فصل
في هَدْيه - صلى الله عليه وسلم - في التحرز من الأدواء المعدية بطبعها ، وإرشاده الأصحاءَ إلى مجانبة أهلها
ثبت في ( صحيح مسلم ) من حديث جابر بن عبد الله ، أنه كان في وَفْد ثَقِيف رجلٌ مجذومٌ ، فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ارْجِعْ فَقَدْ بايَعْنَاكَ " .
وروى البخاري في ( صحيحه ) تعليقا مِن حديث أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأسَدِ " .
وفي ( سنن ابن ماجه ) من حديث ابن عباس ، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تُدِيمُوا النَّظَرَ إلى الْمَجْذُومِين " .
[1/112] وفي ( الصحيحين ) من حديث أبي هُريرة ، قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ " .
ويُذكر عنه - صلى الله عليه وسلم - : " كَلِّمْ الْمَجْذُومَ ، وَبَيْنَك وَبَيْنَهُ قِيدُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ " .
الجُذَام : عِلَّة رديئة تحدثُ من انتشار المِرَّةِ السَّوداء في البدن كُلِّه ، فيفسُد مِزاجُ الأعضاء وهيئتُها وشكلُها ، ورُبما فسد في آخره اتصالُها حتى تتآكلَ الأعضاء وتسقط ، ويُسمى داءَ الأسد .
وفي هذه التسمية ثلاثةُ أقوال للأطباء ؛ أحدها : أنها لِكثرة ما تعتري الأسد . والثاني : لأنَّ هذه العِلَّة تُجهِّم وجهَ صاحبها وتجعلُه في سُحنةَ الأسد . والثالث : أنه يفترِسُ مَن يقرُبه ، أو يدنو منه بدائه افتراسَ الأسد .
وهذه العِلَّة عند الأطباء من العلل المُعدية المتوارثة ، ومقارِبُ المجذوم ، وصاحبِ السل يَسْقَمُ برائحته ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لكمال شفقته على الأُمة ، ونُصحه لهم ، نهاهم عن الأسباب التي تُعرِّضهم لوصول العيب والفساد إلى أجسامهم وقلوبهم ، ولا ريب أنه قد يكون في البدن تهيُّؤ واستعداد كامن لقبول هذا الداء ، وقد تكون الطبيعةُ سريعة الانفعال قابلةً للاكتساب من أبدان مَن تُجاوِرُه وتُخالطه ، فإنها نقَّالة ، وقد يكون خوفُها من ذلك ووهمهُا مِن أكبر أسباب إصابة تلك العِلَّة لها ، فإنَّ الوهم فعَّال مستَوْلٍ على القُوَى والطبائع ، وقد تَصِلُ رائحة العليل إلى الصحيح فتُسقمه ، وهذا معايَن في بعض الأمراض ، والرائحةُ أحدُ أسباب العدوى ، ومع هذا كله فلا بد من وجود استعدادِ البدن وقبوله لذلك الداء ، وقد تزوَّج النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأةً ، فلما أراد الدخولَ بها ، وجَد بكَشْحها بياضا ، فقال : الْحَقي بأهْلِكِ .
وقد ظنَّ طائفة مِن الناس أنَّ هذه الأحاديث معارَضةٌ بأحاديثَ أُخَر تُبطلها وتُناقضها ، فمنها : ما رواه الترمذي ، من حديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيَدِ [1/113] رجُلٍ مجذومٍ ، فأدخلها معه في القَصْعَةِ ، وقال : " كُلْ باسم الله ، ثِقَةً بالله ، وتوكُّلا عليه " ، ورواه ابن ماجه .
وبما ثبت في ( الصحيح ) ، عن أبي هُريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا عَدوَى ولا طِيَرَة " .
ونحن نقول : لا تعارُض بحمد الله بين أحاديثه الصحيحة . فإذا وقع التعارضُ ، فإما أن يكون أحدُ الحديثين ليس مِن كلامه - صلى الله عليه وسلم - وقد غَلِطَ فيه بعضُ الرواة مع كونه ثقةً ثَبتا ، فالثقةُ يَغْلَطُ ، أو يكونُ أحدُ الحديثين ناسخا للآخر إذا كان مما يَقْبَلُ النسخ ، أو يكونُ التعارضُ في فهم السامع ، لا في نفس كلامه - صلى الله عليه وسلم - فلا بُدَّ مِن وجه من هذه الوجوه الثلاثة .
وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان مِن كل وجه ، ليس أحدُهما ناسخا للآخر ، فهذا لا يُوجد أصلا ، ومعاذَ اللهِ أن يُوجَدَ في كلام الصادق المصدوق الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحقُّ ، والآفةُ مِن التقصير في معرفة المنقول ، والتمييز بين صحيحه ومعلوله ، أو من القُصور في فهم مُراده - صلى الله عليه وسلم - وحمل كلامه على غير ما عناه به ، أو منهما معا . ومن هاهنا وقع من الاختلاف والفساد ما وقع . . وبالله التوفيق .
قال ابن قتيبة في كتاب ( اختلاف الحديث ) له حكايةً عن أعداء الحديث وأهله : قالوا : حديثان متناقضان رويتُم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا عَدوَى ولا طِّيَرَة " . وقيل له : إنَّ العفنة تقع بمِشْفَرِ البَعيرِ ، فيجرَبُ لذلك الإبلُ ، قال : " فما أعدَى الأولَ ؟ " ثم رويتُم : " لا يُوردُ ذو عاهة على مُصِحٍّ ، وفِرَّ من المجذومِ فِرارَك من الأسَدِ " ، وأتاه رجل مجذوم ليُبايَعه بَيْعة الإسلام ، فأرسل إليه البَيْعةَ ، وأمَره بالانصراف ، ولم يأذن له ، وقال : " الشُّؤمُ في المرأة والدارِ والدَّابةِ " . قالوا : وهذا كُلُّه مختلِفٌ لا يُشبه بعضُه بعضا .
[1/114] قال أبو محمد : ونحن نقول : إنه ليس في هذا اختلافٌ ، ولكل معنى منها وقتٌ وموضع ، فإذا وُضِع موضعَه زال الاختلاف
والعدوى جنسان ؛ أحدهما : عدوى الجُذام ، فإنَّ المجذوم تشتدُّ رائحتُه حتى يُسْقِم مَن أطال مجالسته ومحادثته ، وكذلك المرأةُ تكونُ تحتَ المجذوم ، فتُضاجِعُه في شِعارَ واحد ، فيُوصِل إليها الأذى ، وربما جُذِمَتْ ، وكذلك ولدُه يَنزِعُون في الكِبر إليه ، وكذلك مَن كان به سلٌ ودِقٌ ونُقْبٌ . والأطباء تأمر ألا يُجالَس المسلول ولا المجذُوم ، ولا يُريدون بذلك معنى العدوى ، وإنما يُريدون به معنى تغيُّرِ الرائحة ، وأنها قد تُسْقِمْ مَن أطال اشتمامَها ، والأطباء أبعدُ الناس عن الإيمان بيُمن وشُؤم ، وكذلك النُّقْبةُ تكون بالبعير - وهو جَرَبٌ رَطبٌ - فإذا خالط الإبلَ أو حاكَّها ، وأوَى في مَباركها ، وصل إليها بالماء الذي يَسيل منه ، وبالنَّطف نحو ما به ، فهذا هو المعنى الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يُورَدُ ذو عاهة على مُصِح " ، كَرِهَ أن يُخالط المَعْيُوه الصحيحَ ، لئلا ينالَه مِن نَطَفه وحِكَّته نحو مما به .
قال : وأما الجنسُ الآخرُ من العدوى ، فهو الطاعونُ ينزلُ ببلد ، فيخرُج منه خوفَ العدوى ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " إذا وقَعَ بِبَلَدٍ وأنْتُم به ، فلا تَخْرُجُوا مِنْه ، وإذا كان بِبَلَدٍ ، فلا تَدْخُلُوه " . يريد بقوله : لا تَخْرُجُوا مِن البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أنَّ الفِرارَ مِن قَدَر الله يُنجيكم من الله ، ويُريد بقوله : ( إذا كان ببلد فلا تدخلوه ) ، أي : مُقامُكم في الموضع الذي لا طاعون فيه أسْكنُ لقلوبكم ، وأطيبُ لعيشكم ، ومن ذلك المرأةُ تُعرف بالشؤم أو الدارُ ، فينال الرجلَ مكروهٌ أو جائحةٌ ، فيقول : أعدتْني بشؤمها ، فهذا هو العدوى الذي قال فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا عَدْوَى ) .
وقالت فِرْقة أُخرى : بل الأمرُ باجتنابِ المجذوم والفِرار منه على الاستحباب ، والاختيار ، والإرشاد . وأما الأكل معه ، ففَعلُه لبيانِ الجواز ، وأنَّ هذا ليس بحرام .
وقالت فِرْقة أُخرى : بل الخطابُ بهذين الخطابين جزئي لا كلي . فكلُّ واحد خاطبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يليق بحاله ، فبعضُ الناس يكون قوي الإيمان ، قوي التوكل تدفع قوةُ توكله قُوَّةَ العدوى ، كما تدفع قوةُ الطبيعة قوةَ العِلَّة فتُبطلها ، وبعضُ الناس لا يَقوى على ذلك ، فخاطبه بالاحتياط والأخذ بالتحفظ ، وكذلك هو - صلى الله عليه وسلم - فَعل [1/115] الحالتين معا ، لتقتدي به الأُمة فيهما ، فيأخذ مَن قَوي من أُمته بطريقة التوكل والقُوَّة والثقة بالله ، ويأخذ مَن ضَعف منهم بطريقة التحفظ والاحتياط ، وهما طريقان صحيحان . أحدهما للمؤمن القوي ، والآخر للمؤمن الضعيف ، فتكون لكل واحد من الطائفتين حُجَّةٌ وقُدوةٌ بحسب حالهم وما يناسبهم ، وهذا كما أنه - صلى الله عليه وسلم - كَوى ، وأثنَى على تارِك الكي ، وقرن تركَه بالتوكل ، وتَرَكَ الطِّيرة ، ولهذا نظائرُ كثيرة ، وهذه طريقة لطيفةٌ حسنة جدا مَن أعطاها حقَّها ، ورُزِق فقْه نَفْسه فيها ، أزالت عنه تعارضا كثيرا يظنه بالسُّـنَّةِ الصحيحة .
وذهبت فِرقة أُخرى إلى أنَّ الأمر بالفِرار منه ، ومجانبتِه لأمر طبيعي ، وهو انتقالُ الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة إلى الصحيح ، وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة له ، وأما أكلُه معه مقدارا يسيرا من الزمان لمصلحة راجحة ، فلا بأس به ، ولا تحصُل العدوى مِن مرَّةٍ واحدة ولحظة واحدة ، فنَهى سدا للذريعة ، وحِمايةً للصحة ، وخالطه مخالطةً ما للحاجة والمصلحة ، فلا تعارُضَ بين الأمرين .
وقالت طائفة أُخرى : يجوز أن يكونَ هذا المجذومُ الذي أكل معه به من الجُذام أمرٌ يسير لا يُعدي مثله ، وليس الْجَذْمَى كُلُّهم سواءً ، ولا العدوى حاصلة من جميعهم ، بل منهم مَن لا تضرُّ مخالطته ، ولا تُعدي ، وهو مَن أصابه من ذلك شيء يسير ، ثم وقف واستمر على حاله ، ولم يُعْدِ بقيةَ جسمه ، فهو أن لا يعدي غيره أولى وأحرى .
وقالت فِرقة أُخرى : إنَّ الجاهلية كانت تعتقد أنَّ الأمراض المعدية تُعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه ، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقادَهم ذلك ، وأكل مع المجذوم ليُبَيِّنَ لهم أنَّ الله سبحانه هو الذي يُمرض ويَشفي ، ونهى عن القُرب منه ليتبينَ لهم أنَّ هذا من الأسباب التي جعلها الله مُفضية إلى مسبباتها ، ففي نهيه إثباتُ الأسباب ، وفي فعله بيان أنها لا تستقِلُّ بشيء ، بل الربُّ سبحانه إن شاء سلبها قواها ، فلا تؤثر شيئا ، وإن شاء أبقى عليها قُواها فأثَّرت .
وقالت فِرقة أُخرى : بل هذه الأحاديث فيها الناسخ والمنسوخ ، فيُنظر في تاريخها ، فإن عُلِمَ المتأخر منها ، حُكِمَ بأنه الناسخ ، وإلا توقفنا فيها .
[1/116] وقالت فِرقة أُخرى : بل بعضُها محفوظ ، وبعضها غيرُ محفوظ ، وتكلمت في حديث : ( لا عَدوَى ) ، وقالت : قد كان أبو هريرة يرويه أوَّلا ، ثم شكَّ فيه فتركه ، وراجعوه فيه ، وقالوا : سمعناك تُحدِّث به ، فأبى أن يُحدِّث به .
قال أبو سلمة : فلا أدري ، أنسيَ أبو هريرة ، أم نَسخَ أحدُ الحديثين الآخَر ؟
وأما حديثُ جابر : أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيدِ مجذوم ، فأدخلها معه في القصعة ، فحديثٌ لا يثبت ولا يَصِحُّ ، وغاية ما قال فيه الترمذي : إنه غريب ، لم يُصَحِّحْه ولم يُحَسِّنه . وقد قال شعبة وغيرُه : اتقوا هذه الغرائبَ . قال الترمذي : ويُروى هذا من فعل عمر ، وهو أثبت ، فهذا شأنُ هذين الحديثين اللَّذين عُورض بهما أحاديثُ النهي .
أحدهما : رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره .
والثاني : لا يَصِحُّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم ، وقد أشبعنا الكلام في هذه المسألة في كتاب ( المفتاح ) ، بأطولَ من هذا . وبالله التوفيق .