الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : أَعْرَضَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنِ اعْتِبَارِ مَجْمُوعِ مَا بَيَّنَّا مِنَ الشُّرُوطِ فِي رُوَاةِ الْحَدِيثِ وَمَشَايِخِهِ ، فَلَمْ يَتَقَيَّدُوا بِهَا فِي رِوَايَاتِهِمْ ، لِتَعَذُّرِ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ ، وَكَانَ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ كِتَابِنَا هَذَا مِنْ كَوْنِ الْمَقْصُودِ آلَ آخِرًا إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى خِصِّيصَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْأَسَانِيدِ ، وَالْمُحَاذَرَةِ مِنَ انْقِطَاعِ سِلْسِلَتِهَا ، فَلْيُعْتَبَرْ مِنَ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ مَا يَلِيقُ بِهَذَا الْغَرَضِ عَلَى تَجَرُّدِهِ ، وَلْيُكْتَفَ فِي أَهْلِيَّةِ الشَّيْخِ بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا ، بَالِغًا ، عَاقِلًا ، غَيْرَ مُتَظَاهِرٍ بِالْفِسْقِ وَالسُّخْفِ ، وَفِي ضَبْطِهِ بِوُجُودِ سَمَاعِهِ مُثْبَتًا بِخَطٍّ غَيْرِ مُتَّهَمٍ ، وَبِرِوَايَتِهِ مِنْ أَصْلٍ مُوَافِقٍ لِأَصْلِ شَيْخِهِ .
[1/121] وَقَدْ سَبَقَ إِلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيمَا رُوِّينَا عَنْهُ تَوَسُّعَ مَنْ تَوَسَّعَ فِي السَّمَاعِ مِنْ بَعْضِ مُحَدِّثِي زَمَانِهِ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَ حَدِيثَهُمْ وَلَا يُحْسِنُونَ قِرَاءَتَهُ مَنْ كُتُبِهِمْ ، وَلَا يَعْرِفُونَ مَا يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَصْلِ سَمَاعِهِمْ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي قَدْ صَحَّتْ ، أَوْ وَقَفَتْ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالسُّقْمِ قَدْ دُوِّنَتْ وَكُتِبَتْ فِي الْجَوَامِعِ الَّتِي جَمَعَهَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى جَمِيعِهِمْ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَذْهَبَ عَلَى بَعْضِهِمْ ، لِضَمَانِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ حِفْظَهَا .
قَالَ : " فَمَنْ جَاءَ الْيَوْمَ بِحَدِيثٍ لَا يُوجَدُ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، وَمَنْ جَاءَ بِحَدِيثٍ مَعْرُوفٍ عِنْدَهُمْ فَالَّذِي يَرْوِيهِ لَا يَنْفَرِدُ بِرِوَايَتِهِ ، وَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ بِحَدِيثِهِ بِرِوَايَةِ غَيْرِهِ ، وَالْقَصْدُ مِنْ رِوَايَتِهِ وَالسَّمَاعِ مِنْهُ أَنْ يَصِيرَ الْحَدِيثُ مُسَلْسَلًا " بِحَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا " ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْكَرَامَةُ الَّتِي خُصَّتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ شَرَفًا لِنَبِيِّنَا الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ " ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .