[1/434] 51 - قَالُوا : أَحَادِيثُ مُتَنَاقِضَةٌ
الرَّضَاعُ بَعْدَ الْفِصَالِ
قَالُوا : رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ ، وَقَالَ : انْظُرْنَ ، مَا إِخْوَانُكُنَّ ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ ، يُرِيدُ مَا رَضَعَهُ الصَّبِيُّ فَعَصَمَهُ مِنَ الْجُوعِ ، ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ : إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ عَلَيَّ كَرَاهَةً فَقَالَ : أَرْضِعِيهِ . قَالَتْ : أُرْضِعُهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ ، فَضَحِكَ ثُمَّ قَالَ : أَلَسْتُ أَعْلَمَ أَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ ؟ .
[1/435] وَقُلْتُمْ : قَالَ مَالِكٌ عَنِ الزَّهْرِيِّ : إِنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تُفْتِي بِأَنَّ الرَّضَاعَ يُحَرِّمُ بَعْدَ الْفِصَالِ حَتَّى مَاتَتْ ، تَذْهَبُ إِلَى حَدِيثِ سَالِمٍ ، قَالُوا : وَهَذَا طَرِيقٌ عِنْدَكُمْ مُرْتَضًى صَحِيحٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ وَلَا يُدْفَعَ .
حَدِيثُ رَضَاعِ سَالِمٍ وَهُوَ كَبِيرٌ خَاصٌّ بِهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَنَحْنُ نَقُولُ : إِنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ .
وَقَدْ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَغَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّهُ كَانَ لِسَالِمٍ خَاصَّةً ، غَيْرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُبَيِّنَّ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا لِسَالِمٍ وَنَحْنُ مُخْبِرُونَ عَنْ قِصَّةِ أَبِي حُذَيْفَةَ وَسَالِمٍ وَالسَّبَبِ بَيْنَهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
أَمَّا أَبُو حُذَيْفَةَ فَهُوَ ابْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَكَانَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ فِي الْهِجْرَتَيْنِ جَمِيعًا ، وَهُنَاكَ وُلِدَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ ، وَقُتِلَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ الْيَمَامَةِ ، وَلَا عَقِبَ لَهُ .
وَأَمَّا سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ فَإِنَّهُ بَدْرِيٌّ وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ ، وَكَانَ خَيِّرًا فَاضِلًا ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ وَفَاتِهِ : لَوْ كَانَ سَالِمٌ حَيًّا مَا تَخَالَجَنِي فِيهِ الشَّكُّ .
يُرِيدُ لَقَدَّمْتُهُ لِلصَّلَاةِ بِالنَّاسِ إِلَى أَنْ يَتَّفِقَ أَصْحَابُ الشُّورَى عَلَى تَقْدِيمِ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، ثُمَّ قَدَّمَ صُهَيْبًا .
[1/436] وَكَانَ سَالِمٌ عَبْدًا لِامْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي اسْمِهَا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ سَلْمَى مِنْ بَنِي خَطْمَةَ . وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ ثُبَيْتَةُ .
وَكُلُّهُمْ مُجْمِعٌ عَلَى أَنَّهَا أَنْصَارِيَّةٌ ، فَأَعْتَقَتْهُ فَتَوَلَّى أَبَا حُذَيْفَةَ وَتَبَنَّاهُ فَنُسِبَ إِلَيْهِ بِالْوَلَاءِ ، وَاسْتُشْهِدَ سَالِمٌ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَوَرِثَتْهُ الْمُعْتِقَةُ لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقِبٌ وَلَا وَارِثٌ غَيْرَهَا ، وَهَذَا الَّذِي أَخْبَرْتُ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ أَبِي حُذَيْفَةَ وَسَالِمٍ فِي الْإِسْلَامِ وَجَلَالَتِهِمَا وَلُطْفِ مَحَلِّهِمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَلَمَّا ذَكَرَتْ لَهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ مَا تَرَاهُ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ عَلَيْهِ ، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى مَوْلَاتِهِ الْمُعْتِقَةُ لَهُ وَيَدْخُلُ عَلَيْهَا كَمَا يَدْخُلُ الْعَبْدُ النَّاشِئُ فِي مَنْزِلِ سَيِّدِهِ ، ثُمَّ يُعْتَقُ فَيَدْخُلُ أَيْضًا بِالْإِلْفِ الْمُتَقَدِّمِ وَالتَّرْبِيَةِ .
التَّرْخِيصُ فِي الدُّخُولِ لِبَعْضِ الرِّجَالِ بَأَسْبَابٍ .
وَهَذَا مَا لَا يُنْكِرُهُ النَّاسُ مِنْ مَثَلِ سَالِمٍ وَمِمَّنْ هُوَ دُونَ سَالِمٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ فِي دُخُولِ مَنْ مَلَكْنَ عَلَيْهِنَّ وَدُخُولِ مَنْ لَا إِرْبَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ : كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ ، وَالطِّفْلِ ، وَالْخَصِيِّ ، وَالْمَجْبُوبِ ، وَالْمُخَنَّثِ ، وَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ وَبَيْنَ ذَوِي الْمَحَارِمِ فَقَالَ تَعَالَى : [1/437] وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ يَعْنِي الْمُسْلِمَاتِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ يَعْنِي الْعَبِيدَ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ يَعْنِي مَنْ يَتْبَعُ الرَّجُلَ وَيَكُونُ فِي حَاشِيَتِهِ كَالْأَجِيرِ وَالْمَوْلَى وَالْحَلِيفِ وَأَشْبَاهِ هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ يَخْلُو سَالِمٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ فِي النِّسَاءِ .
وَلَعَلَّهُ كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْقِبْ ، أَوْ يَكُونُ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَرَعِ وَالدِّيَانَةُ وَالْفَضْلِ ، وَمَا خَصَّهُ بِهِ حَتَّى رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ أَهْلًا لِأُخُوَّةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَأْمُونًا عِنْدَهُ بَعِيدًا مِنْ تَفَقُّدِ النِّسَاءِ وَتَتَبُّعِ مَحَاسِنِهِنَّ بِالنَّظَرِ .
وَقَدْ رُخِّصَ لِلنِّسَاءِ أَنْ يُسْفِرْنَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِنَّ لِلْقَاضِي وَالشُّهُودِ وَصُلَحَاءِ الْجِيرَانِ ، وَرُخِّصَ لِلْقَوَاعِدِ مِنَ النِّسَاءِ وَهُنَّ الطَّاعِنَاتُ فِي السِّنِّ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ .
وَقَدْ كَانَ سَالِمٌ يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَتَرَى هِيَ الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ ، وَلَوْلَا أَنَّ الدُّخُولَ كَانَ جَائِزًا مَا دَخَلَ ، وَلَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ يَنْهَاهُ فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَحَلِّهِمَا عِنْدَهُ ، وَمَا أَحَبَّ مِنَ ائْتِلَافِهِمَا وَنَفْيِ الْوَحْشَةِ عَنْهُمَا أَنْ يُزِيلَ عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ وَيُطَيِّبَ نَفْسَهُ بِدُخُولِهِ ، فَقَالَ لَهَا : أَرْضِعِيهِ .
وَلَمْ يُرِدْ ضَعِي ثَدْيَكِ فِي فِيهِ كَمَا يُفْعَلُ بِالْأَطْفَالِ ، وَلَكِنْ أَرَادَ احْلِبِي لَهُ مِنْ لَبَنِكِ شَيْئًا ، ثُمَّ ادْفَعِيهِ إِلَيْهِ لِيَشْرَبَهُ ، لَيْسَ يَجُوزُ غَيْرُ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِسَالِمٍ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى ثَدْيَيْهَا إِلَى أَنْ يَقَعَ الرَّضَاعُ ، فَكَيْفَ يُبِيحُ لَهُ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ ، وَمَا لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ مِنَ الشَّهْوَةِ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُرْضِعُهُ وَهُوَ كَبِيرٌ ، فَضَحِكَ ، وَقَالَ : أَلَسْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ كَبِيرٌ ؟
[1/438] وَضَحِكُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَلَطَّفَ بِهَذَا الرَّضَاعِ لِمَا أَرَادَ مِنَ الِائْتِلَافِ وَنَفْيِ الْوَحْشَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ دُخُولُ سَالِمٍ كَانَ حَرَامًا ، أَوْ يَكُونُ هَذَا الرَّضَاعُ أَحَلَّ شَيْئًا كَانَ مَحْظُورًا ، أَوْ صَارَ سَالِمٌ لَهَا بِهِ ابْنًا .
وَمِثْلُ هَذَا مِنْ تَلَطُّفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَوَاهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ ، عَنِ الْحَسَنِ : أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ بِرَجُلٍ قَدْ قَتَلَ حَمِيمًا لَهُ فَقَالَ لَهُ : أَتَأْخُذُ الدِّيَةَ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : أَفَتَعْفُو ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَاذْهَبْ فَاقْتُلْهُ . قَالَ : فَلَمَّا جَاوَزَ بِهِ الرَّجُلُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ . فَخُبِّرَ الرَّجُلُ بِمَا قَالَ فَتَرَكَهُ ، فَوَلَّى وَهُوَ يَجُرُّ نِسْعَهُ فِي عُنُقِهِ .
وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْمَأْثَمِ وَاسْتِيجَابِ النَّارِ إِنْ قَتَلَهُ ، وَكَيْفَ يُرِيدُ هَذَا وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ قَتْلَهُ بِالْقِصَاصِ ، وَلَكِنَّهُ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ ، وَأَحَبَّ لَهُ الْعَفْوَ فَأَوْهَمَهُ أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ كَانَ مِثْلَهُ فِي الْإِثْمِ لِيَعْفُوَ عَنْهُ ، وَكَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَقْتُلُ نَفْسًا كَمَا قَتَلَ الْأَوَّلُ نَفْسًا ، فَهَذَا قَاتِلٌ وَذَاكَ قَاتِلٌ ، فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي قَاتِلٍ وَقَاتِلٍ ، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ ظَالِمٌ وَالْآخَرَ مُقْتَصٌّ .