[1/22] ذكر القسم الأول وهو العلاج بالأدوية الطبيعية
فصل
في هَدْيه في علاج الحُمَّى
ثبت في الصحيحين : عن نافع ، عن ابن عمرَ ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنَّمَا الحُمَّى أو شِدَّةُ الحُمَّى مِنْ فَيحِ جَهنمَ ، فَأبْرِدُوُهَا بِالْمَاءِ " .
وقد أشكل هذا الحديثُ على كثير من جهلة الأطباء ، ورأوه منافيا لدواء الحُمَّى وعلاجِها ، ونحن نُبيِّنُ بحَوْل الله وقوته وجهَه وفقهه فنقول : خطابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - نوعان : عامٌ لأهل الأرض ، وخاصٌ ببعضهم .
فالأول : كعامة خطابه .
والثاني : كقوله : " لاَ تَسْتَقْبلُوا القِبلَةَ بغائطٍ ولاَ بَولٍ ، ولاَ تَسْتَدْبِروهَا ، ولكنْ شرِّقوا ، أوْ غَرِّبُوا " . فهذا ليس بخطاب لأهل المشرق والمغرب ولا العراق ، ولكن لأهل المدينة وما على سَماتِها ، كالشام وغيرها . وكذلك قوله : " مَا بينَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ قبلَةٌ " .
وإذا عُرف هذا ، فخطابُه في هذا الحديث خاصٌ بأهل الحجاز ، وما والاهم ، إذ كان أكثرُ الحُمَّياتِ التي تَعرض لهم من نوع الحُمَّى اليومية العَرَضية الحادثةِ عن شدة حرارة الشمس ، وهذه ينفعُها الماء البارد شُربا واغتسالا ، فإن الحُمَّى حرارةٌ غريبة تشتعل في القلب ، وتنبثُّ منه بتوسط الروح والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن ، فتشتعل فيه اشتعالا يضر بالأفعال الطبيعية ، وهي تنقسم إلى قسمين :
عَرَضية : وهي الحادثةُ إما عن الورم ، أو الحركة ، أو إصابةِ حرارة الشمس ، أو القَيْظ الشديد ونحو ذلك .
ومرضية : وهي ثلاثةُ أنواع ، وهي لا تكون إلا في مادة أُولى ، ثم منها يسخن جميع البدن . فإن كان مبدأ تعلقها بالروح سميت حُمَّى يوم ، لأنها في الغالب تزول في يوم ، ونهايتُها في ثلاثة أيام ، وإن كان مبدأُ تعلقها بالأخلاط سميت عفنية ، وهي [1/23] أربعة أصناف : صفراوية ، وسوداوية ، وبلغمية ، ودموية . وإن كان مبدأ تعلقها بالأعضاء الصلبة الأصلية ، سميت حُمَّى دِق ، وتحت هذه الأنواع أصنافٌ كثيرة .
وقد ينتفع البدن بالحُمَّى انتفاعا عظيما لا يبلغه الدواء ، وكثيرا ما يكون حُمَّى يوم وحُمَّى العفن سببا لإنضاج موادَّ غليظة لم تكن تنضِجُ بدونها ، وسببا لتفتح سُدَدٍ لم يكن تصل إليها الأدوية المفتحة .
وأما الرَّمدُ الحديثُ والمتقادمُ ، فإنها تُبرئ أكثَر أنواعه بُرءًا عجيبا سريعا ، وتنفع من الفالج ، واللَّقْوَة ، والتشنج الامتلائي ، وكثيرا من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة .
وقال لي بعض فضلاء الأطباء : إنَّ كثيرا من الأمراض نستبشر فيها بالحُمَّى ، كما يستبشر المريض بالعافية ، فتكون الحُمَّى فيه أنفَع من شرب الدواء بكثير ، فإنها تُنضج من الأخلاط والمواد الفاسدة ما يضُرُّ بالبدن ، فإذا أنضجتها صادفها الدواء متهيئةً للخروج بنضاجها ، فأخرجها ، فكانت سببا للشفاء .
وإذا عُرِفَ هذا ، فيجوز أن يكون مرادُ الحديثِ من أقسام الحُمَّيات العرضية ، فإنها تسكن على المكان بالانغماس في الماء البارد ، وسقي الماء البارد المثلوج ، ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر ، فإنها مجردُ كيفية حارة متعلقة بالرَّوح ، فيكفي في زوالها مجردُ وصول كيفية باردة تُسكنها ، وتُخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة ، أو انتظار نضج .
ويجوز أن يُراد به جميعُ أنواع الحُمَّيات ، وقد اعترف فاضل الأطباء جالنيوس : بأنَّ الماء البارد ينفع فيها ، قال في المقالة العاشرة من كتاب ( حيلة البرء ) : ولو أنَّ رجلا شابا حسنَ اللَّحم ، خصب البدن في وقت القَيْظ ، وفي وقت منتهى الحُمَّى ، وليس في أحشائه ورم ، استحمَّ بماءٍ بارد ، أو سبح فيه ، لانتفع بذلك . قال : ونحن نأمر بذلك بلا توقف .
وقال الرازيُّ في كتابه الكبير : إذا كانت القوة قوية ، والحُمَّى حادة جدا ، والنضجُ بَيِّنٌ ولا وَرَمَ في الجوف ، ولا فَتْقَ ، ينفع الماء البارد شربا ، وإن كان العليل خصب البدن والزمان حارٌ ، وكان معتادا لاستعمال الماء البارد من خارج ، فليؤذَنْ فيه .
[1/24] وقوله : " الحُمَّى مِن فَيْحِ جهنَم " ، هو شدة لهبها ، وانتشارُها ، ونظيرُه قوله : " شِدَّةُ الحرِّ مِن فَيْحِ جَهنمَ " ، وفيه وجهان .
أحدهما : أنَّ ذلك أَنموذَجٌ ورقيقةٌ اشتُقَتْ من جهنم ليستدلَّ بها العبادُ عليها ، ويعتبروا بها ، ثم إنَّ الله سبحانه قدَّر ظهورها بأسبابٍ تقتضيها ، كما أنَّ الروحَ والفرح والسرور واللَّذة من نعيم الجنَّة أظهرها الله في هذه الدار عِبرةً ودلالةً ، وقدَّر ظهورَها بأسباب توجبها .
والثاني : أن يكون المراد التشبيه ، فشَبَّه شدة الحُمَّى ولهبها بفَيْح جهنم ، وشبَّه شدة الحر به أيضا تنبيها للنفوس على شدة عذاب النار ، وأنَّ هذه الحرارة العظيمة مشبهةٌ بفَيْحها ، وهو ما يصيب مَن قَرُب منها من حَرِّها .
وقوله : ( فَأَبْرِدُوُها ) ، رُوي بوجهين :
بقطع الهمزة وفتحها ، رُباعيّ : من ( أبْرَدَ الشيءَ ) : إذا صَيَّرَه باردا ، مثل ( أَسْخَنَه ) : إذا صيَّره سخنا .
والثاني : بهمزة الوصل مضمومةً من ( بَرَدَ الشيءَ يَبْرُدُه ) ، وهو أفصحُ لغةً واستعمالا ، والرباعي لغةٌ رديئة عندهم ، قال :
إذا وَجدْتُ لَهِيبَ الْحُبِّ في كَبِدِي
أقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ القَــــوْمِ أَبْتَرِدُ
هَبْنِي بَرَدْتُ بِبَرْدِ الْمَـاءِ ظَاهِرَهُ
فَمَنْ لِنَارٍ عَلَى الأحْشَــــاءِ تَتَّقِدُ ؟

وقوله : ( بالماء ) فيه قولان :
أحدهما : أنه كل ماء ، وهو الصحيح .
والثاني : أنه ماء زمزمَ ، واحتج أصحابُ هذا القول بما رواه البخاريُّ في ( صحيحه ) ، عن أبي جَمْرَةَ نَصْرِ بن عمرانَ الضُّبَعيِّ قال : كُنْتُ أُجَالِسُ ابن عباسٍ بمكةَ ، فأخَذَتْني الْحُمَّى فقال : أبردها عنك بماءِ زمزمَ ، فإنَّ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الحُمَّى من فَيْحِ جَهَنَّم ، فأبْردوها بالماء ، أو قال : بماءِ زَمْزَمَ " . وراوي هذا قد شك فيه ، ولو جَزَم به لكان أمرا لأهل مكةَ بماء زمزمَ ، إذ هو متيسر عندهم ، ولغيرهم بما عندهم من الماء .
ثم اختلفَ مَن قال : إنه على عمومه ، هل المراد به الصدقة بالماء ، أو استعماله ؟ على قولين . والصحيح أنه استعمال ، وأظن أنَّ الذي حمل مَن قال : المرادُ الصدقةُ به أنه أشكلَ عليه استعمالُ الماء البارد في الحُمَّى ولم يَفهمْ وجهه مع أنَّ لقوله وجها [1/25] حسنا ، وهو أنَّ الجزاءَ مِن جنس العمل ، فكما أُخْمِد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد ، أخمَدَ اللهُ لهيبَ الحُمَّى عنه جزاءً وِفاقا ، ولكن هذا يُؤخذ مِن فِقْه الحديث وإشارته ، وأما المراد به فاستعماله .
وقد ذكر أبو نعيم وغيره من حديث أنَسٍ يَرفعه : " إذَا حُمَّ أَحَدُكُم ، فَلْيُرَشَّ عليهِ الماءَ البارِدَ ثلاثَ ليالٍ مِنَ السَّحَرِ " .
وفي ( سنن ابن ماجَه ) عن أبي هُريرةَ يرفعه : " الْحُمَّى كِيرٌ مِن كِيرِ جَهَنَّمَ ، فَنَحُّوهَا عَنْكُمْ بالماءِ البَاردِ " .
وفي ( المسند ) وغيره ، من حديث الحسن ، عن سَمُرَةَ يرفعُه : " الْحُمَّى قطعةٌ من النَّارِ ، فَأبْرِدُوهَا عَنْكُم بالماءِ البارِد " ، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حُمَّ دَعَا بِقِرْبَة من ماءٍ ، فَأَفْرَغَهَا عَلَى رَأْسِه فَاغْتَسَلَ .
وفي ( السنن ) : من حديث أبي هريرةَ قال : ذُكِرَت الْحُمَّى عِنْدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَسَبَّهَا رجلٌ ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : " لاَ تَسُبَّهَا فإنها تَنْفِي الذُّنُوبَ ، كما تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ " .
لما كانت الحُمَّى يتبعها حِمية عن الأغذية الرديئة ، وتناول الأغذيةِ والأدويةِ النافعة ، وفي ذلك إعانةٌ على تنقية البدن ، ونَفْي أخباثِه وفضوله ، وتصفيته من مواده الرديئة ، وتفعل فيه كما تفعل النارُ في الحديد في نَفْي خَبثه ، وتصفيةِ جوهره ، كانت أشبهَ الأشياء بنار الكير التي تُصَفِّي جوهر الحديد ، وهذا القدرُ هو المعلوم عند أطباء الأبدان .
وأما تصفيتها القلبَ من وسخه ودَرَنه ، وإخراجها خبائثَه ، فأمرٌ يعلمه أطباءُ القلوب ، ويجدونه كما أخبرهم به نبيُّهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن مرض القلب إذا صار ميُئوسا من برئه ، لم ينفع فيه هذا العلاج .
[1/26] فالحُمَّى تنفع البدنَ والقلبَ ، وما كان بهذه المَثابة فسَبُّه ظلم وعدوان .
وذكرتُ مرة وأنا محمومٌ قولَ بعض الشعراء يسبُّها :
زَارَتْ مُكَفِّرَةُ الذُّنُوبِ وَوَدَّعَتْ
تبّا لها مِنْ زَائِــــرٍ وَمُــوَدِّعِ
قَالَتْ وقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِها
مَـاذَا تريدُ ؟ فقُلتُ : أن لا تَرْجِعِي

فقلتُ : تبّا له إذ سَبَّ ما نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن سَـبِّه . ولو قال :
زَارَتْ مُكَفِّرَةُ الذُّنُـوبِ لِصَبِّها
أَهْلا بها مِنْ زَائِرٍ وَمُـــوَدِّعِ
قَالَتْ وقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِها
ماذا تريدُ ؟ فقلتُ : أن لا تُقْلِعي
لكان أولى به ، ولأقلعت عنه . فأقلعت عَنِّي سريعا .
وقد روي في أثر لا أعرف حاله : ( حُمَّى يَوْمٍ كَفَّارَةُ سَـنَةٍ ) ، وفيه قولان :
أحدهما : أنَّ الحُمَّى تدخل في كل الأعضاء والمفاصِل ، وعدتُها ثلاثمائة وستون مَفْصِلا ، فتكفِّرُ عنه بعدد كل مفصل ذنوبَ يوم .
والثاني : أنها تؤثر في البدن تأثيرا لا يزول بالكلية إلى سنة ، كما قيل في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ لمْ تُقْبَلْ لهُ صَلاةٌ أَربعينَ يوْما " ، إنَّ أثر الخمر يَبقى في جوف العبد ، وعروقه ، وأعضائه أربعين يوما . والله أعلم .
قال أبو هريرةَ : مَا منْ مَرَضٍ يُصيبني أَحَبُّ إليَّ من الحُمَّى ، لأنها تدخل في كلِّ عضوٍ منِّي ، وإنَّ الله سبحَانهُ يُعْطي كلَّ عضوٍ حظَّه مِن الأجرِ .
وقد روى الترمذيُّ في جامعه من حديث رافِع بن خَدِيجٍ يرفعُه : " إذا أَصَابَتْ أَحَدَكُمْ الحُمَّى - وَإنَّ الحُمَّى قِطْعةٌ مِنَ النَّارِ - فَلْيُطفئهَا بالمَاءِ البَارِدِ ، ويَسْتَقبِلْ نَهْرا جاريا ، فَلْيستقبلْ جَرْيَةَ المَاءِ بعدَ الفَجْرِ وقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وليقلْ : بِسْمِ اللهِ ، اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ ، وصَدِّقْ رَسُولَك . وينغمِسُ فيهِ ثلاثَ غَمَسَاتٍ ثلاثةَ أيامٍ ، فإنْ بَرِئ ، وإلا ففِي خمسٍ ، فإن لمْ يبرَأْ في خمس ، فسبع ، فإن لم يبرأ في سبع فتسع ، فإنها لا تكادُ تُجاوز تسعا بإذنِ اللهِ " .
[1/27] قلت : وهو ينفع فعله في فصل الصيف في البلاد الحارة على الشرائط التي تقدَّمت ، فإنَّ الماء في ذلك الوقت أبردُ ما يكون لبُعْدِه عن ملاقاة الشمس ، ووفور القُوَى في ذلك الوقت لما أفادها النوم ، والسكون ، وبرد الهواء ، فتجتمع فيه قوةُ القُوَى ، وقوةُ الدواء ، وهو الماء البارد على حرارة الحُمَّى العَرَضية ، أو الغِبّ الخالصة ، أعني التي لا ورم معها ، ولا شيء من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة ، فيُطفئها بإذن الله ، لا سيما في أحد الأيام المذكورة في الحديث ، وهي الأيام التي يقع فيها بُحرَان الأمراض الحادة كثيرا ، سيما في البلاد المذكورة ، لرِّقةِ أخلاط سكانها ، وسُرعة انفعالهم عن الدواء النافع .