[1/31] فصل
في هديه - صلى الله عليه وسلم - في الطَّاعون ، وعلاجه ، والاحتراز منه
في ( الصحيحين ) عن عامر بن سعد بن أبي وَقَّاصٍ ، عن أبيه ، أنه سمعه يَسأَلُ أُسَامَةَ بن زيدٍ : ماذا سمِعْتَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطاعون ؟ فقال أُسامةُ : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الطاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى طائفةٍ من بني إسرائيلَ ، وعَلَى مَن كان قَبْلَكم ، فإذا سَمِعْتُم به بأرضٍ ، فَلا تَدْخُلوا عليها ، وإذا وَقَعَ بأرضٍ وأنْتُم بها ، فلا تَخُرُجوا منها فِرَارا مِنْهُ " .
وفي ( الصحيحين ) أيضا : عن حَفْصَةَ بنت سِيرِينَ ، قالت : قال أنسُ بن مالكٍ : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الطَّاعُونُ شهادةٌ لكلِّ مُسْلِم " .
الطاعون من حيث اللُّغة : نوعٌ من الوباء ، قاله صاحب الصحاح ، وهو عند أهل الطب : ورمٌ رديء قتَّال يخرج معه تلهُّب شديد مؤلم جدا يتجاوز المقدار في ذلك ، ويصير ما حوله في الأكثر أسود أو أخضر ، أو أكمد ، ويؤول أمره إلى التقرح سريعا . وفي الأكثر ، يحدث في ثلاثة مواضع : في الإِبْط ، وخلف الأُذن ، والأرنبة ، وفي اللحوم الرخوة .
وفي أثر عن عائشة : أنها قالت للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : الطعن قد عرفناه ، فما الطاعون ؟ قال : " غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَعيرِ يَخْرُجُ في المَرَاقِّ والإِبْط " .
إذا وقع الخُرَّاجُ في اللحوم الرخوة ، والمغابن ، وخلف الأُذن والأرنبة ، وكان من جنس فاسد ، سُمِّي طاعونا ، وسببُه دم رديء مائل إلى العُفونة والفساد ، مستحيل إلى جوهر سُمِّيٍّ ، يفسِدُ العضوَ ويُغيِّر ما يليه ، وربما رَشَح دَما وصديدا ، ويؤدِّي إلى القلب كيفية رديئة ، فيحدث القيء والخفقان والغَشي ، وهذا الاسم وإن كان يَعُمُّ كُلَّ ورم يؤدي إلى القلب كيفية رديئة حتى يصيرَ لذلك قتَّالا ، فإنه [1/32] يختصُّ به الحادث في اللَّحم الغُددي ، لأنه لرداءته لا يقبلُه من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع ، وأردؤُه ما حدث في الإبط وخلفَ الأُذن لقربهما من الأعضاء التي هي الرأس ، وأسلمه الأحمر ، ثم الأصفر . والذي إلى السواد ، فلا يفلت منه أحدٌ .
ولما كان الطاعون يكثر في الوباء ، وفي البلاد الوبيئة ، عُبِّر عنه بالوباء ، كما قال الخليل : الوباء : الطاعون . وقيل : هو كل مرض يعم .
والتحقيقُ أنَّ بين الوباء والطاعون عموما وخصوصا ، فكلُّ طاعونٍ وباءٌ ، وليس كلُّ وباءٍ طاعونا ، وكذلك الأمراضُ العامة أعمُّ من الطاعون ، فإنه واحد منها ، والطواعينُ خرَّاجات وقروح وأورام رديئة حادثة في المواضع المتقدم ذكرها .
قلت : هذه القروح ، والأورام ، والجراحات ، هي آثار الطاعون ، وليست نفسَه ، ولكن الأطباء لما لم تُدرك منه إلا الأثر الظاهر ، جعلوه نفسَ الطاعون .
والطاعون يُعَبَّر به عن ثلاثة أُمور :
أحدها : هذا الأثر الظاهر ، وهو الذي ذكره الأطباء .
والثاني : الموت الحادث عنه ، وهو المراد بالحديث الصحيح في قوله : " الطاعونُ شَهادةٌ لكلِّ مُسلمٌ " .
والثالث : السبب الفاعل لهذا الداء ، وقد ورد في الحديث الصحيح : " أَنهُ بقيةُ رِجز أُرسِلَ عَلى بَنِي إسرائيلَ " ، وورد فيه : " أنهُ وَخْزُ الجنِّ " ، وجاء : " أنهُ دَعوةُ نبيّ " .
وهذه العلل والأسباب ليس عند الأطباء ما يدفعها ، كما ليس عندهم ما يدل عليها ، والرُّسُلُ تُخبر بالأمور الغائبة ، وهذه الآثار التي أدركوها من أمر الطاعون ليس معهم ما ينفي أن تكون بتوسط الأرواح ، فإن تأثيرَ الأرواح في الطبيعة وأمراضها وهلاكها أمر لا ينكره إلا مَنْ هو أجهلُ الناس بالأرواح وتأثيراتِها ، وانفعالِ الأجسام وطبائعها عنها ، واللهُ سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح تصرفا في أجسام بني آدمَ عند [1/33] حدوث الوباء ، وفسادِ الهواء ، كما يجعل لها تصرفا عند بعضِ المواد الرديئة التي تُحدث للنفوس هيئة رديئة ، ولا سيما عند هيجان الدم ، والمِرَّةِ السوداء ، وعند هَيجان المنَيّ ، فإنَّ الأرواح الشيطانية تتمكن مِن فعلها بصاحب هذه العوارض ما لا تتمكَّن من غيره ، ما لم يدفعها دافع أقوى من هذه الأسباب من الذِّكر ، والدعاء ، والابتهال والتضرع ، والصَّدَقة ، وقراءة القرآن ، فإنه يستنزل بذلك من الأرواح المَلَكية ما يقهُر هذه الأرواح الخبيثَة ، ويُبطل شرَّها . وقد جرَّبنا نحنُ وغيرُنا هذا مرارا لا يُحصيها إلا الله ، ورأينا لاستنزالِ هذه الأرواح الطيبة واستجلابِ قُربها تأثيرا عظيما في تقوية الطبيعة ، ودفع المواد الرديئة ، وهذا يكون قبل استحكامها وتمكنها ، ولا يكاد ينخرم ، فمَن وفَّقه الله ، بادر عند إحساسه بأسباب الشر إلى هذه الأسباب التي تدفعها عنه ، وهي له أنفع الدواء ، وإذا أراد الله - عز وجل - إنفاذَ قضائه وقَدَره ، أغفل قلبَ العبد عن معرفتها وتصوُّرِها وإرادتها ، فلا يشعر بها ، ولا يُريدها ، ليقضي الله فيه أمرا كان مفعولا .
وسنزيد هذا المعنى إن شاء الله تعالى إيضاحا وبيانا عند الكلام على التداوي بالرُّقَى ، والعُوَذ النبوية ، والأذكار ، والدعوات ، وفعل الخيرات ، ونُبيّن أن نِسبة طب الأطباء إلى هذا الطب النبوي ، كنسبة طب الطرقية والعجائن إلى طبهم ، كما اعترف به حُذَّاقهم وأئمتهم ، ونبين أن الطبيعة الإنسانية أشد شيء انفعالا عن الأرواح ، وأن قُوَى العُوَذ ، والرُّقَى ، والدعوات ، فوق قُوَى الأدوية ، حتى إنها تُبطل قُوَى السموم القاتلة .
والمقصود : أنَّ فساد الهواء جزء من أجزاء السبب التام ، والعِلَّة الفاعلة للطاعون ، فإن فساد جوهر الهواء الموجِبُ لحدوث الوباء وفساده ، يكون لاستحالة جوهره إلى الرداءة ، لغلبة إحدى الكيفيات الرديئة عليه ، كالعفونة ، والنَّتَن ، والسُّمِّيّة في أي وقت كان من أوقات السنة ، وإن كان أكثر حدوثه في أواخر الصيف ، وفي الخريف غالبا لكثرة اجتماع الفضلات المرارية الحادة وغيرها في فصل الصيف ، وعدم تحللها في آخره ، وفي الخريف لبرد الجو ، ورَدْغَة الأبخرة والفضلات التي كانت تتحلل في زمن الصيف ، فتنحصر ، فتسخن ، وتعفن ، فتحدث الأمراض العفنة ، ولا سيما إذا صادفت البدن مستعدا ، قابلا ، رهِلا ، قليل الحركة ، كثيرَ المواد ، فهذا لا يكاد يُفْلِت مِن العطب .
[1/34] وأصحُّ الفصول فيه فصل الربيع ؛ قال بقراط : إن في الخريف أشد ما تكون من الأمراض ، وأقتل ، وأما الربيعُ ، فأصحُّ الأوقات كلها وأقلُّها موتا ، وقد جرت عادةُ الصيادلة ، ومجهزي الموتى أنهم يستدينونَ ، ويتسلفون في الربيع والصيف على فصل الخريف ، فهو ربيعُهم ، وهم أشوقُ شيء إليه ، وأفرحُ بقدومه .
وقد روي في حديث : " إذا طَلعَ النَّجْمُ ارْتَفَعَت الْعَاهَةُ عن كلِّ بَلَدٍ " . وفُسِّر بطلوع الثُّريا ، وفُسِّر بطلوع النبات زمن الربيع : وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ فإنَّ كمال طلوعه وتمامَه يكون في فصل الربيع ، وهو الفصل الذي ترتفع فيه الآفات .
وأما الثُّريا ، فالأمراض تكثر وقت طلوعها مع الفجر وسقوطها .
قال التَّمِيميُّ في كتاب ( مادة البقاء ) : أشدُّ أوقات السنة فسادا ، وأعظُمها بلية على الأجساد وقتان ، أحدهما : وقتُ سقوط الثُّريا للمغيب عند طلوع الفجر .
الثاني : وقت طلوعها من المشرِق قبل طلوع الشمس على العالَم ، بمنزلة من منازل القمر ، وهو وقت تصرُّمِ فصل الربيع وانقضائه ، غير أن الفسادَ الكائن عند طلوعها أقلُّ ضررا من الفساد الكائن عند سقوطها .
وقال أبو محمد بن قتيبة : يقال : ما طلعت الثُّريا ولا نأتْ إلا بعَاهة في النَّاس والإِبْل ، وغروبُها أعْوَهُ من طلوعها .
وفي الحديث قولٌ ثالث ولعله أولى الأقوال به ، أنَّ المراد بالنَّجْم : الثُّريا ، وبالعاهة : الآفة التي تلحق الزروع والثمار في فصل الشتاء وصدر فصل الربيع ، فحصل الأمن عليها عند طلوع الثُّريا في الوقت المذكور ، ولذلك " نهى - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمرة وشرائها قبل أن يبدُوَ صلاحُها " . والمقصود : الكلام على هَدْيِه - صلى الله عليه وسلم - عند وقوع الطاعون .