النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : مَعْرِفَةُ صِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ رِوَايَتُهُ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ قَدْحٍ وَجَرْحٍ وَتَوْثِيقٍ وَتَعْدِيلٍ
أَجْمَعَ جَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا ، ضَابِطًا لِمَا يَرْوِيهِ ، وَتَفْصِيلُهُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا ، بَالِغًا ، عَاقِلًا ، سَالِمًا مِنْ أَسْبَابِ الْفِسْقِ وَخَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ ، مُتَيَقِّظًا غَيْرَ مُغَفَّلٍ ، حَافِظًا إِنْ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ ، ضَابِطًا لِكِتَابِهِ [1/105] إِنْ حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ . وَإِنْ كَانَ يُحَدِّثُ بِالْمَعْنَى اشْتُرِطَ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا يُحِيلُ الْمَعَانِيَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَنُوَضِّحُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِمَسَائِلَ :
إِحْدَاهَا : عَدَالَةُ الرَّاوِي
تَارَةً تَثْبُتُ بِتَنْصِيصِ مُعَدِّلَيْنِ عَلَى عَدَالَتِهِ ، وَتَارَةً تَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ ، فَمَنِ اشْتَهَرَتْ عَدَالَتُهُ بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ أَوْ نَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَشَاعَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ ، اسْتُغْنِيَ فِيهِ بِذَلِكَ عَنْ بَيِّنَةٍ شَاهِدَةٍ بِعَدَالَتِهِ تَنْصِيصًا ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ فِي فَنِّ أُصُولِ الْفِقْهِ . وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ ، وَمَثَّلَ ذَلِكَ بِمَالِكٍ ، وَشُعْبَةَ ، وَالسُّفْيَانَيْنِ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَاللَّيْثِ ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ ، وَوَكِيعٍ ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ ، وَعَلِيِّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ ، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ فِي نَبَاهَةِ الذِّكْرِ وَاسْتِقَامَةِ الْأَمْرِ ، فَلَا يُسْأَلُ عَنْ عَدَالَةِ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ ، وَإِنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ عَدَالَةِ مَنْ خَفِيَ أَمْرُهُ عَلَى الطَّالِبِينَ .
وَتَوَسَّعَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْحَافِظُ فِي هَذَا فَقَالَ : " كُلُّ حَامِلِ عِلْمٍ مَعْرُوفُ الْعِنَايَةِ بِهِ فَهُوَ عَدْلٌ ، مَحْمُولٌ فِي أَمْرِهِ أَبَدًا عَلَى الْعَدَالَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ جَرْحُهُ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ [1/106] عُدُولُهُ " ، وَفِيمَا قَالَهُ اتِّسَاعٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .