[1/458] 57 - قَالُوا : حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ حُجَّةُ الْعَقْلِ
أَكْلُ الشَّيْطَانِ بِشِمَالِهِ
قَالُوا : رُوِّيتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلٍ : كُلْ بِيَمِينِكَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ ، قَالُوا : وَالشَّيْطَانُ رُوحَانِيٌّ كَالْمَلَائِكَةِ ، فَكَيْفَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَكَيْفَ تَكُونُ لَهُ يَدٌ يَتَنَاوَلُ بِهَا ؟
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَنَحْنُ نَقُولُ : إِنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَزَّ - لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا إِلَّا جَعَلَ لَهُ ضِدًّا ، كَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ ، وَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَالتَّمَامِ وَالنُّقْصَانِ ، وَالْيَمِينِ وَالشِّمَالِ ، وَالْعَدْلِ وَالظُّلْمِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْخَيْرِ وَالتَّمَامِ وَالْعَدْلِ وَالنُّورِ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ - جَلَّ وَعَزَّ - ؛ لِأَنَّهُ أَحَبَّهُ وَأَمَرَ بِهِ .
وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الشَّرِّ وَالنَّقْصِ وَالظَّلَامِ، فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الشَّيْطَانِ ؛ لِأَنَّهُ الدَّاعِي إِلَى ذَلِكَ وَالْمَسْؤُولُ لَهُ .
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْيَمِينِ الْكَمَالَ وَالتَّمَامَ ، وَجَعَلَهَا لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالسَّلَامِ وَالْبَطْشِ ، وَجَعَلَ فِي الشِّمَالِ الضَّعْفَ وَالنَّقْصَ ، وَجَعَلَهَا لِلِاسْتِنْجَاءِ وَالِاسْتِنْثَارِ وَإِمَاطَةِ الْأَقْذَارِ .
[1/459] وَجَعَلَ طَرِيقَ الْجَنَّةِ ذَاتَ الْيَمِينِ وَأَهْلَ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ الْيَمِينِ ، وَطَرِيقَ النَّارِ ذَاتَ الشِّمَالِ ، وَأَهْلَ النَّارِ أَصْحَابَ الشِّمَالِ ، وَجَعَلَ الْيُمْنَ مِنَ الْيَمِينِ وَالشُّؤْمَ مِنَ الْيَدِ الشُّؤْمَى وَهِيَ الشِّمَالُ ، وَقَالُوا : فُلَانٌ مَيْمُونٌ وَمَشْؤُُومٌ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ .
تَأْوِيلُ أَكْلِ الشَّيْطَانِ :
وَلَيْسَ يَخْلُو الشَّيْطَانُ فِي أَكْلِهِ بِشِمَالِهِ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَأْكُلُ عَلَى حَقِيقَةٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْأَكْلُ تَشَمُّمًا وَاسْتِرْوَاحًا لَا مَضْغًا وَبَلْعًا . فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ ، وَرُوِيَ أَنَّ طَعَامَهَا الرِّمَّةُ وَهِيَ: الْعِظَامُ ، وَشَرَابَهَا الْجَدَفُ وَهُوَ الرَّغْوَةُ وَالزَّبَدُ ، وَلَيْسَ يَنَالُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الرَّوَائِحَ فَتَقُومُ لَهَا مَقَامَ الْمَضْغِ وَالْبَلْعِ لِذَوِي الْجُثَثِ وَيَكُونُ اسْتِرْوَاحُهُ مِنْ جِهَةِ شِمَالِهِ ، وَتَكُونُ بِذَلِكَ مُشَارَكَتُهُ مَنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ ، أَوْ لَمْ يَغْسِلْ يَدَهُ أَوْ وَضَعَ طَعَامًا مَكْشُوفًا ، فَتَذْهَبُ بَرَكَةُ الطَّعَامِ وَخَيْرُهُ .
وَأَمَّا مُشَارَكَتُهُ فِي الْأَمْوَالِ فَبِالْإِنْفَاقِ فِي الْحَرَامِ وَفِي الْأَوْلَادِ فَبِالزِّنَا ، أَوْ يَكُونُ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ عَلَى الْمَجَازِ يُرَادُ أَنَّ أَكْلَ الْإِنْسَانِ بِشَمَالِهِ إِرَادَةُ الشَّيْطَانِ لَهُ وَتَسْوِيلُهُ ، فَيُقَالُ لِمَنْ أَكَلَ بِشِمَالِهِ : هُوَ يَأْكُلُ أَكْلَ الشَّيْطَانِ ، لَا يُرَادُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْأَكْلَ الَّذِي يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ ، كَمَا قِيلَ فِي الْحُمْرَةِ إِنَّهَا زِينَةُ الشَّيْطَانِ ، لَا يُرَادُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَلْبَسُ الْحُمْرَةَ وَيَتَزَيَّنُ بِهَا ، وَإِنَّمَا يُرَادُ أَنَّهَا الزِّينَةُ الَّتِي يُخَيِّلُ بِهَا الشَّيْطَانُ .
[1/460] عِمَّةُ الشَّيْطَانِ وَرَكَضَتُهُ :
وَكَذَلِكَ رُوِيَ فِي الِاقْتِعَاطِ وَهُوَ أَنْ يَلْبَسَ الْعِمَامَةَ ، وَلَا يَتَلَحَّى بِهَا أَنَّهَا عِمَّةُ الشَّيْطَانِ لَا يُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَعْتَمُ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ أَنَّهَا الْعِمَّةُ الَّتِي يُحِبُّهَا الشَّيْطَانُ وَيَدْعُو إِلَيْهَا .
وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي قَوْلِهِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ : إِنَّهَا رَكْضَةُ الشَّيْطَانِ ، وَالرَّكْضَةُ الدَّفْعَةُ ، إِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ يَدْفَعُ ذَلِكَ الْعِرْقَ فَيَسِيلُ مِنْهُ دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ لِيُفْسِدَ عَلَى الْمَرْأَةِ صَلَاتَهَا بِنَقْضِ طُهُورِهَا ، وَلَيْسَ بِعَجِيبٍ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِخْرَاجِ ذَلِكَ الدَّمَ بِدَفْعَتِهِ مَنْ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ .
أَوْ تَكُونُ تِلْكَ الدَّفْعَةُ مِنَ الطَّبِيعَةِ فَنُسِبَتْ إِلَى الشَّيْطَانِ ؛ لِأَنَّهَا مِنَ [1/461] الْأُمُورِ الَّتِي تُفْسِدُ الصَّلَاةَ كَمَا نُسِبَ إِلَيْهِ الْأَكْلُ بِالشِّمَالِ ، وَالْعِمَّةُ عَلَى الرَّأْسِ دُونَ التَّلَحِّي ، وَالْحُمْرَةُ .
الْحُمْرَةُ مِنْ زِينَةِ الشَّيْطَانِ :
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ يَحْيَى قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْحُمْرَةُ مِنْ زِينَةِ الشَّيْطَانِ ، وَالشَّيْطَانُ يُحِبُّ الْحُمْرَةَ ، وَلِهَذَا كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُعَصْفَرَ لِلرِّجَالِ ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ : إِنِّي لِأَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ زِينَةُ الشَّيْطَانِ وَأَتَخَتَّمُ الْحَدِيدَ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ .
وَجَعَلَ الْحَدِيدَ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ وَأَهْلُ النَّارِ لَا يَتَحَلَّوْنَ بِالْحُلِيِّ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ لَهُمْ مَكَانَ الْحِلْيَةِ السَّلَاسِلَ وَالْأَغْلَالَ وَالْقُيُودَ فَالْحَدِيدُ حِلْيَتُهُمْ ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَفْعَلُ ذَلِكَ يُرِيدُ بِهِ إِخْفَاءَ نَفْسِهِ وَسَتْرَ عَمَلِهِ .