيس ، وعلى الميسرة عبد الله بن عباس ، وعلى الرجالة عبد الله بن بديل بن ورقاء ، وعلى الساقة زياد بن النضر ، وعلى ميمنة الرجالة سليمان بن صرد الخزاعي .
ثم قام معاوية خطيبا في أهل الشام واجتمع الناس فقال : الحمد لله الذي دنا في علوه وعلا في دنوه وظهر وبطن فارتفع فوق كل منظر أولا وآخرا وظاهرا وباطنا ، يقضي فيفصل ، ويقدر فيغفر ، ويفعل ما يشاء ، وإذا أراد أمرا أمضاه ، وإذا عزم على أمر قضاه ، لا يؤامر أحدا فيما يملك ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، والحمد لله رب العالمين على ما أحببنا وكرهنا ، ثم كانت من قضاء الله أن ساقتنا المقادير إلى [2/290] هذه الرقعة من الأرض ، ولقت بيننا وبين أهل العراق ، فنحن من الله بمنظر ومستمع ، وقد قال الله : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا . الآية . فانظروا يا أهل الشام ، فإنما تلقون غدا العدو ، فكونوا على إحدى ثلاث خلال : إما قوما تطلبون ما عند الله بقتالكم قوما بغوا عليكم ، وإما قوما تطلبون بدم الخليفة عثمان فإنه خليفتكم وصهر نبيكم ، وإما قوما تدفعون عن نسائكم وذراريكم ، وعليكم بتقوى الله والصبر الجميل ، نسأل الله لنا ولكم النصر ، وأن يفرغ علينا وعليكم الصبر ، وأن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين ، فأجابه أهل الشام : طب نفسا ، نموت معك ونحيا معك ، ثم جعل معاوية أبا الأعور عمرو بن سفيان السلمي على مقدمته ، وحبيب بن مسلمة الفهري على ميمنته ، وبسر بن أرطاة على ميسرته ، ومسلم بن عقبة على رجالة العسكر ، فلما كان الغد اقتتلوا قتالا شديدا ، فحجز بينهم الليل حتى قاتلوا ثلاثة أيام ، فقتل من أصحاب علي بالمبارزة : هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وعمار بن ياسر ، وعبد الله بن بديل بن ورقاء ، وعمار بن حنظلة الكندي ، وبشر بن زهير ، ومالك بن كعب العامري ، وطالب بن كلثوم الهمداني ، والمرتفع [2/291] ابن وضاح الزبيدي ، وشريح بن طارق البكري ، وأسلم بن يزيد الحارثي ، والحارث بن اللجاج الحكمي ، وعائذ بن كريب الهلالي ، وواصل بن ربيعة الشيباني ، وعائذ بن مسروق الهمداني ، ومسلم بن سعيد الباهلي ، ومحارب بن ضرار المرادي ، وسليمان بن الحارث الجعفي ، وشرحبيل بن يزيد الحضرمي .
وقتل من أصحاب معاوية في المبارزة : شرحبيل بن منصور ، وعبد الرزاق بن خالد العبسي ، وشريح بن الحارث الكلابي ، وصالح بن المغيرة الجمحي ، وحريث بن الصباح الحميري ، والحارث بن وداعة الحميري ، وروق بن الحارث العكي ، والمطاع بن المطلب القيني ، وجلهمة بن هلال الكلبي ، والوضاح بن أزهر السكسكي ، ووازع بن سلامان الغساني ، والمهاجر بن حنظلة الجعفي ، وعبد الله بن جرير العكي ، ومالك بن وديعة القرشي ، سوى من قتل من الفريقين من غير براز .
ولما قتل عمار أتى عبد الله بن عمرو معاوية فقال : قتل عمار ، فقال عمرو بن العاص : قتل عمار ، فما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار : تقتلك الفئة الباغية ، فقال معاوية : أنحن قتلناه ، إنما قتله أهل العراق ، جاؤوا به فطرحوه في سيوفنا ورماحنا ، وقد قيل : إنه قتل بصفين سبعون ألفا : من أهل العراق خمسة وعشرون ألفا ، ومن [2/292] أهل الشام خمسة وأربعون ألفا ، فلما اشتد البلاء بالفريقين ، وكثر بينهم القتلى قال عمرو بن العاص لمعاوية : إن هذا الأمر لا يزداد إلا شدة ، فهل لك إلى أمر لا يزداد القوم به إلا فرقة ، إن أعطونا اختلفوا وإن منعونا اختلفوا ، فقال معاوية : ما هو ؟ فقال : المصاحف نرفعها وندعوهم بما فيها ، فإنهم لا يقاتلون إلا على ما قد علمت ، فقال معاوية : افعل ما رأيت ، فأمر بالمصاحف فرفعت في الرماح ، ثم جعلوا ينادون : ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه ، فسر الناس به ، وكرهوا القتال ، وأجابوا إلى الصلح ، وأنابوا إلى الحكومة ، وقالوا لعلي : إن القوم يدعونك إلى الحق ، وإلى كتاب الله ، فإن كرهنا ذلك فنحن إذا مثلهم ، فقال علي : ويحكم ما ذلك يريدون ولا يفعلون ، ثم مشى الناس بعضهم إلى بعض ، وأجابوا الصلح والحكومة ، وتفرقوا إلى دفن قتلاهم ، ولم يجد علي بدا من أن يقبل الحكومة لما رأى من أصحابه ، فحكم أهل الشام عمرو بن العاص ، وأراد علي أن يحكم ابن عباس ، فقال الأشعث بن قيس وهو يومئذ سيد الناس : لا يحكم في هذا الأمر رجلان من قريش ، ولا افترق الفريقان على هذا الجمع على حكومة بعد أن كان من القتال بينهما ما كان إلا وأحد الحكمين منا ، وتبعه أهل اليمن على ذلك ، ثم قال الأشعث : لا نرضى إلا بأبي موسى الأشعري ، وكتبوا بينهم كتابي الصلح : [2/293] بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، قاضى علي على أهل العراق ومن كان معه من شيعته من المؤمنين ، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن كان معه من شيعته من المسلمين ، أنا ننزل على حكم الله وكتابه ، فما وجد الحكمان في كتاب الله فهما يتبعانه ، وما لم يجدا في كتاب الله فالسنة العادلة تجمعهما ، وهما آمنان على أموالهما وأنفسهما وأهاليهما ، والأمة أنصار لهما على الذي يقضيان عليه ، وعلى المؤمنين والمسلمين - والطائفتان كلتاهما عليهما - عهد الله وميثاقه أن يفيا بما في هذه الصحيفة على أن بين المسلمين الأمن ووضع السلاح وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه ليحكما بين الناس بما في هذه الصحيفة على أن الفريقين جميعا يرجعان سنة ، فإذا انقضت السنة إن أحبا أن يردا ذلك ردا ، وإن أحبا زادا فيهما ما شاء الله ، اللهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة .
وشهد على الصحيفة فريق عشرة أنفس ، فشهد من أصحاب علي : [2/294] الأشعث بن قيس ، وعبد الله بن عباس ، وسعيد بن قيس الهمداني ، وحجر بن الأدبر الكندي ، وعبد الله بن الطفيل العامري ، وعبد الله بن محل العجلي ، ووقاء بن سمي البجلي ، وعقبة بن زيد الأنصاري ، ويزيد بن حجية التيمي ، ومالك بن أوس الرحبي .
وشهد من أهل الشام : أبو الأعور السلمي ، وحبيب بن مسلمة الفهري ، والمخارق بن الحارث الزبيدي ، وعلقمة بن يزيد الحضرمي ، وسبيع بن يزيد الحضرمي ، وزمل بن عمرو العذري ، ويزيد بن الحر العبسي ، وحمزة بن مالك الهمداني ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وعتبة بن أبي سفيان .
وكتب يوم الأربعاء سنة سبع وثلاثين .
فانصرف علي بمن معه من أهل العراق ، وانصرف معاوية بمن معه إلى الشام ، فقال عبد الله بن وهب الحرمي وكان من أصحاب علي : [2/295] لا حكم إلا لله ، فقال علي : هذه كلمة حق أريد بها باطل ، فلما دخل علي الكوفة خرج من كان يقول : لا حكم إلا لله ، ونزلوا بحروراء وهم قريب من اثني عشر ألفا ، فسموا الحرورية ، ومناديهم ينادي : أمير القتال شبث بن ربعي التميمي ، والأمر بعد الفتح شورى ، والبيعة لله .
ومات خباب بن الأرت بالكوفة .
فخرج علي من صفين ، وولى علي سهل بن حنيف فارس ، فأخرجه أهل فارس ، فوجه زيادا فرضوا وصالحوه وأدوا إليه الخراج .
ثم إن الخوارج اجتمعت على زيد بن حصين وقالوا له : أنت سيدنا وشيخنا وعامل عمر بن الخطاب على الكوفة ، تول أمرنا ، وجهروا به فقال : ما كنت لأفعلها ، فلما أبى عليهم ذلك ، ذهبوا إلى يزيد بن عاصم المحاربي فعرضوا عليه أمرهم فأبى عليهم ذلك ، ثم ذهبوا إلى سعد بن وائل التميمي فأبى عليهم ، فأتوا عبد الله بن وهب الراسبي واجتمعوا عنده بقرب النهروان ، وخرج إليهم علي في جمعية ، فلما أتاهم حمد الله وأثنى عليه ثم قال : إنكم أيها القوم قد علمتم وعلم الله أني كنت [2/296] للحكومة كارها حتى أشرتم علي بها وغلبتموني عليها والله بيني وبينكم شهيد ، ثم كتبنا بيننا وبينهم كتابا وأنتم على ذلك من الشاهدين ، فقالت طائفة من القوم : صدقت ورجعوا إلى الجماعة ، وبقيت طائفة منهم على قولهم ، فقال علي : هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . منهم أهل النهروان ورب الكعبة ، ثم إنهم عبروا الجسر إلى علي ليحاربوه ، فلما عبروا الجسر نادى علي في العسكر : استقبلوهم ، فاستقبلوهم والتقطوهم بالرماح فكان مع علي جمعية يسيرة إنما جاء على أن يردهم بالكلام ، وقد كانت الخوارج قريبا من خمسة آلاف ، فلما فرغوا من قتلهم ، قال علي : اطلبوا لي المخدع ، فطلبوه فلم يجدوه ، فقال : اطلبوا المخدع ، فوالله ما كذبت ولا كذبت ، ثم دعا ببغلته البيضاء فركبها وجعل يقلب القتلى حتى أتى على فضاء من الأرض ، فقال : قلبوا هؤلاء ، فإذا هم برجل ليس له ساعد ، بين جنبيه ثدي فيه شعرات ، إذا مدت امتدت ، وإذا تركت قلصت ، فقال علي : الله أكبر ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يخرج قوم فيهم رجل مخدع اليد ، ولولا أن تنكلوا عن العمل لأنبأتكم بما وعد الله [2/297] الذين يقاتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم حج بالناس عبد الله بن عباس .