بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كِتَاب التَّعْبِيرِ
1 - بَاب أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ
6982 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ عُقَيْلٍ ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ " ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءً فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا ، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ فَقَالَ : اقْرَأْ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ . فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ ، فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ ، أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حَتَّى بَلَغَ - مَا لَمْ يَعْلَمْ فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ : زَمِّلُونِي ، زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ : يَا خَدِيجَةُ مَا لِي ؟ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ وَقَالَ : قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ، فَقَالَتْ لَهُ : كَلَّا ، أَبْشِرْ ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ . ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ - وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخُو أَبِيهَا - وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ فَيَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ الْإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : أَيْ ابْنَ عَمِّ ، اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ . فَقَالَ وَرَقَةُ : ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَأَى ، فَقَالَ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى ، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ فَقَالَ وَرَقَةُ : نَعَمْ ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا . ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ وَتَقِرُّ نَفْسُهُ فَيَرْجِعُ ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ " . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَالِقُ الإِصْبَاحِ ضَوْءُ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ ، وَضَوْءُ الْقَمَرِ بِاللَّيْلِ .


[12/368] [12/369] قَوْلُهُ : ( بَابٌ ) بِالتَّنْوِينِ ( أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ ) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ ، وَالْقَابِسِيِّ ، وَلِأَبِي ذَرٍّ مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لَهُ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَمْلِي لَفْظُ : " بَابٌ " وَلِغَيْرِهِمْ " بَابُ التَّعْبِيرِ وَأَوَّلِ مَا بُدِئَ بِهِ " إِلَى آخِرِهِ ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ " كِتَابُ التَّعْبِيرِ " وَلَمْ يَزِدْ ، وَثَبَتَتِ الْبَسْمَلَةُ أَوَّلًا لِلْجَمِيعِ ، وَالتَّعْبِيرُ خَاصٌّ بِتَفْسِيرِ الرُّؤْيَا وَهُوَ الْعُبُورُ مِنْ ظَاهِرِهَا إِلَى بَاطِنِهَا وَقِيلَ النَّظَرُ فِي الشَّيْءِ فَيَعْتَبِرُ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ حَتَّى يَحْصُلَ عَلَى فَهْمِهِ ؛ حَكَاهُ الْأَزْهَرِيُّ ، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ الرَّاغِبُ وَقَالَ : أَصْلُهُ مِنَ الْعَبْرِ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ وَهُوَ التَّجَاوُزُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ، وَخَصُّوا تَجَاوُزَ الْمَاءِ بِسِبَاحَةٍ أَوْ فِي سَفِينَةٍ أَوْ غَيْرِهَا بِلَفْظِ الْعُبُورِ بِضَمَّتَيْنِ ، وَعَبَرَ الْقَوْمُ إِذَا مَاتُوا كَأَنَّهُمْ جَازُوا الْقَنْطَرَةَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ ، قَالَ : وَالِاعْتِبَارُ وَالْعِبْرَةُ الْحَالَةُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُشَاهَدِ إِلَى مَا لَيْسَ بِمُشَاهَدٍ ، وَيُقَالُ عَبَرْتُ الرُّؤْيَا بِالتَّخْفِيفِ إِذَا فَسَّرْتُهَا وَعَبَّرْتُهَا بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ ، وَأَمَّا الرُّؤْيَا فَهِيَ مَا يَرَاهُ الشَّخْصُ فِي مَنَامِهِ وَهِيَ بِوَزْنِ فُعْلَى وَقَدْ تُسَهَّلُ الْهَمْزَةُ ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ : هِيَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ كَالْيُسْرَى ، فَلَمَّا جُعِلَتِ اسْمًا لِمَا يَتَخَيَّلُهُ النَّائِمُ أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ .
قَالَ الرَّاغِبُ : وَالرُّؤْيَةُ بِالْهَاءِ إِدْرَاكُ الْمَرْءِ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ ، وَتُطْلَقُ عَلَى مَا يُدْرَكُ بِالتَّخَيُّلِ نَحْوَ أَرَى أَنَّ زَيْدًا مُسَافِرٌ ، وَعَلَى التَّفَكُّرِ النَّظَرِيِّ نَحْوَ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ وَعَلَى الرَّأْيِ وَهُوَ اعْتِقَادُ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ انْتَهَى .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي " الْمُفْهِمِ " : قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَدْ تَجِيءُ الرُّؤْيَةُ بِمَعْنَى الرُّؤْيَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ فَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا رَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ مِنَ الْعَجَائِبِ ، وَكَانَ الْإِسْرَاءُ جَمِيعُهُ فِي الْيَقَظَةِ .
قُلْتُ : وَعَكَسَهُ بَعْضُهُمْ فَزَعَمَ أَنَّهُ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ : إِنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مَنَامًا وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْإِسْرَاءِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهَا رُؤْيَا عَيْنٍ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ فِي تَسْمِيَةِ ذَلِكَ رُؤْيَا لِكَوْنِ أُمُورِ الْغَيْبِ مُخَالِفَةً لِرُؤْيَا الشَّهَادَةِ فَأَشْبَهَتْ مَا فِي الْمَنَامِ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : الرُّؤْيَا إِدْرَاكَاتٌ عَلَّقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْعَبْدِ عَلَى يَدَيْ مَلَكٍ أَوْ شَيْطَانٍ إِمَّا بِأَسْمَائِهَا أَيْ حَقِيقَتِهَا وَإِمَّا بِكُنَاهَا أَيْ بِعِبَارَتِهَا وَإِمَّا تَخْلِيطٌ ، وَنَظِيرُهَا فِي الْيَقَظَةِ : الْخَوَاطِرُ ؛ فَإِنَّهَا قَدْ تَأْتِي عَلَى نَسَقٍ فِي قِصَّةٍ وَقَدْ تَأْتِي مُسْتَرْسِلَةً غَيْرَ مُحَصَّلَةٍ ، هَذَا حَاصِلُ قَوْلِ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ ، قَالَ : وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ إِلَى أَنَّهَا اعْتِقَادَاتٌ ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الرَّائِيَ قَدْ يَرَى نَفْسَهُ بَهِيمَةً أَوْ طَائِرًا مَثَلًا ، وَلَيْسَ هَذَا إِدْرَاكًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادًا لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ قَدْ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَقَدِ ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ، وَالَّذِي يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الطَّيِّبِ مِنْ قَبِيلِ الْمَثَلِ ، فَالْإِدْرَاكُ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لَا بِأَصْلِ الذَّاتِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ ، كَثُرَ كَلَامُ النَّاسِ فِي حَقِيقَةِ الرُّؤْيَا ، وَقَالَ فِيهَا غَيْرُ الْإِسْلَامِيِّينَ أَقَاوِيلَ كَثِيرَةً مُنْكَرَةً ، لِأَنَّهُمْ حَاوَلُوا الْوُقُوفَ عَلَى حَقَائِقَ لَا تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَلَا يَقُومُ عَلَيْهَا بُرْهَانٌ ، وَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِالسَّمْعِ فَاضْطَرَبَتْ أَقْوَالُهُمْ ، فَمَنْ يَنْتَمِي إِلَى الطِّبِّ يَنْسُبُ جَمِيعَ الرُّؤْيَا إِلَى الْأَخْلَاطِ فَيَقُولُ : مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْبَلْغَمُ رَأَى أَنَّهُ يَسْبَحُ فِي الْمَاءِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لِمُنَاسَبَةِ الْمَاءِ طَبِيعَةَ الْبَلْغَمِ ، وَمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الصَّفْرَاءُ رَأَى النِّيرَانَ وَالصُّعُودَ فِي الْجَوِّ ، وَهَكَذَا إِلَى آخِرِهِ ، وَهَذَا وَإِنْ جَوَّزَهُ الْعَقْلُ وَجَازَ أَنْ يُجْرِيَ اللَّهُ الْعَادَةَ بِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَلَا اطَّرَدَتْ بِهِ عَادَةٌ ، وَالْقَطْعُ فِي مَوْضِعِ التَّجْوِيزِ غَلَطٌ .
وَمَنْ يَنْتَمِي إِلَى الْفَلْسَفَةِ يَقُولُ : إِنَّ صُوَرَ مَا يَجْرِي فِي الْأَرْضِ هِيَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ كَالنُّقُوشِ فَمَا حَاذَى بَعْضَ النُّقُوشِ مِنْهَا انْتَقَشَ فِيهَا ، قَالَ : وَهَذَا أَشَدُّ فَسَادًا مِنَ الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ تَحَكُّمًا لَا بُرْهَانَ عَلَيْهِ وَالِانْتِقَاشُ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ ، وَأَكْثَرُ مَا يَجْرِي فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ الْأَعْرَاضُ ، وَالْأَعْرَاضُ لَا يُنْتَقَشُ فِيهَا ، قَالَ : وَالصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِي قَلْبِ النَّائِمِ اعْتِقَادَاتٍ كَمَا يَخْلُقُهَا فِي قَلْبِ الْيَقْظَانِ فَإِذَا خَلَقَهَا فَكَأَنَّهُ جَعَلَهَا عَلَمًا عَلَى أُمُورٍ أُخْرَى يَخْلُقُهَا فِي ثَانِي الْحَالِ ، وَمَهْمَا وَقَعَ مِنْهَا [12/370] عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَقَدِ فَهُوَ كَمَا يَقَعُ لِلْيَقْظَانِ ، وَنَظِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْغَيْمَ عَلَامَةً عَلَى الْمَطَرِ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ ، وَتِلْكَ الِاعْتِقَادَاتُ تَقَعُ تَارَةً بِحَضْرَةِ الْمَلَكِ فَيَقَعُ بَعْدَهَا مَا يَسُرُّ أَوْ بِحَضْرَةِ الشَّيْطَانِ فَيَقَعُ بَعْدَهَا مَا يَضُرُّ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : سَبَبُ تَخْلِيطِ غَيْرِ الشَّرْعِيِّينَ إِعْرَاضُهُمْ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الرُّؤْيَا إِنَّمَا هِيَ مِنْ إِدْرَاكَاتِ النَّفْسِ وَقَدْ غُيِّبَ عَنَّا عِلْمُ حَقِيقَتِهَا أَيِ النَّفْسِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا نَعْلَمَ عِلْمَ إِدْرَاكَاتِهَا ، بَلْ كَثِيرٌ مِمَّا انْكَشَفَ لَنَا مِنْ إِدْرَاكَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ إِنَّمَا نَعْلَمُ مِنْهُ أُمُورًا جُمَلِيَّةً لَا تَفْصِيلِيَّةً .
وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي " الْمُفْهِمِ " عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَكًا يَعْرِضُ الْمَرْئِيَّاتِ عَلَى الْمَحَلِّ الْمُدْرَكِ مِنَ النَّائِمِ فَيَمْثُلُ لَهُ صُورَةٌ مَحْسُوسَةٌ ، فَتَارَةً تَكُونُ أَمْثِلَةً مُوَافِقَةً لِمَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ وَتَارَةً تَكُونُ أَمْثِلَةً لِمَعَانٍ مَعْقُولَةٍ ، وَتَكُونُ فِي الْحَالَيْنِ مُبَشِّرَةً وَمُنْذِرَةً ، قَالَ : وَيُحْتَاجُ فِيمَا نَقَلَهُ عَنِ الْمَلَكِ إِلَى تَوْقِيفٍ مِنَ الشَّرْعِ وَإِلَّا فَجَائِزٌ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تِلْكَ الْمِثَالَاتِ مِنْ غَيْرِ مَلَكٍ ، قَالَ : وَقِيلَ إِنَّ الرُّؤْيَا إِدْرَاكُ أَمْثِلَةٍ مُنْضَبِطَةٍ فِي التَّخَيُّلِ جَعَلَهَا اللَّهُ أَعْلَامًا عَلَى مَا كَانَ أَوْ يَكُونُ .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : اخْتُلِفَ فِي النَّائِمِ الْمُسْتَغْرِقِ فَقِيلَ لَا تَصِحُّ رُؤْيَاهُ وَلَا ضَرْبَ الْمَثَلِ لَهُ لِأَنَّ هَذَا لَا يُدْرِكُ شَيْئًا مَعَ اسْتِغْرَاقِ أَجْزَاءِ قَلْبِهِ لِأَنَّ النَّوْمَ يُخْرِجُ الْحَيَّ عَنْ صِفَاتِ التَّمْيِيزِ وَالظَّنِّ وَالتَّخَيُّلِ كَمَا يُخْرِجُهُ عَنْ صِفَةِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ يَصِحُّ لِلنَّائِمِ مَعَ اسْتِغْرَاقِ أَجْزَاءِ قَلْبِهِ بِالنَّوْمِ أَنْ يَكُونَ ظَانًّا وَمُتَخَيِّلًا ، وَأَمَّا الْعِلْمُ فَلَا لِأَنَّ النَّوْمَ آفَةٌ تَمْنَعُ حُصُولَ الِاعْتِقَادَاتِ الصَّحِيحَةِ ، نَعَمْ إِنْ كَانَ بَعْضُ أَجْزَاءِ قَلْبِهِ لَمْ يَحِلَّ فِيهِ النَّوْمُ فَيَصِحَّ وَبِهِ يُضْرَبُ الْمَثَلُ وَبِهِ يَرَى مَا يَتَخَيَّلُهُ وَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ لِأَنَّ رُؤْيَاهُ لَيْسَتْ عَلَى حَقِيقَةِ وُجُودِ الْعِلْمِ وَلَا صِحَّةِ الْمَيْزِ ، وَإِنَّمَا بَقِيَتْ فِيهِ بَقِيَّةٌ يُدْرِكُ بِهَا ضَرْبَ الْمَثَلِ .
وَأَيَّدَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ ، وَمِنْ ثَمَّ احْتَرَزَ الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ : " الْمُدْرِكُ " مِنَ النَّائِمِ ، وَلِذَا قَالَ " مُنْضَبِطَة فِي التَّخَيُّلِ " لِأَنَّ الرَّائِيَ لَا يَرَى فِي مَنَامِهِ إِلَّا مِنْ نَوْعِ مَا يُدْرِكُهُ فِي الْيَقَظَةِ بِحِسِّهِ ، إِلَّا أَنَّ التَّخَيُّلَاتِ قَدْ تُرَكَّبُ لَهُ فِي النَّوْمِ تَرْكِيبًا يَحْصُلُ بِهِ صُورَةٌ لَا عَهْدَ لَهُ بِهَا يَكُونُ عَلَمًا عَلَى أَمْرٍ نَادِرٍ كَمَنْ رَأَى رَأْسَ إِنْسَانٍ عَلَى جَسَدِ فَرَسٍ لَهُ جَنَاحَانِ مَثَلًا وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ : " أَعْلَامًا " إِلَى الرُّؤْيَا الصَّحِيحَةِ الْمُنْتَظِمَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى شُرُوطِهَا ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَالْعُقَيْلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : " لَقِيَ عُمَرُ ، عَلِيًّا فَقَالَ : يَا أَبَا الْحَسَنِ ، الرَّجُلُ يَرَى الرُّؤْيَا فَمِنْهَا مَا يَصْدُقُ وَمِنْهَا مَا يَكْذِبُ : قَالَ نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : مَا مِنْ عَبْدٍ وَلَا أَمَةٍ يَنَامُ فَيَمْتَلِئُ نَوْمًا إِلَّا تَخْرُجُ بِرُوحِهِ إِلَى الْعَرْشِ ، فَالَّذِي لَا يَسْتَيْقِظُ دُونَ الْعَرْشِ فَتِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي تَصْدُقُ وَالَّذِي يَسْتَيْقِظُ دُونَ الْعَرْشِ فَتِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي تَكْذِبُ ، قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي تَلْخِيصِهِ : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ لَمْ يُصَحِّحْهُ الْمُؤَلِّفُ ، وَلَعَلَّ الْآفَةَ مِنَ الرَّاوِي عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ .
قُلْتُ : هُوَ أَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيُّ الْخُرَاسَانِيُّ ذَكَرَهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ ، وَقَالَ : إِنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ ، ثُمَّ ذَكَرَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ إِسْرَائِيلَ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنِ الْحَارِثِ ، عَنْ عَلِيٍّ بِبَعْضِهِ ، وَذَكَرَ فِيهِ اخْتِلَافًا فِي وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ
، وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا غَيْرَ مَعْزُوٍّ : " إِنَّ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الْعَبْدَ رَبُّهُ فِي الْمَنَامِ " .
وَوُجِدَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي " نَوَادِرِ الْأُصُولِ لِلتِّرْمِذِيِّ " مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصمات أَخْرَجَهُ فِي الْأَصْلِ الثَّامِنِ وَالسَّبْعِينَ وَهُوَ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ شَيْخِهِ عُمَرَ بْنِ أَبِي عُمَرَ ، وَهُوَ وَاهٍ وَفِي سَنَدِهِ جُنَيْدٌ ، قَالَ ابْنُ مَيْمُونٍ ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ عُبَادَةَ
قَالَ الْحَكِيمُ : قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَيْ فِي الْمَنَامِ ، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ ، فَالْوَحْيُ لَا يَدْخُلُهُ خَلَلٌ لِأَنَّهُ مَحْرُوسٌ بِخِلَافِ رُؤْيَا غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهَا قَدْ يَحْضُرُهَا الشَّيْطَانُ .
وَقَالَ الْحَكِيمُ أَيْضًا : وَكَّلَ اللَّهُ بِالرُّؤْيَا مَلَكًا اطَّلَعَ عَلَى أَحْوَالِ بَنِي آدَمَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَيَنْسَخُ مِنْهَا وَيَضْرِبُ لِكُلٍّ عَلَى قِصَّتِهِ مَثَلًا ، فَإِذَا نَامَ مَثَّلَ لَهُ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ عَلَى طَرِيقِ الْحِكْمَةِ [12/371] لِتَكُونَ لَهُ بُشْرَى أَوْ نِذَارَةً أَوْ مُعَاتَبَةً ، وَالْآدَمِيُّ قَدْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ لِشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمَا فَهُوَ يَكِيدُهُ بِكُلِّ وَجْهٍ وَيُرِيدُ إِفْسَادَ أُمُورِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ فَيَلْبِسُ عَلَيْهِ رُؤْيَاهُ إِمَّا بِتَغْلِيطِهِ فِيهَا وَإِمَّا بِغَفْلَتِهِ عَنْهَا ، ثُمَّ جَمِيعُ الْمَرَائِي تَنْحَصِرُ عَلَى قِسْمَيْنِ : الصَّادِقَةِ وَهِيَ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَقَدْ تَقَعُ لِغَيْرِهِمْ بِنُدُورٍ وَهِيَ الَّتِي تَقَعُ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى وَفْقِ مَا وَقَعَتْ فِي النَّوْمِ ، وَالْأَضْغَاثِ وَهِيَ لَا تُنْذِرُ بِشَيْءٍ وَهِيَ أَنْوَاعٌ :
الْأَوَّلُ : تَلَاعُبُ الشَّيْطَانِ لِيُحْزِنَ الرَّائِيَ كَأَنْ يَرَى أَنَّهُ قَطَعَ رَأْسَهُ وَهُوَ يَتْبَعُهُ ، أَوْ رَأَى أَنَّهُ وَاقِعٌ فِي هَوْلٍ وَلَا يَجِدُ مَنْ يُنْجِدُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ .
الثَّانِي : أَنْ يَرَى أَنَّ بَعْضَ الْمَلَائِكَةِ تَأْمُرُهُ أَنْ يَفْعَلَ الْمُحَرَّمَاتِ مَثَلًا وَنَحْوَهُ مِنَ الْمُحَالِ عَقْلًا .
الثَّالِثُ : أَنْ يَرَى مَا تَتَحَدَّثُ بِهِ نَفْسُهُ فِي الْيَقَظَةِ أَوْ يَتَمَنَّاهُ فَيَرَاهُ كَمَا هُوَ فِي الْمَنَامِ وَكَذَا رُؤْيَةُ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ فِي الْيَقَظَةِ أَوْ مَا يَغْلِبُ عَلَى مِزَاجِهِ وَيَقَعُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ غَالِبًا وَعَنِ الْحَالِ كَثِيرًا وَعَنِ الْمَاضِي قَلِيلًا .
ثُمَّ سَاقَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الصَّحِيحِ ، وَقَدْ شَرَحْتُهُ هُنَاكَ ثُمَّ اسْتَدْرَكْتُ مَا فَاتَ مِنْ شَرْحِهِ فِي تَفْسِيرِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وَسَأَذْكُرُ هُنَا مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ غَالِبًا مِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ شَرْحِهِ ، وَمَدَارُهُ عَلَى الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَقَدْ سَاقَهُ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ ، عَنِ اللَّيْثِ ، عَنْ عُقَيْلٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَكِنَّهُ سَاقَهُ عَلَى لَفْظِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ، وَقَرَنَهُ فِي التَّفْسِيرِ بِيُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِهِ ، ثُمَّ قَرَنَهُ هُنَا بِمَعْمَرٍ وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِهِ .
وَقَوْلُهُ هُنَا : " أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ قَالَ : قَالَ الزُّهْرِيُّ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ " وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِثْلَهُ لَكِنْ فِيهِ " وَأَخْبَرَنِي " بِالْوَاوِ لَا بِالْفَاءِ وَهَذِهِ الْفَاءُ مُعَقِّبَةٌ لِشَيْءٍ مَحْذُوفٍ وَكَذَلِكَ الْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ " حَيْثُ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مُرْسَلًا فَذَكَرَ قِصَّةَ بَدْءِ الْوَحْيِ مُخْتَصَرَةً وَنُزُولِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ إِلَى قَوْلِهِ : خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ : فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَسَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ : " قَالَتْ عَائِشَةُ " فَذَكَرَ الْحَدِيثَ مُطَوَّلًا .
قَوْلُهُ : ( الصَّالِحَةُ ) فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ " الصَّادِقَةُ " وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُمُورِ الْآخِرَةِ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُمُورِ الدُّنْيَا فَالصَّالِحَةُ فِي الْأَصْلِ أَخَصُّ ، فَرُؤْيَا النَّبِيِّ كُلُّهَا صَادِقَةٌ وَقَدْ تَكُونُ صَالِحَةً وَهِيَ الْأَكْثَرُ ، وَغَيْرَ صَالِحَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِلدُّنْيَا كَمَا وَقَعَ فِي الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ ، وَأَمَّا رُؤْيَا غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ : إِنْ فَسَّرْنَا الصَّادِقَةَ بِأَنَّهَا الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ وَأَمَّا إِنْ فَسَّرْنَاهَا بِأَنَّهَا غَيْرُ الْأَضْغَاثِ فَالصَّالِحَةُ أَخَصُّ مُطْلَقًا .
وَقَالَ الْإِمَامُ نَصْرُ بْنُ يَعْقُوبَ الدَّيْنَوَرِيُّ فِي التَّعْبِيرِ الْقَادِرِيِّ : الرُّؤْيَةُ الصَّادِقَةُ مَا يَقَعُ بِعَيْنِهِ أَوْ مَا يُعَبَّرُ فِي الْمَنَامِ أَوْ يُخْبَرُ بِهِ مَا لَا يَكْذِبُ وَالصَّالِحَةُ مَا يَسُرُّ .
قَوْلُهُ : ( إِلَّا جَاءَتْهُ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ " جَاءَتْ " كَرِوَايَةِ عُقَيْلٍ ، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ : إِنَّمَا شَبَّهَهَا بِفَلَقِ الصُّبْحِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ شَمْسَ النُّبُوَّةِ كَانَتِ الرُّؤْيَا مَبَادِيَ أَنْوَارِهَا فَمَا زَالَ ذَلِكَ النُّورُ يَتَّسِعُ حَتَّى أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ فَمَنْ كَانَ بَاطِنُهُ نُورِيًّا كَانَ فِي التَّصْدِيقِ بَكْرِيًّا كَأَبِي بَكْرٍ وَمَنْ كَانَ بَاطِنُهُ مُظْلِمًا كَانَ فِي التَّكْذِيبِ خُفَّاشًا كَأَبِي جَهْلٍ ، وَبَقِيَّةُ النَّاسِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَنْزِلَتَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا أُعْطِيَ مِنَ النُّورِ .
قَوْلُهُ : ( يَأْتِي حِرَاءً ) قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ : الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِهِ بِالتَّخَلِّي فِيهِ أَنَّ الْمُقِيمَ فِيهِ كَانَ يُمْكِنُهُ رُؤْيَةَ الْكَعْبَةِ فَيَجْتَمِعُ لِمَنْ يَخْلُو فِيهِ ثَلَاثُ عِبَادَاتٍ : الْخَلْوَةُ ، وَالتَّعَبُّدُ ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْبَيْتِ .
قُلْتُ : وَكَأَنَّهُ مِمَّا بَقِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ أُمُورِ الشَّرْعِ عَلَى سُنَنِ الِاعْتِكَافِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الزَّمَنَ الَّذِي كَانَ يَخْلُو فِيهِ كَانَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَأَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَفْعَلُهُ كَمَا كَانَتْ تَصُومُ عَاشُورَاءَ ، وَيُزَادُ هُنَا أَنَّهُمْ إِنَّمَا لَمْ يُنَازِعُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَارِ حِرَاءٍ مَعَ [12/372] مَزِيدِ الْفَضْلِ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ جَدَّهُ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ أَوَّلُ مَنْ كَانَ يَخْلُو فِيهِ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهُ لِجَلَالَتِهِ وَكِبَرِ سِنِّهِ فَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ كَانَ يَتَأَلَّهُ ، فَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْلُو بِمَكَانِ جَدِّهِ وَسَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ أَعْمَامُهُ لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُ حِرَاءٍ وَإِنْ كَانَ الْأَفْصَحُ فِيهِ كَسْرُ أَوَّلِهِ وَبِالْمَدِّ وَحُكِيَ تَثْلِيثُ أَوَّلِهِ مَعَ الْمَدِّ وَالْقَصْرِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَالصَّرْفِ وَعَدَمِهِ فَيَجْتَمِعُ فِيهِ عِدَّةُ لُغَاتٍ مَعَ قِلَّةِ أَحْرُفِهِ ، وَنَظِيرُهُ " قَبَاءَ لَكِنَّ الْخَطَّابِيَّ جَزَمَ بِأَنَّ فَتْحَ أَوَّلِهِ لَحْنٌ وَكَذَا ضَمُّهُ وَكَذَا قَصْرٌ وَكَسْرُ الرَّاءِ ، وَزَادَ التَّمِيمِيُّ تَرْكَ الصَّرْفِ ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ إِنْ كَانَ الَّذِي كَسَرَ الرَّاءَ أَرَادَ الْإِمَالَةَ فَهُوَ سَائِغٌ .
قَوْلُهُ : ( اللَّيَالِيَ ذَوَاتَ الْعَدَدِ ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ : يَحْتَمِلُ الْكَثْرَةُ ؛ إِذِ الْكَثِيرُ يَحْتَاجُ إِلَى الْعَدَدِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ .
قُلْتُ : أَمَّا كَوْنُهُ الْمُنَاسِبَ فَمُسَلَّمٌ ، وَأَمَّا الْأَوَّلَ فَلَا لِأَنَّ عَادَتَهُمْ جَرَتْ فِي الْكَثِيرِ أَنْ يُوزَنَ وَفِي الْقَلِيلِ أَنْ يُعَدَّ ، وَقَدْ جَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكَثْرَةُ لِأَنَّ الْعَدَدَ عَلَى قِسْمَيْنِ فَإِذَا أُطْلِقَ أُرِيدَ بِهِ مَجْمُوعُ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ لَيَالِيَ كَثِيرَةً أَيْ مَجْمُوعُ قِسْمَيِ الْعَدَدِ .
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ اخْتُلِفَ فِي تَعَبُّدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَاذَا كَانَ يَتَعَبَّدُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ هَلْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ سَابِقٍ أَوْ لَا؟ وَالثَّانِي قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمُسْتَنَدُهُمْ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ لَنُقِلَ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ فِيهِ تَنْفِيرٌ عَنْهُ . وَبِمَاذَا كَانَ يَتَعَبَّدُ؟ قِيلَ بِمَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ أَنْوَارِ الْمَعْرِفَةِ ، وَقِيلَ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الرُّؤْيَا ، وَقِيلَ بِالتَّفَكُّرِ ، وَقِيلَ بِاجْتِنَابِ رُؤْيَةِ مَا كَانَ يَقَعُ مِنْ قَوْمِهِ . وَرَجَّحَ الْآمِدِيُّ وَجَمَاعَةٌ الْأَوَّلَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْوَالٍ آدَمَ أَوْ نُوحٍ أَوْ إِبْرَاهِيمَ أَوْ مُوسَى أَوْ عِيسَى أَوْ أَيِّ شَرِيعَةٍ أَوْ كُلِّ شَرِيعَةٍ أَوِ الْوَقْفِ .
قَوْلُهُ : ( فَتُزَوِّدُهُ ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِحَذْفِ الضَّمِيرِ وَقَوْلُهُ : " لِمِثْلِهَا " تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلَّيَالِي ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَرَّةِ أَوِ الْفَعْلَةِ أَوِ الْخَلْوَةِ أَوِ الْعِبَادَةِ .
وَرَجَّحَ شَيْخُنَا الْبُلْقِينِيُّ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلسَّنَةِ فَذَكَرَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ : كَانَ يَخْرُجُ إِلَى حِرَاءٍ فِي كُلِّ عَامٍ شَهْرًا مِنَ السَّنَةِ يَتَنَسَّكُ فِيهِ يُطْعِمُ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْمَسَاكِينِ ، قَالَ : وَظَاهِرُهُ أَنَّ التَّزَوُّدَ لِمِثْلِهَا كَانَ فِي السَّنَةِ الَّتِي تَلِيهَا لَا لِمُدَّةٍ أُخْرَى مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ ، وَقَدْ كُنْتُ قَوَّيْتُ هَذَا فِي التَّفْسِيرِ ثُمَّ ظَهَرَ لِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ مُدَّةَ الْخَلْوَةِ كَانَتْ شَهْرًا كَانَ يَتَزَوَّدُ لِبَعْضِ لَيَالِي الشَّهْرِ فَإِذَا نَفَذَ ذَلِكَ الزَّادُ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَتَزَوَّدَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي سَعَةٍ بَالِغَةٍ مِنَ الْعَيْشِ ، وَكَانَ غَالِبُ زَادِهِمُ اللَّبَنَ وَاللَّحْمَ وَذَلِكَ لَا يُدَّخَرُ مِنْهُ كِفَايَةُ الشُّهُورِ لِئَلَّا يُسْرِعَ إِلَيْهِ الْفَسَادُ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ وُصِفَ بِأَنَّهُ كَانَ يُطْعِمُ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ .
قَوْلُهُ : ( حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ ) حَتَّى هُنَا عَلَى بَابِهَا مِنِ انْتِهَاءِ الْغَايَةِ ، أَيِ انْتَهَى تَوَجُّهُهُ لِغَارِ حِرَاءٍ بِمَجِيءِ الْمَلَكِ فَتَرَكَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ : " فَجِئَهُ " بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ ثُمَّ هَمْزٍ أَيْ جَاءَهُ الْوَحْيُ بَغْتَةً قَالَهُ النَّوَوِيُّ قَالَ : فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ مُتَوَقِّعًا لِلْوَحْيِ وَفِي إِطْلَاقِ هَذَا النَّفْيِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْوَحْيَ كَانَ جَاءَهُ فِي النَّوْمِ مِرَارًا ؛ قَالَهُ شَيْخُنَا الْبُلْقِينِيُّ وَأَسْنَدَهُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ فِي الْمَنَامِ نَظِيرُ مَا وَقَعَ لَهُ فِي الْيَقَظَةِ مِنَ الْغَطِّ وَالْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى .
وَفِي كَوْنِ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَهُ فِي الْيَقَظَةِ حَتَّى يَتَوَقَّعَهُ نَظَرٌ فَالْأَوْلَى تَرْكُ الْجَزْمِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَقَوْلُهُ : " الْحَقُّ " قَالَ الطِّيبِيُّ : أَيْ أَمْرُ الْحَقِّ وَهُوَ الْوَحْيُ أَوْ رَسُولُ الْحَقِّ وَهُوَ جِبْرِيلُ .
وَقَالَ شَيْخُنَا : أَيِ الْأَمْرُ الْبَيِّنُ الظَّاهِرُ أَوِ الْمُرَادُ الْمَلَكُ بِالْحَقِّ أَيِ الْأَمْرُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ .
قَوْلُهُ : ( فَجَاءَهُ الْمَلَكُ ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ الْكَلَامُ عَلَى الْفَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ : " فَجَاءَهُ الْمَلَكُ " وَأَنَّهَا التَّفْسِيرِيَّةُ .
وَقَالَ شَيْخُنَا الْبُلْقِينِيُّ : يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْقِيبِ وَالْمَعْنَى بِمَجِيءِ الْحَقِّ انْكِشَافُ الْحَالِ عَنْ أَمْرٍ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ [12/373] فَجَاءَهُ الْمَلَكُ عَقِبَهُ قَالَ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ سَبَبِيَّةً أَيْ حَتَّى قُضِيَ بِمَجِيءِ الْوَحْيِ فَبِسَبَبِ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمَلَكُ .
قُلْتُ : وَهَذَا أَقْرَبُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَقَوْلُهُ : " فِيهِ " يُؤْخَذُ مِنْهُ رَفْعُ تَوَهُّمِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الْمَلَكَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَيْهِ الْغَارَ بَلْ كَلَّمَهُ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَاخِلَ الْغَارِ وَالْمَلَكُ عَلَى الْبَابِ وَقَدْ عَزَوْتُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي التَّفْسِيرِ لِدَلَائِلِ الْبَيْهَقِيِّ تَبَعًا لِشَيْخِنَا الْبُلْقِينِيِّ ثُمَّ وَجَدْتُهَا هُنَا فَكَانَ الْعَزْوُ إِلَيْهِ أَوْلَى فَأَلْحَقْتُ ذَلِكَ هُنَاكَ .
قَالَ شَيْخُنَا الْبُلْقِينِيُّ : الْمَلَكُ الْمَذْكُورُ هُوَ جِبْرِيلُ كَمَا وَقَعَ شَاهِدُهُ فِي كَلَامِ وَرَقَةَ ، وَكَمَا مَضَى فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ الَّذِي جَاءَهُ بِحِرَاءٍ وَوَقَعَ فِي شَرْحِ الْقُطْبِ الْحَلَبِيِّ : الْمَلَكُ هُنَا هُوَ جِبْرِيلُ قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ ، فَتَعَجَّبَ مِنْهُ شَيْخُنَا وَقَالَ : هَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ فَلَا يَحْسُنُ عَزْوُهُ لِلسُّهَيْلِيِّ وَحْدَهُ قَالَ : وَاللَّامُ فِي الْمَلَكِ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ لَا لِلْعَهْدِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَا عَهِدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ ذَلِكَ لَمَّا كَلَّمَهُ فِي صِبَاهُ أَوِ اللَّفْظُ لِعَائِشَةَ وَقَصَدَتْ بِهِ مَا تَعَهَّدَهُ مَنْ تُخَاطِبُهُ بِهِ انْتَهَى .
وَقَدْ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ : هِيَ عِبَارَةٌ عَمَّا عُرِفَ بَعْدُ أَنَّهُ مَلَكٌ وَإِنَّمَا الَّذِي فِي الْأَصْلِ " فَجَاءَهُ جَاءٍ " وَكَانَ ذَلِكَ الْجَائِي مَلَكًا فَأَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ يَوْمَ أَخْبَرَ بِحَقِيقَةِ جِنْسِهِ ، وَكَأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِهِ انْتَهَى .
وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ جِبْرِيلُ فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَائِشَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَكَفَ هُوَ وَخَدِيجَةُ فَوَافَقَ ذَلِكَ رَمَضَانَ فَخَرَجَ يَوْمًا فَسَمِعَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ قَالَ : فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ فَقَالَ أَبْشِرُوا فَإِنَّ السَّلَامَ خَيْرٌ ، ثُمَّ رَأَى يَوْمًا آخَرَ جِبْرِيلَ عَلَى الشَّمْسِ لَهُ جَنَاحٌ بِالْمَشْرِقِ وَجَنَاحٌ بِالْمَغْرِبِ قَالَ : فَهِبْتُ مِنْهُ الْحَدِيثَ .
وَفِيهِ أَنَّهُ " جَاءَهُ فَكَلَّمَهُ حَتَّى أَنِسَ بِهِ " وَظَاهِرُهُ أَنَّ جَمِيعَ مَا وَقَعَ لَهُ كَانَ وَهُوَ فِي الْغَارِ ، لَكِنْ وَقَعَ فِي مُرْسَلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ : " فَأَجْلَسَنِي عَلَى دُرْنُوكٍ فِيهِ الْيَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ " وَهُوَ بِضَمِّ الدَّالِ وَالنُّونِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ نَوْعٌ مِنَ الْبُسُطِ لَهُ خَمْلٌ ، وَفِي مُرْسَلِ الزُّهْرِيِّ " فَأَجْلَسَنِي عَلَى مَجْلِسٍ كَرِيمٍ مُعْجِبٍ " ، وَأَفَادَ شَيْخُنَا أَنَّ سِنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ فِي حِرَاءٍ كَانَ أَرْبَعِينَ سَنَةً عَلَى الْمَشْهُورِ ، ثُمَّ حَكَى أَقْوَالًا أُخْرَى ، قِيلَ أَرْبَعِينَ وَيَوْمًا ، وَقِيلَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ، وَقِيلَ وَشَهْرَيْنِ ، وَقِيلَ وَسَنَتَيْنِ ، وَقِيلَ وَثَلَاثًا ، وَقِيلَ وَخَمْسًا قَالَ : وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ نَهَارًا قَالَ : وَاخْتُلِفَ فِي الشَّهْرِ فَقِيلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي سَابِعِ عَشَرِهِ وَقِيلَ سَابِعِهِ وَقِيلَ رَابِعَ عَشَرِيِّةً .
قُلْتُ : وَرَمَضَانُ هُوَ الرَّاجِحُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي جَاءَ فِيهِ فِي حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ سِنُّهُ حِينَئِذٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْأَقْوَالِ الَّتِي حَكَاهَا شَيْخُنَا . ثُمَّ قَالَ : وَسَيَأْتِي مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ وَحْيَ الْمَنَامِ كَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ، قَالَ شَيْخُنَا : وَقِيلَ فِي سَابِعِ عَشَرِيٍّ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ ، وَقِيلَ فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَقِيلَ فِي ثَامِنِهِ انْتَهَى .
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا أَنَّ مَجِيءَ جِبْرِيلَ كَانَ لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ ، فَإِذَا هُوَ بِجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ، فَهَبَطَ جِبْرِيلُ إِلَى الْأَرْضِ وَبَقِيَ مِيكَائِيلُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْحَدِيثَ . فَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ يُضَافُ لِمَا تَقَدَّمَ وَلَعَلَّهُ أَرْجَحُهَا .
قَوْلُهُ : ( فَقَالَ اقْرَأْ ) قَالَ شَيْخُنَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ جِبْرِيلَ شَيْءٌ قَبْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَلَا السَّلَامُ ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَلَّمَ وَحُذِفَ ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ ، وَقَدْ سَلَّمَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ حِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يُسَلِّمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حِينَئِذٍ تَفْخِيمُ الْأَمْرِ وَتَهْوِيلُهُ ، وَقَدْ تَكُونُ مَشْرُوعِيَّةُ ابْتِدَاءِ السَّلَامِ تَتَعَلَّقُ بِالْبَشَرِ لَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ .
قُلْتُ : وَالْحَالَةُ الَّتِي سَلَّمُوا فِيهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَانُوا فِي صُورَةِ الْبَشَرِ فَلَا تَرِدُ هُنَا ، وَلَا يَرِدُ سَلَامُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ لِأَنَّ أُمُورَ الْآخِرَةِ مُغَايِرَةٌ لِأُمُورِ الدُّنْيَا غَالِبًا ، وَقَدْ ذَكَرْتُ عَنْ رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ أَنَّ جِبْرِيلَ سَلَّمَ أَوَّلًا وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ سَلَّمَ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
[12/374] قَوْلُهُ : ( فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) هَذَا مُنَاسِبٌ لِسِيَاقِ الْحَدِيثِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى هُنَا بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ بِطَرِيقِ الْإِرْسَالِ ، وَوَقَعَ مِثْلُهُ فِي التَّفْسِيرِ فِي رِوَايَةِ بَدْءِ الْوَحْيِ اخْتِلَافٌ : هَلْ فِيهِ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، أَوْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، وَجَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ يُونُسُ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ : " قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ " ، قَالَ شَيْخُنَا الْبُلْقِينِيُّ : وَظَاهِرُهُ أَنَّ عَائِشَةَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَكُونُ مِنْ مُرْسَلَاتِ الصَّحَابَةِ .
قَوْلُهُ : ( فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَفْعَلَ تَرِدُ لِلْتَنْبِيهِ وَلَمْ يَذْكُرُوهُ قَالَهُ شَيْخُنَا الْبُلْقِينِيُّ ثُمَّ قَالَ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عَلَى بَابِهَا لِطَلَبِ اَلْقِرَاءَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْإِمْكَانَ حَاصِلٌ .
قَوْلُهُ : ( فَقَالَ اقْرَأْ ) قَالَ شَيْخُنَا الْبُلْقِينِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ : دَلَّتِ الْقِصَّةُ عَلَى أَنَّ مُرَادَ جِبْرِيلَ بِهَذَا أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ مَا قَالَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ : " اقْرَأْ " وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلِ " اقْرَأْ " إِلَى آخِرِهِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ لَفْظَهُ : " قُلْ " أَيْضًا مِنَ الْقُرْآنِ .
قُلْتُ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السِّرُّ فِيهِ الِابْتِلَاءَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا وَقَعَ ، ثُمَّ قَالَ شَيْخُنَا : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ " اقْرَأْ " إِلَى مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي النَّمَطِ الَّذِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ : " مَا أَنَا بِقَارِئٍ " أَيْ أُمِّيٌّ لَا أُحْسِنُ قِرَاءَةَ الْكُتُبِ ، قَالَ : وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " اقْرَأْ " التَّلَفُّظَ بِهَا .
قُلْتُ : وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ رِوَايَةَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ إِنَّمَا ذَكَرَهَا عَنْ مَنَامٍ تَقَدَّمَ ، بِخِلَافِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فَإِنَّهُ كَانَ فِي الْيَقَظَةِ ، ثُمَّ تَكَلَّمَ شَيْخُنَا عَلَى مَا كَانَ مَكْتُوبًا فِي ذَلِكَ النَّمَطِ فَقَالَ اقْرَأْ أَيِ الْقَدْرَ الَّذِي أَقْرَأَهُ إِيَّاهُ وَهِيَ الْآيَاتُ الْأُولَى مِنِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةَ الْقُرْآنِ ، وعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقُرْآنُ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً بِاعْتِبَارٍ وَنَزَلَ مُنَجَّمًا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ ، قَالَ : وَفِي إِحْضَارِهِ لَهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ آخِرَهُ يَكْمُلُ بِاعْتِبَارِ الْجُمْلَةِ ثُمَّ تَكْمُلُ بِاعْتِبَارِ التَّفْصِيلِ .
قَوْلُهُ : ( حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ أَنَّهُ رُوِيَ بِنَصْبِ الدَّالِ وَرَفْعِهَا وَتَوْجِيهِهِمَا ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ : لَا أَرَى الَّذِي قَالَهُ بِالنَّصْبِ إِلَّا وَهَمٌ فَإِنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّهُ غَطَّهُ حَتَّى اسْتَفْرَغَ الْمَلَكُ قُوَّتَهُ فِي ضَغْطِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَزِيدٌ ، وَهُوَ قَوْلٌ غَيْرُ سَدِيدٍ ، فَإِنَّ الْبِنْيَةَ الْبَشَرِيَّةَ لَا تُطِيقُ اسْتِيفَاءَ الْقُوَّةِ الْمَلَكِيَّةَ لَا سِيَّمَا فِي مُبْتَدَأ الْأَمْرِ ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَدِيثُ بِأَنَّهُ دَاخَلَهُ الرُّعْبُ مِنْ ذَلِكَ .
قُلْتُ : وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ قَوَّاهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ ، وَقَدْ أَجَابَ الطِّيبِيُّ بِأَنَّ جِبْرِيلَ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ عَلَى صُورَتِهِ الْمَلَكِيَّةِ فَيَكُونُ اسْتِفْرَاغُ جَهْدِهِ بِحَسَبِ صُورَتِهِ الَّتِي جَاءَهُ بِهَا حِينَ غَطَّهُ قَالَ : وَإِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ اضْمَحَلَّ الِاسْتِبْعَادُ .
قُلْتُ : التَّرْجِيحُ هُنَا مُتَعَيَّنٌ لِاتِّحَادِ الْقِصَّةِ وَرِوَايَةُ الرَّفْعِ لَا إِشْكَالَ فِيهَا وَهِيَ الَّتِي ثَبَتَتْ عَنِ الْأَكْثَرِ فَتَرَجَّحَتْ وَإِنْ كَانَ لِلْأُخْرَى تَوْجِيهٌ ، وَقَدْ رَجَّحَ شَيْخُنَا الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّ فَاعِلَ بَلَغَ " هُوَ الْغَطُّ وَالتَّقْدِيرُ : بَلَغَ مِنِّي الْغَطُّ جَهْدَهُ أَيْ غَايَتَهُ فَيَرْجِعُ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ أَوْلَى .
قَالَ شَيْخُنَا : وَكَانَ الَّذِي حَصَلَ لَهُ عِنْدَ تَلَقِّي الْوَحْيِ مِنَ الْجَهْدِ مُقَدِّمَةً لِمَا صَارَ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْكَرْبِ عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ " كَانَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً " ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَعُمَرَ ، وَيَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ وَغَيْرِهِمْ ، وَهِيَ حَالَةٌ يُؤْخَذُ فِيهَا عَنْ حَالِ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ ، فَهُوَ مَقَامٌ بَرْزَخِيٌّ يَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ تَلَقِّي الْوَحْيِ ، وَلَمَّا كَانَ الْبَرْزَخُ الْعَامُّ يَنْكَشِفُ فِيهِ لِلْمَيِّتِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْوَالِ خَصَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِبَرْزَخٍ فِي الْحَيَاةِ يُلْقِي إِلَيْهِ فِيهِ وَحْيَهُ الْمُشْتَمِلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَسْرَارِ ، وَقَدْ يَقَعُ لِكَثِيرٍ مِنَ الصُّلَحَاءِ عِنْدَ الْغَيْبَةِ بِالنَّوْمِ أَوْ غَيْرِهِ اطِّلَاعٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَسْرَارِ ، وَذَلِكَ مُسْتَمَدٌّ مِنَ الْمَقَامِ النَّبَوِيِّ ، وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ " رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ " كَمَا سَيَأْتِي الْإِلْمَامُ بِهِ قَرِيبًا .
قَالَ السُّهَيْلِيُّ : تَأْوِيلُ الْغَطَّاتِ الثَّلَاثِ عَلَى مَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي النَّوْمِ أَنَّهُ سَيَقَعُ لَهُ ثَلَاثُ شَدَائِدَ يُبْتَلَى بِهَا ثُمَّ يَأْتِي الْفَرَجُ ، وَكَذَلِكَ كَانَ ، [12/375] فَإِنَّهُ لَقِيَ وَمَنْ تَبِعَهُ شِدَّةً أُولَى بِالشِّعْبِ لَمَّا حَصَرَتْهُمْ قُرَيْشٌ ، وَثَانِيَةً لَمَّا خَرَجُوا وَتَوَعَّدُوهُمْ بِالْقَتْلِ حَتَّى فَرُّوا إِلَى الْحَبَشَةِ ، وَثَالِثَةً لَمَّا هَمُّوا بِمَا هَمُّوا بِهِ مِنَ الْمَكْرِ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ الْآيَةَ فَكَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الشَّدَائِدِ الثَّلَاثِ .
وَقَالَ شَيْخُنَا الْبُلْقِينِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ : وَهَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ حَسَنَةٌ وَلَا يَتَعَيَّنُ لِلنَّوْمِ بَلْ تَكُونُ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ فِي الْيَقَظَةِ ، قَالَ : وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي جَاءَهُ بِهِ ثَقِيلٌ مِنْ حَيْثُ الْقَوْلُ وَالْعَمَلُ وَالنِّيَّةُ ، أَوْ مِنْ جِهَةِ التَّوْحِيدِ وَالْأَحْكَامِ وَالْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ الْمَاضِي وَالْآتِي ، وَأَشَارَ بِالْإِرْسَالَاتِ الثَّلَاثِ إِلَى حُصُولِ التَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيلِ وَالتَّخْفِيفِ فِي الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ وَالْآخِرَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ .
قَوْلُهُ : ( فَرَجَعَ بِهَا ) أَيْ رَجَعَ مُصَاحِبًا لِلْآيَاتِ الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ .
قَوْلُهُ : ( تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ بِلَفْظِ : فُؤَادُهُ قَالَ شَيْخُنَا : الْحِكْمَةُ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْقَلْبِ إِلَى الْفُؤَادِ أَنَّ الْفُؤَادَ وِعَاءُ الْقَلْبِ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ ، فَإِذَا حَصَلَ لِلْوِعَاءِ الرَّجَفَانُ حَصَلَ لِمَا فِيهِ فَيَكُونُ فِي ذِكْرِهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْأَمْرِ مَا لَيْسَ فِي ذِكْرِ الْقَلْبِ .
وَأَمَّا بَوَادِرُهُ فَالْمُرَادُ بِهَا اللَّحْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ ، جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّهَا تَضْطَرِبُ عِنْدَ الْفَزَعِ ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى الْجَوْهَرِيُّ أَنَّ اللَّحْمَةَ الْمَذْكُورَةَ سُمِّيَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ بَرِّيٍّ فَقَالَ : الْبَوَادِرُ جَمْعُ بَادِرَةٍ وَهِيَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِعُضْوٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ جَيِّدٌ فَيَكُونُ إِسْنَادُ الرَّجَفَانِ إِلَى الْقَلْبِ لِكَوْنِهِ مَحَلَّهُ وَإِلَى الْبَوَادِرِ لِأَنَّهَا مَظْهَرُهُ ، وَأَمَّا قَوْلُ الدَّاوُدِيِّ الْبَوَادِرُ وَالْفُؤَادُ وَاحِدٌ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مَفَادَهُمَا وَاحِدٌ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ وَإِلَّا فَهُوَ مَرْدُودٌ .
قَوْلُهُ : ( قَالَ قَدْ خَشِيتُ عَلَيَّ ) بِالتَّشْدِيدِ ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ " عَلَى نَفْسِي " .
قَوْلُهُ : ( فَقَالَتْ لَهُ كَلَّا ؛ أَبْشِرْ ) قَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ : كَلَّا كَلِمَةُ نَفْيٍ وَإِبْعَادٍ ، وَقَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى حَقًّا وَبِمَعْنَى الِاسْتِفْتَاحِ ، وَقَالَ الْقَزَّازُ : هِيَ هُنَا بِمَعْنَى الرَّدِّ لِمَا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ أَيْ لَا خَشْيَةَ عَلَيْكَ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي مَيْسَرَةَ " فَقَالَتْ : مَعَاذَ اللَّهِ " وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الَّتِي ابْتَدَأَتْ خَدِيجَةُ النُّطْقَ بِهَا عَقِبَ مَا ذَكَرَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْقِصَّةِ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ عَقِبَ الْآيَاتِ الْخَمْسِ مِنْ سُورَةِ " اقْرَأْ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ فَجَرَتْ عَلَى لِسَانِهَا اتِّفَاقًا لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ بَعْدُ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ أَبِي جَهْلٍ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ .
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ قِيلَ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ إِذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً فَهِيَ عَيْنُ الْأُولَى ، وَقَدْ أُعِيدَ الْإِنْسَانُ هُنَا كَذَلِكَ فَكَانَ التَّقْدِيرُ : كَلَّا لَا يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَلَقَهُ وَعَلَّمَهُ أنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ، وَأَمَّا قَوْلُهَا هُنَا " أَبْشِرْ " فَلَمْ يَقَعْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ تَعْيِينُ الْمُبَشَّرِ بِهِ ، وَوَقَعَ فِي دَلَائِلِ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَيْسَرَةَ مُرْسَلًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَّ عَلَى خَدِيجَةَ مَا رَأَى فِي الْمَنَامِ فَقَالَتْ لَهُ : أَبْشِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَصْنَعَ بِكَ إِلَّا خَيْرًا ، ثُمَّ أَخْبَرَهَا بِمَا وَقَعَ لَهُ مِنْ شَقِّ الْبَطْنِ وَإِعَادَتِهِ فَقَالَتْ لَهُ : أَبْشِرْ ؛ إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ ، ثُمَّ اسْتَعْلَنَ لَهُ جِبْرِيلُ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ فَقَالَ لَهَا : أَرَأَيْتُكِ الَّذِي كُنْتُ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ اسْتَعْلَنَ لِي بِأَنَّ رَبِّي أَرْسَلَهُ إِلَيَّ ، وَأَخْبَرَهَا بِمَا جَاءَ بِهِ ، فَقَالَتْ : أَبْشِرْ ، فَوَاللَّهِ لَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِكَ إِلَّا خَيْرًا ، فَاقْبَلِ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ اللَّهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ ، وَأَبْشِرْ فَإِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا .
قُلْتُ : هَذَا أَصْرَحُ مَا وَرَدَ فِي أَنَّهَا أَوَّلُ الْآدَمِيِّينَ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَوْلُهُ : ( لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ " لَا يُحْزِنُكَ " بِمُهْمَلَةٍ وَنُونٍ .
قَوْلُهُ : ( وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخُو أَبِيهَا ) كَذَا وَقَعَ هُنَا وَأَخُو صِفَةٌ لِلْعَمِّ فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُذْكَرَ مَجْرُورًا ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ " أَخِي أَبِيهَا " وَتَوْجِيهُ رِوَايَةِ الرَّفْعِ أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ .
[12/376] قَوْلُهُ : ( تَنَصَّرَ ) أَيْ دَخَلَ فِي دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ .
قَوْلُهُ : ( فِي الْجَاهِلِيَّةِ ) أَيْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ ، وَقَدْ تُطْلَقُ الْجَاهِلِيَّةُ وَيُرَادُ بِهَا مَا قَبْلَ دُخُولِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُ فِي الْإِسْلَامِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ .
قَوْلُهُ : ( أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ) ؟ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَتَمَامُهُ فِي التَّفْسِيرِ ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ : يُؤْخَذُ مِنْهُ شِدَّةُ مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ عَلَى النَّفْسِ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ قَوْلَ وَرَقَةَ أَنَّهُمْ يُؤْذُونَهُ وَيُكَذِّبُونَهُ فَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ انْزِعَاجٌ لِذَلِكَ فَلَمَّا ذَكَرَ لَهُ الْإِخْرَاجَ تَحَرَّكَتْ نَفْسُهُ لِذَلِكَ لِحُبِّ الْوَطَنِ وَإِلْفِهِ فَقَالَ " أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ " ؟ قَالَ : وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ إِدْخَالُ الْوَاوِ بَعْدَ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ اخْتِصَاصِ الْإِخْرَاجِ بِالسُّؤَالِ عَنْهُ فَأَشْعَرَ بِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ أَوِ التَّفَجُّعِ ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَطَنَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حَرَمُ اللَّهِ وَجِوَارُ بَيْتِهِ وَبَلْدَةُ الْآبَاءِ مِنْ عَهْدِ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ انْزِعَاجُهُ كَانَ مِنْ جِهَةِ خَشْيَةِ فَوَاتِ مَا أَمَلَهُ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِ بِاللَّهِ وَإِنْقَاذِهِمْ بِهِ مِنْ وَضَرِ الشِّرْكِ وَأَدْنَاسِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَلِيَتِمَّ لَهُ الْمُرَادُ مِنْ إِرْسَالِهِ إِلَيْهِمْ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ انْزَعَجَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا .
قَوْلُهُ : ( لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ " بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ " وَكَذَا لِلْبَاقِينَ .
قَوْلُهُ : ( نَصْرًا مُؤَزَّرًا ) بِالْهَمْزِ لِلْأَكْثَرِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ بَعْدَهَا رَاءٌ مِنَ التَّأْزِيرِ أَيِ التَّقْوِيَةِ وَأَصْلُهُ مِنَ الْأَزْرِ وَهُوَ الْقُوَّةُ ، وَقَالَ الْقَزَّازُ : الصَّوَابُ مُوزَرًا بِغَيْرِ هَمْزٍ مِنْ وَازَرْتُهُ مُوَازَرَةً إِذَا عَاوَنْتُهُ ، وَمِنْهُ أُخِذَ وُزَرَاءُ الْمَلِكِ ، وَيَجُوزُ حَذْفُ الْأَلِفِ فَتَقُولُ نَصْرًا مُوزَرًا ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ آزَرْتُ فُلَانًا عَاوَنْتُهُ وَالْعَامَّةُ تَقُولُ وَازَرْتُهُ .
قَوْلُهُ : ( وَفَتَرَ الْوَحْيُ ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مُدَّةِ هَذِهِ الْفَتْرَةِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ، وَقَوْلُهُ هُنَا " فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنَا " هَذَا وَمَا بَعْدَهُ مِنْ زِيَادَةِ مَعْمَرٍ عَلَى رِوَايَةِ عُقَيْلٍ ، وَيُونُسَ .
وَصَنِيعُ الْمُؤَلِّفِ يُوهِمُ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ ، وَقَدْ جَرَى عَلَى ذَلِكَ الْحُمَيْدِيُّ فِي جَمْعِهِ فَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ : " وَفَتَرَ الْوَحْيُ " ثُمَّ قَالَ : انْتَهَى حَدِيثُ عُقَيْلٍ الْمُفْرَدُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ إِلَى حَيْثُ ذَكَرْنَا ، وَزَادَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي حَدِيثِهِ الْمُقْتَرِنِ بِمَعْمَرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ : " وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ " فَسَاقَهُ إِلَى آخِرِهِ ، وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ خَاصَّةٌ بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ ، فَقَدْ أَخْرَجَ طَرِيقَ عُقَيْلٍ ، أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ بِدُونِهَا ، وَأَخْرَجَهُ مَقْرُونًا هُنَا بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّفْظَ لِمَعْمَرٍ وَكَذَلِكَ صَرَّحَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ ، وَمُسْلِمٌ ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَأَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ جَمْعٍ مِنْ أَصْحَابِ اللَّيْثِ عَنِ اللَّيْثِ بِدُونِهَا ، ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلَ فِيمَا بَلَغَنَا هُوَ الزُّهْرِيُّ ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ فِي جُمْلَةِ مَا وَصَلَ إِلَيْنَا مِنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ مِنْ بَلَاغَاتِ الزُّهْرِيِّ وَلَيْسَ مَوْصُولًا .
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ : هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَلَغَهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ ، عَنْ مَعْمَرٍ بِإِسْقَاطِ قَوْلِهِ : " فِيمَا بَلَغَنَا " وَلَفْظُهُ : " فَتْرَةً حَزِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا حُزْنًا غَدَا مِنْهُ " إِلَى آخِرِهِ ، فَصَارَ كُلُّهُ مُدْرَجًا عَلَى رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، قَوْلُهُ فِيهَا : " فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ " قَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يُصَحِّحُ مُرْسَلَ الشَّعْبِيِّ فِي أَنَّ مُدَّةَ الْفَتْرَةِ كَانَتْ سَنَتَيْنِ وَنِصْفًا كَمَا نَقَلْتُهُ فِي أَوَّلِ بَدْءِ الْوَحْيِ ، وَلَكِنْ يُعَارِضُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِ هَذَا الْبَلَاغِ الَّذِي ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ ، وَقَوْلُهُ : " مَكَثَ أَيَّامًا بَعْدَ مَجِيءِ الْوَحْيِ لَا يَرَى جِبْرِيلَ فَحَزِنَ حُزْنًا شَدِيدًا حَتَّى كَادَ يَغْدُو إِلَى ثَبِيرٍ مَرَّةً وَإِلَى حِرَاءٍ أُخْرَى يُرِيدُ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ عَامِدًا لِبَعْضِ تِلْكَ الْجِبَالِ إِذْ سَمِعَ صَوْتًا فَوَقَفَ فَزِعًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا جِبْرِيلُ عَلَى كُرْسِيٍّ [12/377] بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُتَرَبِّعًا يَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا وَأَنَا جِبْرِيلُ ، فَانْصَرَفَ وَقَدْ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ وَانْبَسَطَ جَأْشُهُ ، ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ " فَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَسْمِيَةُ بَعْضِ الْجِبَالِ الَّتِي أُبْهِمَتْ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ وَتَقْلِيلُ مُدَّةِ الْفَتْرَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ " وَالضُّحَى " شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِفَتْرَةِ الْوَحْيِ .
قَوْلُهُ : ( فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ ) بِجِيمٍ وَهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَقَدْ تُسَهَّلُ وَبَعْدَهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ قَالَ الْخَلِيلُ : الْجَأْشُ النَّفْسُ ، فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ : " وَتَقَرُّ نَفْسُهُ " تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ .
قَوْلُهُ : ( عَدَا ) بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مِنَ الْعَدْوِ وَهُوَ الذَّهَابُ بِسُرْعَةٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْجَمَهَا مِنَ الذَّهَابِ غُدْوَةً .
قَوْلُهُ : ( بِذِرْوَةِ جَبَلٍ ) قَالَ ابْنُ التِّينِ رُوِّينَاهُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَضَمِّهِ ، وَهُوَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ بِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ ، قُلْتُ : بَلْ حُكِيَ تَثْلِيثُهُ ، وَهُوَ أَعْلَى الْجَبَلِ وَكَذَا الْجَمَلُ .
قَوْلُهُ : ( تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ : " بَدَا لَهُ " وَهُوَ بِمَعْنَى الظُّهُورِ .
قَوْلُهُ : ( فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ) زَادَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ " حَتَّى كَثُرَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ " ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ : مَوَّهَ بَعْضُ الطَّاعِنِينَ عَلَى الْمُحَدِّثِينَ فَقَالَ : كَيْفَ يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَرْتَابَ فِي نُبُوَّتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى وَرَقَةَ وَيَشْكُو لِخَدِيجَةَ مَا يَخْشَاهُ ، وَحَتَّى يُوفِيَ بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِيُلْقِيَ مِنْهَا نَفْسَهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ؟
قَالَ : وَلَئِنْ جَازَ أَنْ يَرْتَابَ مَعَ مُعَايَنَةِ النَّازِلِ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ فَكَيْفَ يُنْكَرُ عَلَى مَنِ ارْتَابَ فِيمَا جَاءَهُ بِهِ مَعَ عَدَمِ الْمُعَايَنَةِ؟ قَالَ : وَالْجَوَابُ أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ جَرَتْ بِأَنَّ الْأَمْرَ الْجَلِيلَ إِذَا قُضِيَ بِإِيصَالِهِ إِلَى الْخَلْقِ أَنْ يَقْدَمَهُ تَرْشِيحٌ وَتَأْسِيسٌ ، فَكَانَ مَا يَرَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ وَمَحَبَّةِ الْخَلْوَةِ وَالتَّعَبُّدِ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَمَّا فَجِئَهُ الْمَلَكُ فَجِئَهُ بَغْتَةً أَمْرٌ خَالَفَ الْعَادَةَ وَالْمَأْلُوفَ فَنَفَرَ طَبْعُهُ الْبَشَرِيُّ مِنْهُ وَهَالَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّأَمُّلِ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، لِأَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تُزِيلُ طِبَاعَ الْبَشَرِيَّةِ كُلَّهَا ، فَلَا يُتَعَجَّبُ أَنْ يَجْزَعَ مِمَّا لَمْ يَأْلَفْهُ وَيَنْفِرَ طَبْعُهُ مِنْهُ حَتَّى إِذَا تَدَرَّجَ عَلَيْهِ وَأَلِفَهُ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ ، فَلِذَلِكَ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ الَّتِي أَلِفَ تَأْنِيسَهَا لَهُ فَأَعْلَمَهَا بِمَا وَقَعَ لَهُ فَهَوَّنَتْ عَلَيْهِ خَشْيَتَهُ بِمَا عَرَفَتْهُ مِنْ أَخْلَاقِهِ الْكَرِيمَةِ وَطَرِيقَتِهِ الْحَسَنَةِ ، فَأَرَادَتِ الِاسْتِظْهَارَ بِمَسِيرِهَا بِهِ إِلَى وَرَقَةَ لِمَعْرِفَتِهَا بِصِدْقِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَقِرَاءَتِهِ الْكُتُبَ الْقَدِيمَةَ ، فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهُ أَيْقَنَ بِالْحَقِّ وَاعْتَرَفَ بِهِ ، ثُمَّ كَانَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ تَأْسِيسِ النُّبُوَّةِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ لِيَتَدَرَّجَ فِيهِ وَيَمْرُنَ عَلَيْهِ ، فَشَقَّ عَلَيْهِ فُتُورُهُ ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ خُوطِبَ عَنِ اللَّهِ بَعْدُ أَنَّكَ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ وَمَبْعُوثٌ إِلَى عِبَادِهِ ، فَأَشْفَقَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا بُدِئَ بِهِ ثُمَّ لَمْ يَرِدِ اسْتِفْهَامُهُ فَحَزِنَ لِذَلِكَ ، حَتَّى تَدَرَّجَ عَلَى احْتِمَالِ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَالصَّبْرِ عَلَى ثِقَلِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ فَتَحَ اللَّهُ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ بِمَا فَتَحَ .
قَالَ : وَمِثَالُ مَا وَقَعَ لَهُ فِي أَوَّلِ مَا خُوطِبَ وَلَمْ يَتَحَقَّقِ الْحَالُ عَلَى جَلِيَّتِهَا مَثَلُ رَجُلٍ سَمِعَ آخَرَ يَقُولُ " الْحَمْدُ لِلَّهِ " فَلَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ يَقْرَأُ حَتَّى إِذَا وَصَلَهَا بِمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ تَحَقَّقَ أَنَّهُ يَقْرَأُ ، وَكَذَا لَوْ سَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ " خَلَتِ الدِّيَارُ " لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ يُنْشِدُ شِعْرًا حَتَّى يَقُولَ " مَحَلُّهَا وَمُقَامُهَا " انْتَهَى مُلَخَّصًا .
ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذِكْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا اتَّفَقَ لَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي انْتِشَارِ خَبَرِهِ فِي بِطَانَتِهِ وَمَنْ يَسْتَمِعُ لِقَوْلِهِ وَيُصْغِي إِلَيْهِ ، وَطَرِيقًا فِي مَعْرِفَتِهِمْ مُبَايَنَةَ مَنْ سِوَاهُ فِي أَحْوَالِهِ لِيُنَبِّهُوا عَلَى مَحَلِّهِ ، قَالَ : وَأَمَّا إِرَادَتُهُ إِلْقَاءَ نَفْسِهِ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ بَعْدَمَا نُبِّئَ فَلِضَعْفِ قُوَّتِهِ عَنْ تَحَمُّلِ مَا حَمَلَهُ مِنْ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ ، وَخَوْفًا مِمَّا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْقِيَامِ بِهَا مِنْ مُبَايَنَةِ الْخَلْقِ جَمِيعًا ، كَمَا يَطْلُبُ الرَّجُلُ الرَّاحَةَ مِنْ غَمٍّ يَنَالُهُ فِي الْعَاجِلِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ زَوَالُهُ عَنْهُ وَلَوْ أَفْضَى إِلَى إِهْلَاكِ نَفْسِهِ عَاجِلًا ، حَتَّى إِذَا تَفَكَّرَ فِيمَا فِيهِ صَبْرُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْعُقْبَى الْمَحْمُودَةِ صَبَرَ وَاسْتَقَرَّتْ نَفْسُهُ .
قُلْتُ : أَمَّا الْإِرَادَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الزِّيَادَةِ الْأُولَى فَفِي صَرِيحِ الْخَبَرِ أَنَّهَا كَانَتْ حُزْنًا عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي بَشَّرَهُ بِهِ وَرَقَةُ وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ أَنْ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ وَقَالَ لَهُ إِنَّكَ [12/378] رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا فَيَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ بِمَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ ، وَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَوَقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ مَجِيءِ جِبْرِيلَ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِمَّا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ وَفِيهِ : " فَقَالَ لِي يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا قَالَ فَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَطْرَحَ نَفْسِي مِنْ حَالِقِ جَبَلٍ " أَيْ مِنْ عُلُوِّهِ .
قَوْلُهُ : ( وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَالِقُ الإِصْبَاحِ ضَوْءُ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ وَضَوْءُ الْقَمَرِ بِاللَّيْلِ ) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ وَكَذَا لِلنَّسَفِيِّ ، وَلِأَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ ، وَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : فَالِقُ الإِصْبَاحِ يَعْنِي بِالْإِصْبَاحِ ضَوْءَ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ وَضَوْءَ الْقَمَرِ بِاللَّيْلِ ، وَتَعَقَّبَ بَعْضُهُمْ هَذَا عَلَى الْبُخَارِيِّ فَقَالَ : إِنَّمَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْإِصْبَاحَ وَلَفْظُ : " فَالِقُ " هُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ إِنَّمَا ذَكَرَهُ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَجْلِ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ " فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ " فَلِإِيرَادِ الْبُخَارِيِّ وَجْهٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ التَّفْسِيرِ قَوْلُ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ إِنَّ الْفَلَقَ الصُّبْحُ ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ هُنَا عَنْهُ فِي قَوْلِهِ : فَالِقُ الإِصْبَاحِ قَالَ إِضَاءَةُ الصُّبْحِ .
وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِفَلَقِ الصُّبْحِ إِضَاءَتُهُ ، وَالْفَالِقُ اسْمُ فَاعِلِ ذَلِكَ ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ : الْإِصْبَاحُ خَالِقُ النُّورِ نُورِ النَّهَارِ ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ : الْفَلْقُ شَقُّ الشَّيْءِ ، وَقَيَّدَهُ الرَّاغِبُ بِإِبَانَةِ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ ، وَمِنْهُ فَلَقَ مُوسَى الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ ، وَنَقَلَ الْفَرَّاءُ أَنَّ فَطَرَ وَخَلَقَ وَفَلَقَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشَّقُّ الَّذِي فِي الْحَبَّةِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَفِي النَّوَاةِ ، وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى تَقْيِيدِ الرَّاغِبِ ، وَالْإِصْبَاحُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ أَصْبَحَ إِذَا دَخَلَ فِي الصُّبْحِ سُمِّيَ بِهِ الصُّبْحُ ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ :
أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي
بِصُبْحٍ وَمَا الْإِصْبَاحُ فِيكَ بِأَمْثَلِ