[1/242] قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ .
33 - كَرَاهَةُ أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ .
قَالُوا : رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُسَافِرِ وَحْدَهُ شَيْطَانٌ وَفِي الِاثْنَيْنِ شَيْطَانَانِ وَفِي الثَّلَاثَةِ رَكْبٌ . ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُبْرِدُ الْبَرِيدَ وَحْدَهُ ، وَأَنَّهُ خَرَجَ وَأَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرَيْنِ . قَالُوا : كَيْفَ يَكُونُ الْوَاحِدُ شَيْطَانًا إِذَا سَافَرَ وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْطَانِ أَوْ يَتَحَوَّلَ شَيْطَانًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَنَحْنُ نَقُولُ : إِنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ ( الْمُسَافِرُ وَحْدَهُ شَيْطَانٌ ) مَعْنَى الْوَحْشَةِ بِالِانْفِرَادِ وَبِالْوَحْدَةِ ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَطْمَعُ فِيهِ كَمَا يَطْمَعُ فِيهِ اللُّصُوصُ وَيَطْمَعُ فِيهِ السَّبُعُ فَإِذَا خَرَجَ وَحْدَهُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلشَّيْطَانِ وَتَعَرَّضَ لِكُلِّ عَادٍ عَلَيْهِ مِنَ السِّبَاعِ أَوِ اللُّصُوصِ كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ ، ثُمَّ قَالَ : ( وَالِاثْنَانِ شَيْطَانَانِ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَرِّضٌ لِذَلِكَ فَهُمَا شَيْطَانَانِ ، فَإِذَا تَتَامُّوا ثَلَاثَةً زَالَتِ الْوَحْشَةُ وَوَقَعَ الْأُنْسُ وَانْقَطَعَ طَمَعُ كُلِّ طَامِعٍ فِيهِمْ .
وَكَلَامُ الْعَرَبِ إِيمَاءٌ وَإِشَارَةٌ وَتَشْبِيهٌ ، وَيَقُولُونَ : فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ ، وَالنِّجَادُ حَمَائِلُ السَّيْفِ ، وَهُوَ لَمْ [1/243] يَتَقَلَّدْ سَيْفًا قَطُّ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ طَوِيلُ الْقَامَةِ ، فَيَدُلُّونَ بِطُولِ نِجَادِهِ عَلَى طُولِهِ ، لِأَنَّ النِّجَادَ الْقَصِيرُ لَا يَصْلُحُ عَلَى الرَّجُلِ الطَّوِيلِ .
وَيَقُولُونَ : فُلَانٌ عَظِيمُ الرَّمَادِ ، وَلَا رَمَادَ فِي بَيْتِهِ وَلَا عَلَى بَابِهِ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ كَثِيرُ الضِّيَافَةِ فَنَارُهُ وَارِيَةٌ أَبَدًا ، وَإِذَا كَثُرَ وَقُودُ النَّارِ كَثُرَ الرَّمَادُ .
وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ فَدَلَّنَا بِأَكْلِهِمَا الطَّعَامَ عَلَى مَعْنَى الْحَدَثِ لِأَنَّ مَنْ أَكَلَ الطَّعَامَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُحْدِثَ ، وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ فَكَنَّى بِمَشْيِهِ فِي الْأَسْوَاقِ عَنِ الْحَوَائِجِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلنَّاسِ ، فَيَدْخُلُونَ لَهَا الْأَسْوَاقَ ، كَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، أَغْنَاهُ عَنِ النَّاسِ وَعَنِ الْحَوَائِجِ إِلَيْهِمْ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : كَانَ يُبْرِدُ الْبَرِيدَ وَحْدَهُ ، وَالْبَرِيدُ : الرَّسُولُ يَبْعَثُ بِهِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ ، وَيَكْتُبُ مَعَهُ ، وَهُوَ الْفَيْجُ ، فَإِنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ بِهِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَحْدَهُ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَنْضَمَّ فِي الطَّرِيقِ إِلَى الرَّفِيقِ يَكُونُ مَعَهُمْ وَيَأْنَسُ بِهِمْ ، وَهَذَا شَيْءٌ يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي كُلِّ زَمَانٍ .
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا وَيُنْفِذَهُ مَعَ رَسُولٍ إِلَى بَلَدٍ شَاسِعٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتَرِيَ ثَلَاثَةً لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْوَاحِدُ شَيْطَانٌ وَالِاثْنَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ [1/244] وَإِنَّمَا يَجِبُ هَذَا عَلَى الرَّسُولِ إِذَا هُوَ خَرَجَ أَنْ يَلْتَمِسَ الصُّحْبَةَ وَيَتَوَقَّى الْوِحْدَةَ .
وَأَمَّا خُرُوجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَبِي بَكْرٍ حِينَ هَاجَرَ ، فَإِنَّهُمَا كَانَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَائِفَيْنِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ الْخُرُوجِ ، وَلَعَلَّهُمَا أَمَلَا أَنْ يُوَافِقَا رَكْبًا كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ وَحْدَهُ عَلَى تَأْمِيلِ وِجْدَانِ الصَّحَابَةِ فِي الطَّرِيقِ ، فَلَمَّا أَمْكَنَهُمَا أَنْ يَسْتَزِيدَا فِي الطريق عَدَدًا اسْتَأْجَرَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَادِيًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ ، وَاسْتَصْحَبَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ ، فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ وَهُمْ أَرْبَعَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ .