حدثنا موسى بن زكرياء، حدثنا أزهر بن مروان، حدثنا داود بن الزبرقان، حدثنا مطر الوراق، عن عبد الله بن بريدة الأسلمي، عن يحيى بن يعمر، أن أبا سبرة قال لعبيد الله بن زياد: حدثني عمرو بن العاص قال: قال رسول [1/65] الله - صلى الله عليه وسلم -: مثل المؤمن كمثل النحلة، أكلت طيبا ووضعت طيبا، وإن مثل المؤمن مثل القطعة الجيدة من الذهب، أدخلت النار فنفخ عليها فخرجت جيدة .
قال أبو محمد: هذا مثل للمؤمن في صحة عقده وعهده وسره وعلانيته وسائر أحواله، ومثل بالنحلة تارة، وبالقطعة من الذهب تسبك فيعود وزنها مثله قبل سبكها لصفائها وخلوص جوهرها؛ لأن الخالص من الذهب لا يحمل الخبث، ولا يقبل الصدا، ولا تنقصه النار، ولا يغيره مرور الأوقات، وكذلك المؤمن في حال منشطه ومكرهه وعسره ويسره، على بينة من ربه، ويقين من أمره، لا ينقصه الاختبار، ولا يزيله عن إيمانه ويقينه تفرق الأحوال، والذهب أسنى الجوهر وأشرفه، ويقال للشيء في بلوغ الغاية في تفضيله وشرفه وخطره: كأنه الإبريز الخالص، وما هو إلا الذهب الأحمر، وقال بعض الشعراء ( من الكامل ) :
كالخالص الإبريز إن لم تجله
فجلاؤه فِيهِ وإن صحب الأبد
لا يستحيل على الليالي لونه
أنى وجوهره شهاب يتقد
[1/66] وقال آخر ( من البسيط ) :
لا يعلق العار جنبي إن رميت به
نأيت عنه كما لا يصدأ الذهب
وحدثني عبدان بن أحمد بن أبي صالح، صاحب التفسير ، عن عمرو بن محمد الزنبقي البصري ، عن الأصمعي ، عن أبي عمرو بن العلاء، قال : من أحب أن ينظر إلى رجل صيغ من ذهب فلينظر إلى الخليل بن أحمد ، ثم أنشأ يقول : ( من البسيط ) :
قد صاغه الله من مسك ومن ذهب
وصاغ راحته من عارض هطل
والنحلة كريمة، تغتذي بألطف الغذاء، وأشرف ما يغتذي به ذو حياة ، وتمج العسل ، وهو أطيب طعام وأعذبه ، وإليه المثل في الحلاوة التي هي أعجب الطعوم مذاقا ، وأفضلها مأكولا ومشروبا ، وأوقعها من النفوس مواقع الغاية .
ويقال : إنها بإذن الله وقدرته تحمل العسل في أفواهها ، والشمع على أفخاذها وظهورها .
وتقول : نحلة للذكر والأنثى، والنحل مذكرات ومؤنثات ، ويقال للنحل : ذباب الخصب معا، وذباب الربيع . أفرد لها هذا [1/67] الاسم لشرفها ، مقرون لشرف الوقت الذي ينتشر فيه ، وهو الفصل الذي يكثر فيه الذباب والخصب والخير والمرعى.
وسمي المعتمد من الرجال السيد المؤتمر له يعسوبا بيعسوب النحل ، وهو أميرها . وفي الحديث : ( علي يعسوب المؤمنين ) . أي: سيدهم . والمال: يعسوب المنافقين .
ووقف علي رضي الله عنه على عبد الرحمن بن عتاب يوم الجمل وهو مقتول ، فاسترجع ثم قال : هذا يعسوب قريش . أي: سيدهم . واختلفوا في اليعسوب ، فقال بعضهم : هو نحلة ذكر أكبر من الإناث ، يجتمع إليه النحل ويتفرقن عنه ، وهو مقيم لا يبرح ، فإن خرج خرجن معه ، وإن غاب طلبنه ، وإن ضاع تمزقن وتشتتن ولم يصلحن إلا به.
وقال بعضهم : بل هو الأنثى، وتسمى الأمراء ، والنحل يسمى النحال، وذكر النحل في أشعار العرب كثير لعجب صنعتها ، وجليل ما يخرج الله تعالى من بطونها . قال الله تعالى : وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ (16/68،69).
[1/68] وتناهي ما جاء في ذكره من الشعر كثير ، كما قال أبو ذؤيب : ( من الطويل ) :
ولا ما تمج النحل في متمنع
فقد ذقته مستطرفا وصفا ليا
وكما قال الآخر ( من الطويل ) :
وإن حديثا منك لو تبذلينه
جنى النحل في أبكار عوذ مطافل