فصل
في هَدْيه - صلى الله عليه وسلم - في الأكل
فأما المطعمُ والمشرب ، فلم يكن مِن عادته - صلى الله عليه وسلم - حبسُ النفسِ على نوع واحد من الأغذية لا يتعدَّاه إلى ما سواه ، فإنَّ ذلك يضر بالطبيعة جدا ، وقد يتعذَّر عليها أحيانا ، فإن لم يتناول غيرَه ، ضعفَ أو هلكَ ، وإن تناول غيره ، لم تقبله الطبيعة ، واسْتضرَّ به ، فقصرها على نوع واحد دائما - ولو أنه أفضل الأغذية - خطرٌ مُضر .
بل كان يأكل ما جرت عادةُ أهل بلده بأكله مِنَ اللَّحم ، والفاكهة ، والخُبز ، والتمر ، وغيره مما ذكرناه في هَدْيه في المأكول ، فعليك بمراجعته هناك .
وإذا كان في أحد الطعامين كيفيةٌ تحتاجُ إلى كسرٍ وتعديلٍ ، كسَرها وعدلها بضدها إن أمكن ، كتعديل حرارة الرُّطَبِ بالبطيخ ، وإن لم يجد ذلك ، تناوَله على حاجة وداعيةٍ من النفس من غير إسراف ، فلا تتضرر به الطبيعة .
[1/161] وكان إذا عافت نفسُه الطعامَ لم يأكله ، ولم يحملها إيَّاه على كُره ، وهذا أصل عظيم في حفظ الصحة ، فمتى أكل الإنسان ما تعافه نفسه ، ولا يشتهيه ، كان تضرُّره به أكثر من انتفاعه . قال أبو هريرة : " ما عابَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما قَطُّ ، إن اشتهاه أكلَه ، وإلا تركه ، ولم يأكلْ منه . ولمَّا قُدِّمَ إليه الضَّبُّ المشوي لم يأكلْ منه ، فقيل : أهو حرامٌ ؟ قال : لا ، ولكنْ لم يكن بأرضِ قَوْمي ، فأجِدُني أعافُه " . فراعى عادتَه وشهوتَه ، فلمَّا لم يكن يعتادُ أكله بأرضه ، وكانت نفسُه لا تشتهيه ، أمسَكَ عنه ، ولم يَمنع مِن أكله مَن يشتهيه ، ومَنْ عادتُه أكلُه .
وكان يحبُّ اللَّحم ، وأحبُّه إليه الذراعُ ، ومقدم الشاة ، ولذلك سُمَّ فيه . وفي ( الصحيحين ) : " أُتي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بلحم ، فرُفِع إليه الذراع ، وكانت تُعجبُه " .
وذكر أبو عُبيدة وغيره عن ضباعَة بنت الزُّبير ، أنها ذَبحتْ في بيتها شاةً ، فأرسل إليها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ أطعِمِينا من شاتكم ، فقالت للرسول : ما بقي عندَنا إلا الرَّقبةُ ، وإني لأستحيي أنْ أُرسلَ بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع الرسولُ فأخبره ، فقال : " ارْجِعْ إليها فقلْ لها : أَرْسِلي بِهَا ، فإنَّها هاديةُ الشَّاةِ وأقْرَبُ إلى الخَيْر ، وأبعدُها مِنَ الأذَى " .
ولا ريب أن أخفَّ لحمِ الشاة لحمُ الرقبة ، ولحمُ الذراع والعَضُد ، وهو أخفُّ على المَعِدَة ، وأسرعُ انهضاما ، وفي هذا مراعاةُ الأغذية التي تجمع ثلاثةَ أوصاف ؛ أحدها : كثرةُ نفعها وتأثيرها في القُوَى . الثاني : خِفَّتُها على المَعِدَة ، وعدمُ ثقلها عليها . الثالث : سرعةُ هضمها ، وهذا أفضل ما يكون من الغِذاء . والتغذّي باليسير من هذا أنفعُ من الكثير من غيره .
وكان يُحب الحَلْواءَ والعسلَ ، وهذه الثلاثة أعني : اللَّحم والعسل والحلواء من أفضل الأغذية ، وأنفعها للبدن والكَبِد والأعضاء ، وللاغتذاء بها نفعٌ عظيم في حفظ الصحة والقوة ، ولا ينفِرُ منها إلا مَن به عِلَّةٌ وآفة .
[1/162] وكان يأكُلُ الخبز مأدُوما ما وَجَدَ له إداما ، فتارةً يَأدِمُه باللَّحم ويقول : " هُوَ سَـيِّدُ طعامِ أهلِ الدُّنيا والآخرةِ " رواه ابن ماجه وغيره ، وتارة بالبطيخ ، وتارةً بالتمر ، فإنه وضع تمرة على كِسْرة شعير ، وقال : " هذا إدامُ هذه " . وفي هذا من تدبير الغذاء أنَّ خبز الشعير بارد يابس ، والتمر حار رطب على أصح القولين ، فأدم خبز الشعير به من أحسن التدبير ، لا سِيَّما لمن تلك عادتُهم ، كأهل المدينة ، وتارةً بالخَلِّ ، ويقول : " نِعْمَ الإدَامُ الخَلُّ " ، وهذا ثناءٌ عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر ، لا تفضيلٌ له على غيرِه ، كما يظن الجُهَّالُ ، وسببُ الحديث أنه دخَلَ على أهله يوما ، فقدَّموا له خبزا ، فقال : " هَل عِنْدَكُم مِن إدَامٍ ؟ قالوا : ما عِندَنا إلا خَل . فقال : " نِعْمَ الإدامُ الخَلُّ " . والمقصود : أنَّ أكل الخبز مأدوما من أسباب حِفظ الصحة ، بخلاف الاقتصار على أحدهما وحده . وسُمي الأُدمُ أُدما : لإصلاحه الخبزَ ، وجعلِه ملائما لحفظ الصحة . ومنه قوله في إباحته للخاطب النظرَ : إنه أحْرَى أنْ يُؤدَمَ بيْنَهما ، أي : أقربُ إلى الالتئام والموافقة ، فإنَّ الزوجَ يدخل على بصيرة ، فلا يندَم .
وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها ، ولا يَحتمي عنها ، وهذا أيضا من أكبر أسباب حفظ الصحة ، فإنَّ الله سبحانه بحكمته جعل في كل بلدةٍ من الفاكهة ما ينتفِعُ به أهلُها في وقتِهِ ، فيكونُ تناولُه من أسباب صحتِهم وعافيتِهم ، ويُغني عن كثير من الأدوية ، وقَلَّ مَن احتَمى عن فاكهة بلده خشيةَ السُّقم إلا وهو مِن أسقم الناس جسما ، وأبعدِهم من الصحة والقوة .
وما في تلك الفاكهة من الرطوبات ، فحرارةُ الفصل والأرض ، وحرارةُ المَعِدَة تُنضِجُهَا وتدفع شرها إذا لم يُسْرِفْ في تناولها ، ولم يُحمِّلْ منها الطبيعةَ فوق ما تَحْتَمِله ، ولم يُفسد بها الغذاء قبل هضمه ، ولا أفسَدَها بشرب الماء عليها ، وتناولِ الغذاء بعد التحلّي منها ، فإن القُولَنْج كثيرا ما يَحدث عند ذلك ، فمَن أكل منها ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي ، كانت له دواءً نافعا .