19 - كِتَاب اللِّعَانِ
[1] ( 1492 ) - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ : قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ فَقَالَ لَهُ : أَرَأَيْتَ يَا عَاصِمُ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ ؟ فَسَلْ لِي عَنْ ذَلِكَ يَا عَاصِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا ، حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ : يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ عَاصِمٌ ، لِعُوَيْمِرٍ : لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا ، قَالَ عُوَيْمِرٌ : وَاللَّهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا ، فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَطَ النَّاسِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ نَزَلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا ، قَالَ سَهْلٌ : فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ : كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ .
[2] وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ، أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْأَنْصَارِيَّ مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ أَتَى عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ وَأَدْرَجَ فِي الْحَدِيثِ قَوْلَهُ : وَكَانَ فِرَاقُهُ إِيَّاهَا سُنَّةً فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ . وَزَادَ فِيهِ : قَالَ سَهْلٌ : فَكَانَتْ حَامِلًا فَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى إِلَى أُمِّهِ ثُمَّ جَرَتْ السُّنَّةُ أَنَّهُ يَرِثُهَا وَتَرِثُ مِنْهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا .
[3] وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ ، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَعَنْ السُّنَّةِ فِيهِمَا عَنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَخِي بَنِي سَاعِدَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا ؟ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ وَزَادَ فِيهِ : فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ . وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ : فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَارَقَهَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ذَاكُمْ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ .

[10/93] كِتَابُ الْلِّعَانِ
اللِّعَانُ وَالْمُلَاعَنَةُ وَالتَّلَاعُنُ : مُلَاعَنَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ ، يُقَالُ : تَلَاعَنَا وَالْتَعْنَا وَلَاعَنَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ، وَسُمِّيَ لِعَانًا لِقَوْلِ الزَّوْجِ : عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ . قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ : وَاخْتِيرَ لَفْظُ اللَّعْنِ عَلَى لَفْظِ الْغَضَبِ وَإِنْ كَانَا مَوْجُودَيْنِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَفِي صُورَةِ اللِّعَانِ ، لِأَنَّ لَفْظَ اللَّعْنَةِ مُتَقَدِّمٌ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَفِي صُورَةِ اللِّعَانِ ، وَلِأَنَّ جَانِبَ الرَّجُلِ فِيهِ أَقْوَى مِنْ جَانِبِهَا لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِاللِّعَانِ دُونَهَا ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَكُّ لِعَانُهُ عَنْ لِعَانِهَا وَلَا يَنْعَكِسُ . وَقِيلَ : سُمِّيَ لِعَانًا مِنَ اللَّعْنِ وَهُوَ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَبْعُدُ عَنْ صَاحِبِهِ وَيَحْرُمُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِخِلَافِ الْمُطَلِّقِ وَغَيْرِهِ .
وَاللِّعَانُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا يَمِينٌ وَقِيلَ : شَهَادَةٌ . وَقِيلَ : يَمِينٌ فِيهَا ثُبُوتُ شَهَادَةٍ . وَقِيلَ : عَكْسُهُ . قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَلَيْسَ مِنَ الْأَيْمَانِ شَيْءٌ مُتَعَدِّدٌ إِلَّا اللِّعَانَ وَالْقَسَامَةَ وَلَا يَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي إِلَّا فِيهِمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَجُوِّزَ اللِّعَانُ لِحِفْظِ الْأَنْسَابِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنِ الْأَزْوَاجِ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّةِ اللِّعَانِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نُزُولِ آيَةِ اللِّعَانِ هَلْ هُوَ بِسَبَبِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ أَمْ بِسَبَبِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : بِسَبَبِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ . وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي الْبَابِ أَوَّلًا لِعُوَيْمِرٍ : قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ . وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : سَبَبُ نُزُولِهَا قِصَّةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ . وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا فِي قِصَّةِ هِلَالٍ قَالَ : وَكَانَ أَوَّلَ [10/94] رَجُلٍ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِهِ الْحَاوِي : قَالَ الْأَكْثَرُونَ : قِصَّةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَسْبَقُ مِنْ قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ . قَالَ : وَالنَّقْلُ فِيهِمَا مُشْتَبِهٌ وَمُخْتَلِفٌ . وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِهِ الشَّامِلِ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ : تَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ أَوَّلًا ، قَالَ : وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُوَيْمِرٍ : إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ ، فَمَعْنَاهُ مَا نَزَلَ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ . قُلْتُ : وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمَا جَمِيعًا فَلَعَلَّهُمَا سَأَلَا فِي وَقْتَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمَا ، وَسَبَقَ هِلَالٌ باللِّعَانِ فَيَصْدُقُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَذَا وَفِي ذَاكَ وَأَنَّ هِلَالًا أَوَّلُ مَنْ لَاعَنَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالُوا : وَكَانَتْ قِصَّةُ اللِّعَانِ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ . وَمِمَّنْ نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ ، عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ .
قَوْلُهُ : ( فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا ) . الْمُرَادُ كَرَاهَةُ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا لَا سِيَّمَا مَا كَانَ فِيهِ هَتْكُ سِتْرِ مُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمَةٍ أَوْ إِشَاعَةُ فَاحِشَةٍ أَوْ شَنَاعَةٌ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمَةٍ . قَالَ الْعُلَمَاءُ : أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَسَائِلُ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَقَدْ وَقَعَ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهَا وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ فِي الْحَدِيثِ . وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأَحْكَامِ الْوَاقِعَةِ فَيُجِيبُهُمْ وَلَا يَكْرَهُهَا ، وَإِنَّمَا كَانَ سُؤَالُ عَاصِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ قِصَّةٍ لَمْ تَقَعْ بَعْدَ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهَا ، وَفِيهَا شَنَاعَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ، وَتَسْلِيطُ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ وَنَحْوِهِمْ عَلَى الْكَلَامِ فِي أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي الْإِسْلَامِ ، وَلِأَنَّ مِنَ الْمَسَائِلِ مَا يَقْتَضِي جَوَابُهُ تَضْيِيقًا ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : أَعْظَمُ النَّاسِ حَرْبًا مَنْ سَأَلَ عَمَّا يَحْرُمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ .
قَوْلُهُ : ( يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ نَزَلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا . قَالَ سَهْلٌ : فَتَلَاعَنَا ) ، هَذَا الْكَلَامُ فِيهِ حَذْفٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سَأَلَ وَقَذَفَ امْرَأَتَهُ وَأَنْكَرَتِ الزِّنَا وَأَصَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَوْلِهِ ثُمَّ تَلَاعَنَا .
قَوْلُهُ ( أَيَقْتُلُ فَتَقْتُلُونَهُ ؟ ) مَعْنَاهُ إِذَا وَجَدَ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِهِ وَتَحَقَّقَ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فَإِنْ قَتَلَهُ قَتَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَرَكَهُ صَبَرَ عَلَى عَظِيمٍ فَكَيْفَ طَرِيقُهُ ؟ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ قَتَلَ رَجُلًا وَزَعَمَ أَنَّهُ وَجَدَهُ قَدْ زَنَى بِامْرَأَتِهِ . فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ : لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ أَوْ يَعْتَرِفُ بِهِ وَرَثَةُ الْقَتِيلِ . وَالْبَيِّنَةُ أَرْبَعَةٌ مِنْ عُدُولِ الرِّجَالِ يَشْهَدُونَ عَلَى نَفْسِ الزِّنَا ، وَيَكُونُ الْقَتِيلُ [10/95] مُحْصَنًا ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ قَتَلَ زَانِيًا مُحْصَنًا الْقِصَاصُ مَا لَمْ يَأْمُرِ السُّلْطَانُ بِقَتْلِهِ ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ . وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ تَصْدِيقُهُ فِي أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَتِهِ وَقَتَلَهُ بِذَلِكَ .
قَوْلُهُ : ( قَالَ سَهْلٌ : فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فِيهِ أَنَّ اللِّعَانَ يَكُونُ بِحَضْرَةِ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي وَبِمَجْمَعٍ مِنَ النَّاسِ ، وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ تَغْلِيظِ اللِّعَانِ فَإِنَّهُ تَغْلِيظٌ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْجَمْعِ . فَأَمَّا الزَّمَانُ فَبَعْدَ الْعَصْرِ ، وَالْمَكَانُ فِي أَشْرَفِ مَوْضِعٍ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ ، وَالْجَمْعُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ .
وَهَلْ هَذِهِ التَّغْلِيظَاتُ وَاجِبَةٌ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ ؟ فِيهِ خِلَافٌ عِنْدَنَا الْأَصَحُّ الِاسْتِحْبَابُ .
قَوْلُهُ : ( فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ : كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا . فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ شِهَابٌ : فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : ( فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَفَارَقَهَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ذَاكُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ ) . وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : ( أَنَّهُ لَاعَنَ ثُمَّ لَاعَنَتْ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ) . وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا . اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْفُرْقَةِ بِاللِّعَانِ . فَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ : تَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِنَفْسِ التَّلَاعُنِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ . لَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ : تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى لِعَانِ الزَّوْجَةِ . وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ : تَتَوَقَّفُ عَلَى لِعَانِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ إِلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِهَا بَعْدَ التَّلَاعُنِ ، لِقَوْلِهِ : ( ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ) ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ : لَا تَفْتَقِرُ إِلَى قَضَاءِ الْقَاضِي لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا . وَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : ( فَفَارِقْهَا ) . وَقَالَ اللَّيْثُ : لَا أَثَرَ لِلِّعَانِ فِي الْفُرْقَةِ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ فِرَاقٌ أَصْلًا .
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِتَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ فِيمَا إِذَا كَذَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ نَفْسَهُ ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَحِلُّ لَهُ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُحَرِّمِ . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا : لَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا ) . فَهُوَ كَلَامٌ تَامٌّ مُسْتَقِلٌّ . ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ : هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا . تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا يُمْسِكُهَا وَإِنَّمَا طَلَّقَهَا لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ اللِّعَانَ لَا يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ فَأَرَادَ تَحْرِيمَهَا بِالطَّلَاقِ ، فَقَالَ : هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا . فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا ، أَيْ لَا مِلْكَ لَكَ عَلَيْهَا فَلَا يَقَعُ طَلَاقُكَ . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَحْصُلُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ جَمْعَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لَيْسَ حَرَامًا ، وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ إِطْلَاقَ لَفْظِ الثَّلَاثِ ، وَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا فَيُقَالُ : إِنَّمَا لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفِ الطَّلَاقُ مَحِلًّا مَمْلُوكًا لَهُ وَلَا نُفُوذًا . وَيُجَابُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الثَّلَاثُ مُحَرَّمًا لَأَنْكَرَ [10/96] عَلَيْهِ ، وَقَالَ لَهُ : كَيْفَ تُرْسِلُ لَفْظَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مَعَ أَنَّهُ حَرَامٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ : إِنَّمَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِظْهَارُ الطَّلَاقِ بَعْدَ اللِّعَانِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ وَكَيْفَ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُطَلِّقَ مَنْ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً؟ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ الْمَالِكِيُّ : لَا تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ . وَاحْتَجَّ بِطَلَاقِ عُوَيْمِرٍ وَبِقَوْلِهِ ( إِنْ أَمْسَكْتُهَا ) وَتَأَوَّلَهُ الْجُمْهُورُ كَمَا سَبَقَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ ) ، فَقَدْ تَأَوَّلَهُ ابْنُ نَافِعٍ الْمَالِكِيُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ اسْتِحْبَابُ الطَّلَاقِ بَعْدَ اللِّعَانِ كَمَا سَبَقَ ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ : مَعْنَاهُ حُصُولُ الْفُرْقَةِ بِنَفْسِ اللِّعَانِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ذَاكُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ . فَمَعْنَاهُ عِنْدَ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ بَيَانُ أَنَّ الْفُرْقَةَ تَحْصُلُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ تَحْرِيمُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ كَمَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ قَذْفِهِ لِزَوْجَتِهِ لَا يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ ، إِلَّا أَبَا عُبَيْدٍ فَقَالَ : تَصِيرُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْقَذْفِ بِغَيْرِ لِعَانٍ .
قَوْلُهُ : ( وَكَانَتْ حَامِلًا فَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى إِلَى أُمِّهِ ثُمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ أَنْ يَرِثَهَا وَتَرِثَ مِنْهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا ) . فِي جَوَازِ لِعَانِ الْحَامِلِ وَأَنَّهُ إِذَا لَاعَنَهَا وَنَفَى عَنْ نَسَبِ الْحَمْلِ انْتَفَى عَنْهُ ، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنَ الْأُمِّ وَيَرِثُهَا وَتَرِثُ مِنْ مَا فَرَضَ اللَّهُ لِلْأُمِّ وَهُوَ الثُّلُثُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ وَلَا اثْنَانِ مِنَ الْإِخْوَةِ أَوِ الْأَخَوَاتِ ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَهَا السُّدُسُ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَرَيَانِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ ، وَهُمْ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ مِنْ أُمِّهِ ، وَجَدَّاتُهُ مِنْ أُمِّهِ ، ثُمَّ إِذَا دُفِعَ إِلَى أُمِّهِ فَرَضُهَا أَوْ إِلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَبَقِيَ شَيْءٌ فَهُوَ لِمَوَالِي أُمِّهِ إِنْ كَانَ عَلَيْهَا وَلَاءٌ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ هُوَ وَلَا بِمُبَاشَرَةِ إِعْتَاقِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَوَالٍ فَهُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ . هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ . وَقَالَ الْحَكَمُ ، وَحَمَّادٌ : [10/97] تَرِثُهُ وَرَثَةُ أُمِّهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : عَصَبَةُ أُمِّهِ . رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ . قَالَ أَحْمَدُ : فَإِنِ انْفَرَدَتِ الْأُمُّ أَخَذَتْ جَمِيعَ مَالِهِ بِالْعُصُوبَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا انْفَرَدَتْ أَخَذَتِ الْجَمِيعَ لَكِنِ الثُّلُثُ بِالْفَرْضِ وَالْبَاقِي بِالرَّدِّ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ فِي إِثْبَاتِ الرَّدِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ : ( فَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ ) ، فِيهِ اسْتِحْبَابُ كَوْنِ اللِّعَانِ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ .