حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ ، نَا النَّضْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَصَمُّ ، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا ، عَنْ عَاصِمٍ ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ : كَانَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ لَا يَسْأَلُونَ عَنْ الْإِسْنَادِ ، فَلَمَّا وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ سَأَلُوا عَنْ الْإِسْنَادِ لِكَيْ يَأْخُذُوا حَدِيثَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَيَدَعُوا حَدِيثَ أَهْلِ الْبِدَعِ .

( نَا النَّضْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَصَمُّ ) ذَكَرَهُ ابْنُ [4/388] حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ ( عَنْ عَاصِمٍ ) هُوَ عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلُ ( فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ ) أَيْ بِظُهُورِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ ( وَيَدَعُوا ) بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ يَتْرُكُوا مِنْ وَدَعَ يَدَعُ ( حَدِيثَ أَهْلِ الْبِدَعِ ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ الْبِدْعَةِ وَهِيَ اعْتِقَادُ أَمْرٍ مُحْدَثٍ عَلَى خِلَافِ مَا عُرِفَ فِي الدِّينِ ، وَمَا جَاءَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ بِنَوْعِ شُبْهَةٍ وَتَأْوِيلٍ لَا بِطَرِيقِ جُحُودٍ وَإِنْكَارٍ فَإِنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ ، وَحَدِيثُ الْمُبْتَدِعِ مَرْدُودٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ إِنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِصِدْقِ اللَّهْجَةِ وَصِيَانَةِ اللِّسَانِ قُبِلَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِأَمْرٍ مُتَوَاتِرٍ فِي الشَّرْعِ وَقَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ مِنَ الدِّينِ فَهُوَ مَرْدُودٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُقْبَلُ ، وَإِنْ كَفَّرَهُ الْمُخَالِفُونَ مَعَ وُجُودِ ضَبْطٍ وَوَرَعٍ وَتَقْوَى وَاحْتِيَاطٍ وَصِيَانَةٍ .
وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ دَاعِيًا إِلَى بِدْعَتِهِ وَمُرَوِّجًا لَهُ رُدَّ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ قُبِلَ ، إِلَّا أَنْ يَرْوِيَ شَيْئًا يُقَوِّي بِهِ بِدْعَتَهُ . فَهُوَ مَرْدُودٌ قَطْعاً . وَبِالْجُمْلَةِ الْأَئِمَّةُ مُخْتَلِفُونَ فِي أَخْذِ الْحَدِيثِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ وَأَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ الزَّائِغَةِ .
وَقَالَ صَاحِبُ جَامِعِ الْأُصُولِ : أَخَذَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ مِنْ فِرْقَةِ الْخَوَارِجِ وَالْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْقَدَرِ وَالتَّشَيُّعِ وَالرَّفْضِ ، وَسَائِرِ أَصْحَابِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ ، وَقَدْ احْتَاطَ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ وَتَوَرَّعُوا مِنْ أَخْذِ حَدِيثٍ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ نِيَّاتٌ انْتَهَى .
وَلَا شَكَّ أَنَّ أَخْذَ الْحَدِيثِ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ يَكُونُ بَعْدَ التَّحَرِّي وَالِاسْتِصْوَابِ وَمَعَ ذَلِكَ الِاحْتِيَاطِ فِي عَدَمِ الْأَخْذِ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفِرَقَ كَانُوا يَضَعُونَ الْأَحَادِيثَ لِتَرْوِيجِ مَذَاهِبِهِمْ ، وَكَانُوا يُقِرُّونَ بِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ ، كَذَا فِي الْمُقَدِّمَةِ لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْحَقِّ الدَّهْلَوِيِّ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَأَصْحَابِ الْأُصُولِ : الْمُبْتَدِعُ الَّذِي يُكَفَّرُ بِبِدْعَتِهِ لَا يُقْبَلُ رِوَايَتُهُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يَكْفُرُ بِهَا فَاخْتَلَفُوا فِي رِوَايَتِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهَا مُطْلَقًا لِفِسْقِهِ وَلَا يَنْفَعُهُ التَّأْوِيلُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهَا مُطْلَقًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ الْكَذِبَ فِي نُصْرَةِ مَذْهَبِهِ أَوْ لِأَهْلِ مَذْهَبِهِ سَوَاءً كَانَ دَاعِيَةً إِلَى بِدْعَتِهِ أَوْ غَيْرَ دَاعِيَةٍ ، وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ إِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لِقَوْلِهِ : أَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِلَّا الْخَطَّابِيَّةَ مِنَ الرَّافِضَةِ ، لِكَوْنِهِمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُقْبَلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً إِلَى بِدْعَتِهِ وَلَا يُقْبَلُ إِذَا كَانَ دَاعِيَةً . وَهَذَا مَذْهَبُ كَثِيرِينَ أَوِ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْأَعْدَلُ الصَّحِيحُ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي غَيْرِ الدَّاعِيَةِ وَاتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ قَبُولِ الدَّاعِيَةِ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ بْنُ حِبَّانَ بِكَسْرِ الْحَاءِ : لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِالدَّاعِيَةِ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا قَاطِبَةً لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ جِدّاً ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الِاحْتِجَاجُ بِكَثِيرِينَ مِنَ الْمُبْتَدِعِينَ غَيْرِ الدُّعَاةِ . وَلَمْ يَزَلِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى قَبُولِ الرِّوَايَةِ مِنْهُمْ وَالِاحْتِجَاجِ بِهَا وَالسَّمَاعِ مِنْهُمْ وَإِسْمَاعِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ مِنْهُمُ انْتَهَى .