[1/226] قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ الْكِتَابُ وَالنَّظَرُ .
29 - سَمَاعُ الْمَوْتَى .
قَالُوا : رُوِّيتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ فَقَالَ : يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَيَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَيَا فُلَانُ وَيَا فُلَانُ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ فَقَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ كَمَا تَسْمَعُونَ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَيَقُولُ : فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ : اللَّهُمَّ رَبَّ الْأَجْسَادِ الْبَالِيَةِ وَالْأَرْوَاحِ الْفَانِيَةِ . وَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ الْأَرْوَاحِ أَيْنَ تَكُونُ إِذَا فَارَقَتِ الْأَجْسَادَ ، وَأَيْنَ تَذْهَبُ الْأَجْسَادُ إِذَا بَلِيَتْ ؟ فَقَالَ : أَيْنَ يَذْهَبُ السِّرَاجُ إِذَا طُفِئَ وَأَيْنَ يَذْهَبُ الْبَصَرُ إِذَا عَمِيَ ؟ وَأَيْنَ يَذْهَبُ لَحْمُ الصَّحِيحِ إِذَا مَرِضَ ؟ قَالَ لَا أَيْنَ ، قَالَ : فَكَذَلِكَ الْأَرْوَاحُ إِذَا فَارَقَتِ الْأَجْسَادَ .
وَهَذَا لَا يُشْبِهُ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ كَمَا تَسْمَعُونَ وَمَا تَرَوْنَهُ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ .
[1/227] قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا جَازَ فِي الْمَعْقُولِ صَحَّ فِي النَّظَرِ وَبِالْكِتَابِ وَالْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الْأَجْسَادُ قَدْ بَلِيَتْ وَالْعِظَامُ قَدْ رَمَّتْ ، جَازَ أَيْضًا فِي الْمَعْقُولِ وَصَحَّ فِي النَّظَرِ ، وَبِالْكِتَابِ وَالْخَبَرِ أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ بَعْدَ الْمَمَاتِ فِي الْبَرْزَخِ .
فَأَمَّا الْكِتَابُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ .
فَهُمْ يُعْرَضُونَ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْخُلُونَ أَشَدَّ الْعَذَابِ .
وَاللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ – يَقُولُ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .
وَهَذَا شَيْءٌ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ شُهَدَاءَ بَدْرٍ ، وَقَدْ أُخْرِجُوا عِنْدَ حَفْرِ الْقَنَاةِ رِطَابًا يَتَثَنَّوْنَ ، حَتَّى قَالَ قَائِلٌ : لَا نُنْكِرُ بَعْدَ هَذَا شَيْئًا .
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : لَمَّا أَرَادَ مُعَاوِيَةُ أَنْ يُجْرِيَ الْعَيْنَ الَّتِي حَفَرَهَا ، - قَالَ سَفِينٌ تُسَمَّى عَيْنُ أَبِي زِيَادٍ بِالْمَدِينَةِ - نَادَوْا بِالْمَدِينَةِ : مَنْ كَانَ لَهُ قَتِيلٌ فَلْيَأْتِ قَتِيلَهُ.
قَالَ جَابِرٌ : فَأَتَيْنَاهُمْ فَأَخْرَجْنَاهُمْ رِطَابًا يَتَثَنَّوْنَ ، وَأَصَابَتِ الْمِسْحَاةُ رِجْلَ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَانْقَطَرَتْ دَمًا . فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ : لَا يُنْكِرُ بَعْدَهَا مُنْكِرٌ أَبَدًا .
وَرَأَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ أَبَاهَا فِي الْمَنَامِ ، فَقَالَ لَهَا : يَا بُنَيَّةُ حَوِّلِينِي مِنْ هَذَا الْمَكَانِ ، فَقَدْ أَضَرَّ بِيَ النَّدَى . [1/228] فَأَخْرَجَتْهُ بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوِهَا ، فَحَوَّلَتْهُ مِنْ ذَلِكَ النَّزِّ وَهُوَ طَرِيٌّ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ ، فَدُفِنَ بِالْهَجَرِيِّينَ بِالْبَصْرَةِ . وَتَوَلَّى إِخْرَاجَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَامَةَ التَّيْمِيُّ .
وَهَذِهِ أَشْيَاءُ مَشْهُورَةٌ كَأَنَّهَا عِيَانٌ ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءُ أَحْيَاءً عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، وَجَازَ أَنْ يَكُونُوا فَرِحِينَ وَمُسْتَبْشِرِينَ ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْدَاؤُهُمُ الَّذِينَ حَارَبُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ أَحْيَاءً فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ ؟ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونُوا أَحْيَاءً فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا يَسْمَعُونَ ؟ وَقَدْ أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ الْحَقُّ .
وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : إِنَّهُ يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْجَنَّةِ وَتَسْمِيَتُهُ لَهُ ذَا الْجَنَاحَيْنِ ، وَكَثْرَةُ الْأَخْبَارِ عَنْهُ فِي مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَفِي عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَفِي دُعَائِهِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ صِحَاحٌ لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهَا التَّوَاطُؤُ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ مِثْلُهَا لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ دِينِنَا ، وَلَا شَيْءَ أَصَحُّ مِنْ أَخْبَارِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ، وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [1/229] فَلَيْسَ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ ، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَوْتَى هَاهُنَا الْجُهَّالَ ، وَهُمْ أَيْضًا أَهْلُ الْقُبُورِ . يُرِيدُ إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى إِفْهَامِ مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَاهِلًا وَلَا تَقْدِرُ عَلَى إِسْمَاعِ مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَصَمَّ عَنِ الْهُدَى .
وَفِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ دَلِيلٌ عَلَى مَا نَقُولُ لِأَنَّهُ قَالَ : وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ يُرِيدُ بِالْأَعْمَى : الْكَافِرَ ، وَبِالْبَصِيرِ : الْمُؤْمِنَ .
وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ يَعْنِي بِالظُّلُمَاتِ الْكُفْرَ وَبِالنُّورِ الْإِيمَانَ ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ يَعْنِي بِالظِّلِّ الْجَنَّةَ وَبِالْحَرُورِ النَّارَ ، وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ يَعْنِي بِالْأَحْيَاءِ الْعُقَلَاءَ وَبِالْأَمْوَاتِ الْجُهَلَاءَ .
ثُمَّ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ يَعْنِي أَنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْجُهَلَاءَ الَّذِينَ كَأَنَّهُمْ مَوْتَى فِي الْقُبُورِ ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَلَمْ يُرِدْ بِالْمَوْتَى الَّذِينَ ضَرَبَهُمْ مَثَلًا لِلْجُهَلَاءِ شُهَدَاءَ بَدْرٍ ، فَيُحْتَجَّ بِهِمْ عَلَيْنَا ، أُولَئِكَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " اللَّهُمَّ رَبَّ الْأَجْسَادِ الْبَالِيَةِ وَالْأَرْوَاحِ الْفَانِيَةِ " ، فَإِنَّهُ قَالَهُ [1/230] عَلَى مَا يَعْرِفُ النَّاسُ وَعَلَى مَا شَاهَدُوا ، لِأَنَّهُمْ يَفْقِدُونَ الشَّيْءَ فَيَكُونُ مُبْطَلًا عِنْدَهُمْ وَفَانِيًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مَعْلُومٌ وَغَيْرُ فَانٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ السَّمِينَ الضَّخْمَ الْعَظِيمَ الصَّحِيحَ يَعْتَلُّ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَيَذْهَبُ مِنْ جِسْمِهِ نِصْفُهُ أَوْ ثُلُثَاهُ ، وَلَا نَعْلَمُ أَيْنَ ذَهَبَ ذَلِكَ فَهُوَ عِنْدَنَا فَانٍ مُبْطَلٌ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَيْنَ ذَهَبَ ؟ وَفِي أَيِّ شَيْءٍ صَارَ ؟ .
وَأَنَّ الْإِنَاءَ الْعَظِيمَ مِنَ الزُّجَاجِ يَكُونُ فِيهِ الْمَاءُ أَيَّامًا فَيَذْهَبُ بِالْحَرِّ بَعْضُهُ ، وَإِنْ تَطَاوَلَتْ بِهِ الْمُدَّةُ ذَهَبَ كُلُّهُ وَالزُّجَاجُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّشَفُ وَلَا الرَّشْحُ ، وَلَا نَدْرِي أَيْنَ ذَهَبَ مَا فِيهِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُهُ . وَأَنَّا نُطْفِئُ بِالنَّفْخَةِ الْمِصْبَاحِ فَتَذْهَبُ وَتَكُونُ عِنْدَنَا فَانِيَةً وَلَا نَدْرِي أَيْنَ ذَهَبَتْ وَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ كَيْفَ ذَهَبَتْ وَأَيْنَ حَلَّتْ ؟ كَذَلِكَ الْأَرْوَاحُ عِنْدَنَا فَانِيَةٌ وَهِيَ بِقَولِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ وَفِي عِلِّيِّينَ وَفِي سِجِّينٍ وَتُشَامُّ فِي الْهَوَاءِ ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ .