النَّوْعُ الثَّانِي : مَعْرِفَةُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَدِيثِ
رُوِّينَا عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ حِكَايَتِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَ أَهْلِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا : [1/30] " الْحَسَنُ مَا عُرِفَ مُخْرَجُهُ وَاشْتَهَرَ رِجَالُهُ " . قَالَ : " وَعَلَيْهِ مَدَارُ أَكْثَرِ الْحَدِيثِ ، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ ، وَيَسْتَعْمِلُهُ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ " .
وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِالْحَسَنِ " أَنْ لَا يَكُونَ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ ، وَلَا يَكُونُ حَدِيثًا شَاذًّا ، وَيُرْوَى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُ ذَلِكَ " .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : " الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ ضَعْفٌ قَرِيبٌ مُحْتَمَلٌ هُوَ الْحَدِيثُ الْحَسَنُ ، وَيَصْلُحُ لِلْعَمَلِ بِهِ " .
قُلْتُ : كُلُّ هَذَا مُسْتَبْهَمٌ لَا يَشْفِي الْغَلِيلَ ، وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ مَا يَفْصِلُ الْحَسَنَ مِنَ الصَّحِيحِ .
[1/31] وَقَدْ أَمْعَنْتُ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ وَالْبَحْثَ ، جَامِعًا بَيْنَ أَطْرَافِ كَلَامِهِمْ ، مُلَاحِظًا مَوَاقِعَ اسْتِعْمَالِهِمْ ، فَتَنَقَّحَ لِي وَاتَّضَحَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْحَسَنَ قِسْمَانِ :
أَحَدُهُمَا : الْحَدِيثُ الَّذِي لَا يَخْلُو رِجَالُ إِسْنَادِهِ مِنْ مَسْتُورٍ لَمْ تَتَحَقَّقْ أَهْلِيَّتُهُ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ مُغَفَّلًا كَثِيرَ الْخَطَأِ فِيمَا يَرْوِيهِ ، وَلَا هُوَ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ فِي الْحَدِيثِ ، أَيْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ فِي الْحَدِيثِ وَلَا سَبَبٌ آخَرُ مُفَسِّقٌ ، وَيَكُونُ مَتْنُ الْحَدِيثِ مَعَ ذَلِكَ قَدْ عُرِفَ بِأَنْ رُوِيَ مِثْلُهُ أَوْ نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى اعْتَضَدَ بِمُتَابَعَةِ مَنْ تَابَعَ رَاوِيَهُ عَلَى مِثْلِهِ ، أَوْ بِمَا لَهُ مِنْ شَاهِدٍ ، وَهُوَ وُرُودُ حَدِيثٍ آخَرَ بِنَحْوِهِ ، فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَاذًّا وَمُنْكَرًا ، وَكَلَامُ التِّرْمِذِيِّ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ يَتَنَزَّلُ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ رَاوِيهِ مِنَ الْمَشْهُورِينَ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ رِجَالِ الصَّحِيحِ ، لِكَوْنِهِ يَقْصُرُ عَنْهُمْ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْتَفِعُ عَنْ حَالِ مَنْ يُعَدُّ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ [1/32] حَدِيثِهِ مُنْكَرًا ، وَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ هَذَا - مَعَ سَلَامَةِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَاذًّا وَمُنْكَرًا - سَلَامَتُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا . وَعَلَى الْقِسْمِ الثَّانِي يَتَنَزَّلُ كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ .
فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ جَامِعٌ لِمَا تَفَرَّقَ فِي كَلَامِ مَنْ بَلَغَنَا كَلَامُهُ فِي ذَلِكَ ، وَكَأَنَّ التِّرْمِذِيَّ ذَكَرَ أَحَدَ نَوْعَيِ الْحَسَنِ ، وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ النَّوْعَ الْآخَرَ ، مُقْتَصِرًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا رَأَى أَنَّهُ يُشْكِلُ ، مُعْرِضًا عَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يُشْكِلُ . أَوْ أَنَّهُ غَفَلَ عَنِ الْبَعْضِ وَذَهِلَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، هَذَا تَأْصِيلُ ذَلِكَ .
وَنُوَضِّحُهُ بِتَنْبِيهَاتٍ وَتَفْرِيعَاتٍ
أَحَدُهَا : الْحَسَنُ يَتَقَاصَرُ عَنِ الصَّحِيحِ فِي أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ شَرْطِهِ : أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ رُوَاتِهِ قَدْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمْ وَضَبْطُهُمْ وَإِتْقَانُهُمْ ، إِمَّا بِالنَّقْلِ الصَّرِيحِ ، أَوْ بِطَرِيقِ الِاسْتِفَاضَةِ ، عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُشْتَرَطٍ فِي الْحَسَنِ ، فَإِنَّهُ يُكْتَفَى فِيهِ بِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ مَجِيءِ الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ .
وَإِذَا اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ مُسْتَبْعِدٌ ذَكَرْنَا لَهُ نَصَّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَرَاسِيلِ التَّابِعِينَ : أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهَا الْمُرْسَلُ الَّذِي جَاءَ نَحْوُهُ مُسْنَدًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَافَقَهُ مُرْسَلٌ آخَرُ ، أَرْسَلَهُ مَنْ [1/33] أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْ غَيْرِ رِجَالِ التَّابِعِيِّ الْأَوَّلِ فِي كَلَامٍ لَهُ ذَكَرَ فِيهِ وُجُوهًا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ مُخْرَجِ الْمُرْسَلِ لِمَجِيئِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ .
وَذَكَرْنَا لَهُ أَيْضًا مَا حَكَاهُ الْإِمَامُ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهُ تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْمَسْتُورِ ، وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْمَسْتُورِ ، وَلِذَلِكَ وَجْهٌ مُتَّجِهٌ ، كَيْفَ وَإِنَّا لَمْ نَكْتَفِ فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ بِمُجَرَّدِ رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ عَلَى مَا سَبَقَ آنِفًا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الثَّانِي : لَعَلَّ الْبَاحِثَ الْفَهِمَ يَقُولُ : إِنَّا نَجِدُ أَحَادِيثَ مَحْكُومًا بِضَعْفِهَا مَعَ كَوْنِهَا قَدْ رُوِيَتْ بِأَسَانِيدَ كَثِيرَةٍ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ مِثْلَ حَدِيثِ : " الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ " وَنَحْوِهِ ، فَهَلَّا جَعَلْتُمْ ذَلِكَ وَأَمْثَالَهُ مِنْ [1/34] نَوْعِ الْحَسَنِ ، لِأَنَّ بَعْضَ ذَلِكَ عَضَّدَ بَعْضًا ، كَمَا قُلْتُمْ فِي نَوْعِ الْحَسَنِ عَلَى مَا سَبَقَ آنِفًا .
وَجَوَابُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ ضَعْفٍ فِي الْحَدِيثِ يَزُولُ بِمَجِيئِهِ مِنْ وُجُوهٍ ، بَلْ ذَلِكَ يَتَفَاوَتُ :
فَمِنْهُ ضَعْفٌ يُزِيلُهُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ ضَعْفُهُ نَاشِئًا مِنْ ضَعْفِ حِفْظِ رَاوِيهِ ، مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالدِّيَانَةِ . فَإِذَا رَأَيْنَا مَا رَوَاهُ قَدْ جَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَرَفْنَا أَنَّهُ مِمَّا قَدْ حَفِظَهُ ، وَلَمْ يَخْتَلَّ فِيهِ ضَبْطُهُ لَهُ . وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ ضَعْفُهُ مِنْ حَيْثُ الْإِرْسَالُ زَالَ بِنَحْوِ ذَلِكَ ، كَمَا فِي الْمُرْسَلِ الَّذِي يُرْسِلُهُ إِمَامٌ حَافِظٌ ، إِذْ فِيهِ ضَعْفٌ قَلِيلٌ ، يَزُولُ بِرِوَايَتِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ .
وَمِنْ ذَلِكَ ضَعْفٌ لَا يَزُولُ بِنَحْوِ ذَلِكَ ، لِقُوَّةٍ الضَّعْفِ وَتَقَاعُدِ هَذَا الْجَابِرِ عَنْ جَبْرِهِ وَمُقَاوَمَتِهِ . وَذَلِكَ كَالضَّعْفِ الَّذِي يَنْشَأُ مِنْ كَوْنِ الرَّاوِي مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ ، أَوْ كَوْنِ الْحَدِيثِ شَاذًّا .
وَهَذِهِ جُمْلَةٌ تَفَاصِيلُهَا تُدْرَكُ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالْبَحْثِ ، فَاعْلَمْ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ مِنَ النَّفَائِسِ الْعَزِيزَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الثَّالِثُ : إِذَا كَانَ رَاوِي الْحَدِيثِ مُتَأَخِّرًا عَنْ دَرَجَةِ أَهْلِ الْحِفْظِ [1/35] وَالْإِتْقَانِ ، غَيْرَ أَنَّهُ مِنَ الْمَشْهُورِينَ بِالصِّدْقِ وَالسَّتْرِ ، وَرُوِيَ مَعَ ذَلِكَ حَدِيثُهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ، فَقَدِ اجْتَمَعَتْ لَهُ الْقُوَّةُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ ، وَذَلِكَ يُرَقِّي حَدِيثَهُ مِنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ إِلَى دَرَجَةِ الصَّحِيحِ .
مِثَالُهُ : حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ " .
فَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ مِنَ الْمَشْهُورِينَ بِالصِّدْقِ وَالصِّيَانَةِ ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْإِتْقَانِ ، حَتَّى ضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ جِهَةِ سُوءٍ حِفْظِهِ ، وَوَثَّقَهُ بَعْضُهُمْ لِصِدْقِهِ وَجَلَالَتِهِ ، فَحَدِيثُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ حَسَنٌ . فَلَمَّا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ كَوْنُهُ رُوِيَ مِنْ أَوْجُهٍ أُخَرَ ، زَالَ بِذَلِكَ مَا كُنَّا نَخْشَاهُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ سُوءِ حِفْظِهِ ، وَانْجَبَرَ بِهِ ذَلِكَ النَّقْصُ الْيَسِيرُ ، فَصَحَّ هَذَا الْإِسْنَادُ وَالْتَحَقَ بِدَرَجَةِ الصَّحِيحِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الرَّابِعُ : كِتَابُ أَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ [1/36] الْحَدِيثِ الْحَسَنِ وَهُوَ الذى نَوَّهَ بِاسْمِهِ ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ فِي جَامِعِهِ .
وَيُوجَدُ فِي مُتَفَرِّقَاتٍ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ مَشَايِخِهِ وَالطَّبَقَةِ الَّتِي قَبْلَهُ ، كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَالْبُخَارِيِّ ، وَغَيْرِهِمَا .
وَتَخْتَلِفُ النُّسَخُ مِنْ كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ فِي قَوْلِهِ : " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ " . أَوْ : " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ " وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَيَنْبَغِي أَنْ تُصَحِّحَ أَصْلَكَ بِهِ بِجَمَاعَةِ أُصُولٍ ، وَتَعْتَمِدَ عَلَى مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ . وَنَصَّ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ .
وَمِنْ مَظَانِّهِ سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى . رُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " ذَكَرْتُ فِيهِ الصَّحِيحَ وَمَا يُشْبِهُهُ وَيُقَارِبُهُ " . وَرُوِّينَا عَنْهُ أَيْضًا مَا مَعْنَاهُ : أَنَّهُ يَذْكُرُ فِي كُلِّ بَابٍ أَصَحَّ مَا عَرَفَهُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ . وَقَالَ : " مَا كَانَ فِي كِتَابِي مِنْ حَدِيثٍ فِيهِ وَهَنٌ شَدِيدٌ فَقَدْ بَيَّنْتُهُ ، وَمَا لَمْ أَذْكُرْ فِيهِ شَيْئًا فَهُوَ صَالِحٌ ، وَبَعْضُهَا أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ " .
قُلْتُ : فَعَلَى هَذَا مَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِهِ مَذْكُورًا مُطْلَقًا ، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ ، وَلَا نَصَّ عَلَى صِحَّتِهِ أَحَدٌ مِمَّنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ ، عَرَفْنَاهُ بِأَنَّهُ مِنَ الْحَسَنِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ .
وَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ عِنْدَ غَيْرِهِ ، وَلَا مُنْدَرِجٍ فِيمَا حَقَّقْنَا ضَبْطَ الْحَسَنِ بِهِ عَلَى مَا سَبَقَ ، إِذْ حَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ الْحَافِظُ أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ [1/37] سَعْدٍ الْبَاوَرْدِيَّ بِمِصْرَ يَقُولُ : " كَانَ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ كُلِّ مَنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى تَرْكِهِ " . َقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ : " وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ يَأْخُذُ مَأْخَذَهُ ، وَيُخْرِجُ الْإِسْنَادَ الضَّعِيفَ إِذَا لَمْ يَجِدْ فِي الْبَابِ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى عِنْدَهُ مَنْ رَأْيِ الرِّجَالِ " ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الْخَامِسُ : مَا صَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ تَقْسِيمِ أَحَادِيثِهِ إِلَى نَوْعَيْنِ : الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ ، مُرِيدًا بِالصِّحَاحِ مَا وَرَدَ فِي أَحَدِ الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِيهِمَا ، وَبِالْحِسَانِ مَا أَوْرَدَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَشْبَاهُهُمَا فِي تَصَانِيفِهِمْ . فَهَذَا اصْطِلَاحٌ لَا يُعْرَفُ ، وَلَيْسَ الْحَسَنُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ عِبَارَةً عَنْ ذَلِكَ . وَهَذِهِ الْكُتُبُ تَشْتَمِلُ عَلَى حَسَنٍ وَغَيْرِ حَسَنٍ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
السَّادِسُ : كُتُبُ الْمَسَانِيدِ غَيْرُ مُلْتَحِقَةٍ بِالْكُتُبِ الْخَمْسَةِ الَّتِي هِيَ : الصَّحِيحَانِ ، وَسُنَنُ أَبِي دَاوُدَ ، وَسُنَنُ النَّسَائِيِّ ، وَجَامِعُ التِّرْمِذِيِّ ، [1/38] وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا فِي الِاحْتِجَاجِ بِهَا وَالرُّكُونِ إِلَى مَا يُورَدُ فِيهَا مُطْلَقًا ، كَمُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ ، وَمُسْنَدِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى ، وَمُسْنَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَمُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ ، وَمُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ ، وَمُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ ، وَمُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ ، وَمُسْنَدِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ ، وَمُسْنَدِ الْبَزَّارِ أَبِي بَكْرٍ ، وَأَشْبَاهِهَا ، فَهَذِهِ عَادَتُهُمْ فِيهَا أَنْ يُخْرِجُوا فِي مُسْنَدِ كُلِّ صَحَابِيٍّ مَا رَوَوْهُ مِنْ حَدِيثِهِ ، غَيْرَ مُتَقَيِّدِينَ بِأَنْ يَكُونَ حَدِيثًا مُحْتَجًّا بِهِ . فَلِهَذَا تَأَخَّرَتْ مَرْتَبَتُهَا - وَإِنْ جَلَّتْ لِجَلَالَةِ مُؤَلِّفِيهَا - عَنْ مَرْتَبَةِ الْكُتُبِ الْخَمْسَةِ وَمَا الْتَحَقَ بِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ عَلَى الْأَبْوَابِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
السَّابِعُ : قَوْلُهُمْ " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، أَوْ حَسَنُ الْإِسْنَادِ " دُونَ قَوْلِهِمْ : " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَوْ حَدِيثٌ حَسَنٌ " لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ : " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ " ، وَلَا يَصِحُّ ، لِكَوْنِهِ شَاذًّا أَوْ مُعَلَّلًا .
غَيْرَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ الْمُعْتَمَدَ مِنْهُمْ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ : إِنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ عِلَّةً ، وَلَمْ يَقْدَحْ فِيهِ ، فَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْحُكْمُ لَهُ بِأَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلَّةِ وَالْقَادِحِ هُوَ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
[1/39] الثَّامِنُ : فِي قَوْلِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ : " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ " إِشْكَالٌ ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ قَاصِرٌ عَنِ الصَّحِيحِ ، كَمَا سَبَقَ إِيضَاحُهُ ، فَفِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ جَمْعٌ بَيْنَ نَفْيِ ذَلِكَ الْقُصُورِ وَإِثْبَاتِهِ .
وَجَوَابُهُ : أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْإِسْنَادِ ، فَإِذَا رُوِيَ الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ بِإِسْنَادَيْنِ : أَحَدُهُمَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ ، وَالْآخَرُ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ اسْتَقَامَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ : إِنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، أَيْ إِنَّهُ حَسَنٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِسْنَادٍ ، صَحِيحٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِسْنَادٍ آخَرَ .
عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَرَادَ بِالْحُسْنِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ ، وَهُوَ : مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَلَا يَأْبَاهُ الْقَلْبُ ، دُونَ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ ، فَاعْلَمْ ذَلِكَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
[1/40] التَّاسِعُ : مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَنْ لَا يُفْرِدُ نَوْعَ الْحَسَنِ ، وَيَجْعَلُهُ مُنْدَرِجًا فِي أَنْوَاعِ الصَّحِيحِ ، لِانْدِرَاجِهِ فِي أَنْوَاعِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ ، وَإِلَيْهِ يُومِي فِي تَسْمِيَتِهِ كِتَابَ التِّرْمِذِيِّ بِالْجَامِعِ الصَّحِيحِ ، وَأَطْلَقَ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ أَيْضًا عَلَيْهِ اسْمَ الصَّحِيحِ ، وَعَلَى كِتَابِ النَّسَائِيِّ . وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو الطَّاهِرِ السِّلَفِيُّ الْكُتُبَ الْخَمْسَةَ ، وَقَالَ : " اتَّفَقَ عَلَى صِحَّتِهَا عُلَمَاءُ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ " .
وَهَذَا تَسَاهُلٌ ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَا صَرَّحُوا بِكَوْنِهِ ضَعِيفًا أَوْ مُنْكَرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الضَّعِيفِ . وَصَرَّحَ أَبُو دَاوُدَ فِيمَا قَدَّمْنَا رِوَايَتَهُ عَنْهُ بِانْقِسَامِ مَا فِي كِتَابِهِ إِلَى صَحِيحٍ وَغَيْرِهِ ، وَالتِّرْمِذِيُّ مُصَرِّحٌ فِيمَا فِي كِتَابِهِ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ .
ثُمَّ إِنَّ مَنْ سَمَّى الْحَسَنَ صَحِيحًا لَا يُنْكِرُ أَنَّهُ دُونَ الصَّحِيحِ الْمُقَدَّمِ الْمُبَيَّنِ أَوَّلًا ، فَهَذَا إِذًا اخْتِلَافٌ فِي الْعِبَارَةِ دُونَ الْمَعْنَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .