[1/251] قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ .
36 - هَلْ يَجْتَمِعُ إِيمَانٌ مَعَ ارْتِكَابِ الكَبَائِرِ ؟ .
قَالُوا : رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ ، وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ وَفِي هَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ .
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَنَحْنُ نَقُولُ : إِنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا - بِنِعْمَةِ اللَّهِ - تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ أَيْ : بِمُصَدِّقٍ لَنَا ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّاسِ : مَا أُومِنُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَقُولُ ، أَيْ مَا أُصَدِّقُ بِهِ .
وَالْمَوْصُوفُونَ بِالْإِيمَانِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ : رَجُلٌ صَدَّقَ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ كَالْمُنَافِقِينَ ، فَيَقُولُ قَدْ آمَنُ ؛ كَمَا [1/252] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا وَقَالَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى ثُمَّ قَالَ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلَوْ كَانَ أَرَادَ بِالَّذِينِ آمَنُوا هَاهُنَا الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَقُلْ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى .
وَلَا نَقُولُ لَهُ مُؤْمِنٌ كَمَا أَنَّا لَا نَقُولُ لِلْمُنَافِقِينَ مُؤْمِنُونَ ، وَإِنْ قُلْنَا قَدْ آمَنُوا لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَقْدٍ وَلَا نِيَّةٍ ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ لِعَاصِي الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَصَى وَغَوَى ، وَلَا نَقُولُ عَاصٍ وَلَا غَاوٍ ، لِأَنَّ ذَنْبَهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ إِرْهَاصٍ وَلَا عَقْدٍ كَذُنُوبِ أَعْدَاءِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - .
2 - وَرَجُلٌ صَدَّقَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ مَعَ تَدَنُّسٍ بِالذُّنُوبِ ، وَتَقْصِيرٍ فِي الطَّاعَاتِ مِنْ غَيْرِ إِصْرَارٍ ، فَنَقُولُ : " قَدْ آمَنَ " ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ مَا تَنَاهَى عَنِ الْكَبَائِرِ ، فَإِذَا لَابَسَهَا لَمْ يَكُنْ فِي حَالِ الْمُلَابَسَةِ مُؤْمِنًا ، يُرِيدُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ يُرِيدُ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ غَيْرُ مُصِرٍّ ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَبَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ غَيْرُ مُصِرٍّ ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ تَائِبٌ .
وَمِمَّا يَزِيدُ فِي وُضُوحِ هَذَا ، الْحَدِيثُ الْآخَرُ : إِذَا زَنَى الزَّانِي سُلِبَ الْإِيمَانَ فَإِنْ تَابَ أُلْبِسَهُ .
[1/253] 3 - وَرَجُلٌ صَدَّقَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ ، وَأَدَّى الْفَرَائِضَ وَاجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ ، فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ حَقًّا ، الْمُسْتَكْمِلُ شَرَائِطَ الْإِيمَانِ . وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَمْ يُؤْمِنْ مَنْ لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ يُرِيدُ لَيْسَ بِمُسْتَكْمِلِ الْإِيمَانِ .
وَقَالَ : لَمْ يُؤْمِنْ مَنْ لَمْ يَأْمَنِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ أَيْ لَيْسَ بِمُسْتَكْمِلِ الْإِيمَانِ ، وَقَالَ : لَمْ يُؤْمِنْ مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَبَاتَ جَارُهُ طَاوِيًا أَيْ : لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ .
وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ يُرِيدُ لَا كَمَالَ وُضُوءٍ وَلَا فَضِيلَةَ وُضُوءٍ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ . يُرِيدُ لَا كَمَالَ إِيمَانٍ ، وَالنَّاسُ يَقُولُونَ : فُلَانٌ لَا عَقْلَ لَهُ . يُرِيدُونَ لَيْسَ هُوَ مُسْتَكْمِلَ الْعَقْلِ وَلَا دِينَ لَهُ ، أَيْ : لَيْسَ بِمُسْتَكْمَلِ الدِّينِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ : [1/254] أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى الْعَاقِبَةِ ، يُرِيدُ أَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ عُذِّبَ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ . وَالْآخَرُ : أَنْ تَلْحَقَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَشَفَاعَةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَيَصِيرُ إِلَى الْجَنَّةِ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ لَا اللَّهُ .
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثَمَنُ الْجَنَّةِ ) . وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِيُّ قَالَ : أَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ ، عَنْ مُوسَى بْنِ الْمُسَيَّبِ الثَّقَفِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ يُحَدِّثُ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوِيدٍ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : يَقُولُ رَبُّكُمْ : ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ إِنْ تَأْتِنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً ، بَعْدَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا ، جَعَلْتُ لَكَ قُرَابَهَا مَغْفِرَةً ، وَلَا أُبَالِي . وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُودٍ الدَّارِمِيُّ ، هُوَ مِنْ وَلَدِ خِرَاشٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي جَدِّي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : خُيِّرْتُ بَيْنَ الشَّفَاعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ شَطْرُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ ، لِأَنَّهَا أَعَمُّ وَأَكْثَرُ ، لَعَلَّكُمْ تَرَوْنَ أَنَّ شَفَاعَتِي لِلْمُتَّقِينَ ؟ لَا ، وَلَكِنَّهَا لِلْمُتَلَطِّخِينَ بِالذُّنُوبِ .