673 - أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْكُمَيْتِ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ وَهْبٍ الْهَمْدَانِيُّ ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مُوسَى قَالَ : مَرَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْمَدِينَةِ ، وَهُوَ يُرِيدُ مَكَّةَ ، فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا ، فَقَالَ : هَلْ بِالْمَدِينَةِ أَحَدٌ أَدْرَكَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ فَقَالُوا لَهُ : أَبُو حَازِمٍ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ ، قَالَ لَهُ : يَا أَبَا حَازِمٍ مَا هَذَا الْجَفَاءُ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَيُّ جَفَاءٍ رَأَيْتَ مِنِّي ؟ قَالَ : أَتَانِي وُجُوهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَمْ تَأْتِنِي . قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُعِيذُكَ بِاللهِ أَنْ تَقُولَ مَا لَمْ يَكُنْ مَا عَرَفْتَنِي قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ وَلَا أَنَا رَأَيْتُكَ ، [1/500] قَالَ : فَالْتَفَتَ سُلَيْمَانُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ ، فَقَالَ : أَصَابَ الشَّيْخُ وَأَخْطَأْتُ ، قَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ، مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ ؟ قَالَ : لِأَنَّكُمْ أَخْرَبْتُمُ الْآخِرَةَ وَعَمَّرْتُمُ الدُّنْيَا ، فَكَرِهْتُمْ أَنْ تَنْتَقِلُوا مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ ، قَالَ : أَصَبْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ ، فَكَيْفَ الْقُدُومُ غَدًا عَلَى اللهِ ؟ قَالَ : أَمَّا الْمُحْسِنُ فَكَالْغَائِبِ يَقْدُمُ عَلَى أَهْلِهِ ، وَأَمَّا الْمُسِيءُ فَكَالْآبِقِ يَقْدُمُ عَلَى مَوْلَاهُ ، فَبَكَى سُلَيْمَانُ ، وَقَالَ : لَيْتَ شِعْرِي مَا لَنَا عِنْدَ اللهِ ؟ قَالَ : اعْرِضْ عَمَلَكَ عَلَى كِتَابِ اللهِ ، قَالَ : وَأَيُّ مَكَانٍ أَجِدُهُ ؟ قَالَ : { إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } قَالَ سُلَيْمَانُ : فَأَيْنَ رَحْمَةُ اللهِ يَا أَبَا حَازِمٍ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : { رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ، فَأَيُّ عِبَادِ اللهِ أَكْرَمُ ؟ قَالَ : أُولُو الْمُرُوءَةِ وَالنُّهَى ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ، فَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : أَدَاءُ الْفَرَائِضِ مَعَ اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ ، قَالَ سُلَيْمَانُ : فَأَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : دُعَاءُ الْمُحْسَنِ إِلَيْهِ لِلْمُحْسِنِ ، قَالَ : فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : لِلسَّائِلِ الْبَائِسِ وَجُهْدُ الْمُقِلِّ ، لَيْسَ [1/501] فِيهَا مَنٌّ وَلَا أَذًى ، قَالَ : فَأَيُّ الْقَوْلِ أَعْدَلُ ؟ قَالَ : قَوْلُ الْحَقِّ عِنْدَ مَنْ تَخَافُهُ أَوْ تَرْجُوهُ ، قَالَ : فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ ؟ قَالَ : رَجُلٌ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللهِ وَدَلَّ النَّاسَ عَلَيْهَا ، قَالَ : فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَحْمَقُ ؟ قَالَ : رَجُلٌ انْحَطَّ فِي هَوَى أَخِيهِ وَهُوَ ظَالِمٌ ، فَبَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : أَصَبْتَ ، فَمَا تَقُولُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ؟ قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوَتُعْفِينِي ؟ قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : لَا ، وَلَكِنْ نَصِيحَةٌ تُلْقِيهَا إِلَيَّ ، قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ آبَاءَكَ قَهَرُوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ ، وَأَخَذُوا هَذَا الْمُلْكَ عَنْوَةً عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا رِضًا لَهُمْ ، حَتَّى قَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً ، فَقَدِ ارْتَحَلُوا عَنْهَا فَلَوْ شَعَرْتَ مَا قَالُوهُ وَمَا قِيلَ لَهُمْ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ : بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ ، قَالَ أَبُو حَازِمٍ : كَذَبْتَ إِنَّ اللهَ أَخَذَ مِيثَاقَ الْعُلَمَاءِ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : فَكَيْفَ لَنَا أَنْ نُصْلِحَ ؟ قَالَ : تَدَعُونَ الصَّلَفَ ، وَتَمَسَّكُونَ بِالْمُرُوءَةِ ، وَتَقْسِمُونَ بِالسَّوِيَّةِ ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : كَيْفَ لَنَا بِالْمَأْخَذِ بِهِ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : تَأْخُذُهُ مِنْ حِلِّهِ [1/502] وَتَضَعُهُ فِي أَهْلِهِ ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : هَلْ لَكَ يَا أَبَا حَازِمٍ أَنْ تَصْحَبَنَا فَتُصِيبَ مِنَّا وَنُصِيبَ مِنْكَ ؟ قَالَ : أَعُوذُ بِاللهِ ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : وَلِمَ ذَاكَ ؟ قَالَ : أَخْشَى أَنْ أَرْكَنَ إِلَيْكُمْ شَيْئًا قَلِيلًا فَيُذِيقَنِي اللهُ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : ارْفَعْ إِلَيْنَا حَوَائِجَكَ ، قَالَ : تُنْجِينِي مِنَ النَّارِ وَتُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ ؟ قَالَ سُلَيْمَانُ : لَيْسَ ذَاكَ إِلَيَّ ، قَالَ أَبُو حَازِمٍ : فَمَا لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ غَيْرُهَا ، قَالَ : فَادْعُ لِي ، قَالَ أَبُو حَازِمٍ : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ وَلِيَّكَ فَيَسِّرْهُ لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَدُوَّكَ فَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : قَطُّ ، قَالَ أَبُو حَازِمٍ : قَدْ أَوْجَزْتُ وَأَكْثَرْتُ ، إِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ ، فَمَا يَنْفَعُنِي أَنْ أَرْمِيَ عَنْ قَوْسٍ لَيْسَ لَهَا وَتَرٌ ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : أَوْصِنِي ، قَالَ : سَأُوصِيكَ وَأُوجِزُ : عَظِّمْ رَبَّكَ ، وَنَزِّهْهُ أَنْ يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ ، أَوْ يَفْقِدَكَ حَيْثُ أَمَرَكَ ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ بَعَثَ إِلَيْهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَكَتَبَ إِلَيْهِ : أَنْ أَنْفِقْهَا ، وَلَكَ عِنْدِي مِثْلُهَا كَثِيرٌ ، قَالَ : فَرَدَّهَا عَلَيْهِ ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أُعِيذُكَ بِاللهِ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُكَ إِيَّايَ هَزْلًا أَوْ رَدِّي عَلَيْكَ بَذْلًا ، وَمَا أَرْضَاهَا لَكَ فَكَيْفَ أَرْضَاهَا لِنَفْسِي ؟ وَكَتَبَ إِلَيْهِ : إِنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهَا رِعَاءً [1/503] يَسْقُونَ ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ جَارِيَتَيْنِ تَذُودَانِ فَسَأَلَهُمَا ، فَقَالَتَا : { لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْـزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ جَائِعًا خَائِفًا لَا يَأْمَنُ ، فَسَأَلَ رَبَّهُ ، وَلَمْ يَسْأَلِ النَّاسَ ، فَلَمْ يَفْطِنِ الرِّعَاءُ ، وَفَطِنَتِ الْجَارِيتَانِ ، فَلَمَّا رَجَعَتَا إِلَى أَبِيهِمَا أَخْبَرَتَاهُ بِالْقِصَّةِ وَبِقَوْلِهِ ، فَقَالَ أَبُوهُمَا وَهُوَ شُعَيْبٌ : هَذَا رَجُلٌ جَائِعٌ ، فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا : اذْهَبِي فَادْعِيهِ ، فَلَمَّا أَتَتْهُ عَظَّمَتْهُ وَغَطَّتْ وَجْهَهَا ، وَقَالَتْ : { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } فَشَقَّ عَلَى مُوسَى حِينَ ذَكَرَتْ { أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } وَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ يَتْبَعَهَا ، إِنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْجِبَالِ جَائِعًا مُسْتَوْحِشًا ، فَلَمَّا تَبِعَهَا هَبَّتِ الرِّيحُ فَجَعَلَتْ تَصْفِقُ ثِيَابَهَا عَلَى ظَهْرِهَا فَتَصِفُ لَهُ عَجِيزَتَهَا ، وَكَانَتْ ذَاتَ عَجُزٍ ، وَجَعَلَ مُوسَى يُعْرِضُ مَرَّةً وَيَغُضُّ أُخْرَى ، فَلَمَّا عِيلَ صَبْرُهُ ، نَادَاهَا : يَا أَمَةَ اللهِ كُونِي خَلْفِي وَأَرِينِي السَّمْتَ بِقَوْلِكِ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى شُعَيْبٍ إِذْ هُوَ بِالْعَشَاءِ مُهَيَّأٌ ، فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ : اجْلِسْ يَا شَابُّ فَتَعَشَّ ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى : أَعُوذُ بِاللهِ ، فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ : لِمَ ، أَمَا أَنْتَ جَائِعٌ ؟ قَالَ : بَلَى ، وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عِوَضًا لِمَا سَقَيْتُ لَهُمَا ، وَأَنَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ لَا نَبِيعُ شَيْئًا مِنْ دِينِنَا بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا ، فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ : لَا يَا شَابُّ ، وَلَكِنَّهَا عَادَتِي وَعَادَةُ آبَائِي نُقْرِي الضَّيْفَ ، وَنُطْعِمُ الطَّعَامَ ، فَجَلَسَ مُوسَى فَأَكَلَ ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمِائَةُ دِينَارٍ عِوَضًا لِمَا حَدَّثْتُ فَالْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ [1/504] الْخِنْزِيرِ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ أَحَلُّ مِنْ هَذِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِحَقٍّ لِي فِي بَيْتِ الْمَالِ فَلِي فِيهَا نُظَرَاءُ ، فَإِنْ سَاوَيْتَ بَيْنَنَا وَإِلَّا فَلَيْسَ لِي فِيهَا حَاجَةٌ .
673 - أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْكُمَيْتِ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ وَهْبٍ الْهَمْدَانِيُّ ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مُوسَى قَالَ : مَرَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْمَدِينَةِ ، وَهُوَ يُرِيدُ مَكَّةَ ، فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا ، فَقَالَ : هَلْ بِالْمَدِينَةِ أَحَدٌ أَدْرَكَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ فَقَالُوا لَهُ : أَبُو حَازِمٍ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ ، قَالَ لَهُ : يَا أَبَا حَازِمٍ مَا هَذَا الْجَفَاءُ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَيُّ جَفَاءٍ رَأَيْتَ مِنِّي ؟ قَالَ : أَتَانِي وُجُوهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَمْ تَأْتِنِي . قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُعِيذُكَ بِاللهِ أَنْ تَقُولَ مَا لَمْ يَكُنْ مَا عَرَفْتَنِي قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ وَلَا أَنَا رَأَيْتُكَ ، [1/500] قَالَ : فَالْتَفَتَ سُلَيْمَانُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ ، فَقَالَ : أَصَابَ الشَّيْخُ وَأَخْطَأْتُ ، قَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ، مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ ؟ قَالَ : لِأَنَّكُمْ أَخْرَبْتُمُ الْآخِرَةَ وَعَمَّرْتُمُ الدُّنْيَا ، فَكَرِهْتُمْ أَنْ تَنْتَقِلُوا مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ ، قَالَ : أَصَبْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ ، فَكَيْفَ الْقُدُومُ غَدًا عَلَى اللهِ ؟ قَالَ : أَمَّا الْمُحْسِنُ فَكَالْغَائِبِ يَقْدُمُ عَلَى أَهْلِهِ ، وَأَمَّا الْمُسِيءُ فَكَالْآبِقِ يَقْدُمُ عَلَى مَوْلَاهُ ، فَبَكَى سُلَيْمَانُ ، وَقَالَ : لَيْتَ شِعْرِي مَا لَنَا عِنْدَ اللهِ ؟ قَالَ : اعْرِضْ عَمَلَكَ عَلَى كِتَابِ اللهِ ، قَالَ : وَأَيُّ مَكَانٍ أَجِدُهُ ؟ قَالَ : { إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } قَالَ سُلَيْمَانُ : فَأَيْنَ رَحْمَةُ اللهِ يَا أَبَا حَازِمٍ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : { رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ، فَأَيُّ عِبَادِ اللهِ أَكْرَمُ ؟ قَالَ : أُولُو الْمُرُوءَةِ وَالنُّهَى ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ، فَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : أَدَاءُ الْفَرَائِضِ مَعَ اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ ، قَالَ سُلَيْمَانُ : فَأَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : دُعَاءُ الْمُحْسَنِ إِلَيْهِ لِلْمُحْسِنِ ، قَالَ : فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : لِلسَّائِلِ الْبَائِسِ وَجُهْدُ الْمُقِلِّ ، لَيْسَ [1/501] فِيهَا مَنٌّ وَلَا أَذًى ، قَالَ : فَأَيُّ الْقَوْلِ أَعْدَلُ ؟ قَالَ : قَوْلُ الْحَقِّ عِنْدَ مَنْ تَخَافُهُ أَوْ تَرْجُوهُ ، قَالَ : فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ ؟ قَالَ : رَجُلٌ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللهِ وَدَلَّ النَّاسَ عَلَيْهَا ، قَالَ : فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَحْمَقُ ؟ قَالَ : رَجُلٌ انْحَطَّ فِي هَوَى أَخِيهِ وَهُوَ ظَالِمٌ ، فَبَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : أَصَبْتَ ، فَمَا تَقُولُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ؟ قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوَتُعْفِينِي ؟ قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : لَا ، وَلَكِنْ نَصِيحَةٌ تُلْقِيهَا إِلَيَّ ، قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ آبَاءَكَ قَهَرُوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ ، وَأَخَذُوا هَذَا الْمُلْكَ عَنْوَةً عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا رِضًا لَهُمْ ، حَتَّى قَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً ، فَقَدِ ارْتَحَلُوا عَنْهَا فَلَوْ شَعَرْتَ مَا قَالُوهُ وَمَا قِيلَ لَهُمْ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ : بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ ، قَالَ أَبُو حَازِمٍ : كَذَبْتَ إِنَّ اللهَ أَخَذَ مِيثَاقَ الْعُلَمَاءِ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : فَكَيْفَ لَنَا أَنْ نُصْلِحَ ؟ قَالَ : تَدَعُونَ الصَّلَفَ ، وَتَمَسَّكُونَ بِالْمُرُوءَةِ ، وَتَقْسِمُونَ بِالسَّوِيَّةِ ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : كَيْفَ لَنَا بِالْمَأْخَذِ بِهِ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : تَأْخُذُهُ مِنْ حِلِّهِ [1/502] وَتَضَعُهُ فِي أَهْلِهِ ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : هَلْ لَكَ يَا أَبَا حَازِمٍ أَنْ تَصْحَبَنَا فَتُصِيبَ مِنَّا وَنُصِيبَ مِنْكَ ؟ قَالَ : أَعُوذُ بِاللهِ ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : وَلِمَ ذَاكَ ؟ قَالَ : أَخْشَى أَنْ أَرْكَنَ إِلَيْكُمْ شَيْئًا قَلِيلًا فَيُذِيقَنِي اللهُ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : ارْفَعْ إِلَيْنَا حَوَائِجَكَ ، قَالَ : تُنْجِينِي مِنَ النَّارِ وَتُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ ؟ قَالَ سُلَيْمَانُ : لَيْسَ ذَاكَ إِلَيَّ ، قَالَ أَبُو حَازِمٍ : فَمَا لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ غَيْرُهَا ، قَالَ : فَادْعُ لِي ، قَالَ أَبُو حَازِمٍ : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ وَلِيَّكَ فَيَسِّرْهُ لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَدُوَّكَ فَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : قَطُّ ، قَالَ أَبُو حَازِمٍ : قَدْ أَوْجَزْتُ وَأَكْثَرْتُ ، إِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ ، فَمَا يَنْفَعُنِي أَنْ أَرْمِيَ عَنْ قَوْسٍ لَيْسَ لَهَا وَتَرٌ ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : أَوْصِنِي ، قَالَ : سَأُوصِيكَ وَأُوجِزُ : عَظِّمْ رَبَّكَ ، وَنَزِّهْهُ أَنْ يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ ، أَوْ يَفْقِدَكَ حَيْثُ أَمَرَكَ ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ بَعَثَ إِلَيْهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَكَتَبَ إِلَيْهِ : أَنْ أَنْفِقْهَا ، وَلَكَ عِنْدِي مِثْلُهَا كَثِيرٌ ، قَالَ : فَرَدَّهَا عَلَيْهِ ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أُعِيذُكَ بِاللهِ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُكَ إِيَّايَ هَزْلًا أَوْ رَدِّي عَلَيْكَ بَذْلًا ، وَمَا أَرْضَاهَا لَكَ فَكَيْفَ أَرْضَاهَا لِنَفْسِي ؟ وَكَتَبَ إِلَيْهِ : إِنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهَا رِعَاءً [1/503] يَسْقُونَ ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ جَارِيَتَيْنِ تَذُودَانِ فَسَأَلَهُمَا ، فَقَالَتَا : { لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْـزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ جَائِعًا خَائِفًا لَا يَأْمَنُ ، فَسَأَلَ رَبَّهُ ، وَلَمْ يَسْأَلِ النَّاسَ ، فَلَمْ يَفْطِنِ الرِّعَاءُ ، وَفَطِنَتِ الْجَارِيتَانِ ، فَلَمَّا رَجَعَتَا إِلَى أَبِيهِمَا أَخْبَرَتَاهُ بِالْقِصَّةِ وَبِقَوْلِهِ ، فَقَالَ أَبُوهُمَا وَهُوَ شُعَيْبٌ : هَذَا رَجُلٌ جَائِعٌ ، فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا : اذْهَبِي فَادْعِيهِ ، فَلَمَّا أَتَتْهُ عَظَّمَتْهُ وَغَطَّتْ وَجْهَهَا ، وَقَالَتْ : { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } فَشَقَّ عَلَى مُوسَى حِينَ ذَكَرَتْ { أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } وَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ يَتْبَعَهَا ، إِنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْجِبَالِ جَائِعًا مُسْتَوْحِشًا ، فَلَمَّا تَبِعَهَا هَبَّتِ الرِّيحُ فَجَعَلَتْ تَصْفِقُ ثِيَابَهَا عَلَى ظَهْرِهَا فَتَصِفُ لَهُ عَجِيزَتَهَا ، وَكَانَتْ ذَاتَ عَجُزٍ ، وَجَعَلَ مُوسَى يُعْرِضُ مَرَّةً وَيَغُضُّ أُخْرَى ، فَلَمَّا عِيلَ صَبْرُهُ ، نَادَاهَا : يَا أَمَةَ اللهِ كُونِي خَلْفِي وَأَرِينِي السَّمْتَ بِقَوْلِكِ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى شُعَيْبٍ إِذْ هُوَ بِالْعَشَاءِ مُهَيَّأٌ ، فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ : اجْلِسْ يَا شَابُّ فَتَعَشَّ ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى : أَعُوذُ بِاللهِ ، فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ : لِمَ ، أَمَا أَنْتَ جَائِعٌ ؟ قَالَ : بَلَى ، وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عِوَضًا لِمَا سَقَيْتُ لَهُمَا ، وَأَنَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ لَا نَبِيعُ شَيْئًا مِنْ دِينِنَا بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا ، فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ : لَا يَا شَابُّ ، وَلَكِنَّهَا عَادَتِي وَعَادَةُ آبَائِي نُقْرِي الضَّيْفَ ، وَنُطْعِمُ الطَّعَامَ ، فَجَلَسَ مُوسَى فَأَكَلَ ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمِائَةُ دِينَارٍ عِوَضًا لِمَا حَدَّثْتُ فَالْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ [1/504] الْخِنْزِيرِ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ أَحَلُّ مِنْ هَذِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِحَقٍّ لِي فِي بَيْتِ الْمَالِ فَلِي فِيهَا نُظَرَاءُ ، فَإِنْ سَاوَيْتَ بَيْنَنَا وَإِلَّا فَلَيْسَ لِي فِيهَا حَاجَةٌ .