فصل
في هَدْيه - صلى الله عليه وسلم - في الجِماع
وأما الجِماعُ والباهُ ، فكان هَدْيُه فيه أكملَ هَدْي ، يحفَظ به الصحة ، وتتمُّ به اللَّذةُ وسرور النفس ، ويحصل به مقاصدُه التي وُضع لأجلها ، فإن الجِمَاع وُضِعَ في الأصل لثلاثة أُمور هي مقاصدُه الأصلية :
[1/183] أحدها : حفظُ النسل ، ودوامُ النوع إلى أن تتكاملَ العدة التي قدَّر الله بروزَها إلى هذا العالَم .
الثاني : إخراجُ الماء الذي يضر احتباسُه واحتقانُه بجملة البدن .
الثالث : قضاءُ الوَطر ، ونيلُ اللَّذة ، والتمتعُ بالنعمة ، وهذه وحدَها هي الفائدةُ التي في الجنَّة ، إذ لا تناسُلَ هناك ، ولا احتقانَ يستفرِغُه الإنزالُ .
وفضـلاءُ الأطباء : يرون أنَّ الجِمَاع من أحد أسـباب حفظ الصحة . قال ( جالينوسُ ) : الغالبُ على جوهر المَنِي النَّارُ والهواءُ ، ومِزاجُه حار رطب ، لأنه كونه من الدم الصافي الذي تغتذي به الأعضاءُ الأصلية ، وإذا ثبت فضلُ المَنِي ، فاعلم أنه لا ينبغي إخراجُه إلا في طلب النسل ، أو إخراجُ المحتقن منه ، فإنه إذا دام احتقانُه ، أحدث أمراضا رديئة ، منها : الوسواسُ والجنون ، والصَّرْع ، وغيرُ ذلك ، وقد يُبرئ استعمالُه من هذه الأمراض كثيرا ، فإنه إذا طال احتباسُه ، فسد واستحال إلى كيفية سُمِّية تُوجب أمراضا رديئة كما ذكرنا ، ولذلك تدفعُه الطبيعةُ بالاحتلام إذا كثر عندها من غير جِمَاع .
وقال بعض السَّلَف : ينبغي للرجل أن يتعاهد من نفسه ثلاثا : أن لا يدعَ المشي ، فإن احتاج إليه يوما قدَر عليه ، وينبغي أن لا يدَع الأكل ، فإن أمعاءه تضيق ، وينبغي أن لا يدَع الجِمَاعَ ، فإن البئر إذا لم تُنزحْ ، ذهب ماؤها .
وقال محمد بن زكريا : مَن ترك الجِمَاعَ مدةً طويلة ، ضعفتْ قُوى أعصابه ، وانسدَّت مجاريها ، وتقلَّص ذكره . قال : ورأيتُ جماعة تركوه لنوع من التقشف ، فبرُدَتْ أبدانُهُم ، وعَسُرَتْ حركاتُهُم ، ووقعتْ عليهم كآبةٌ بلا سبب ، وقَلَّتْ شهواتُهُم وهضمُهُم ، انتهى .
ومن منافعه : غضُّ البصر ، وكفُّ النفس ، والقدرةُ على العِفَّة عن الحرام ، وتحصيلُ ذلك للمرأة ، فهو ينفع نفسه في دنياه وأُخراه ، وينفع المرأة ، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يتعاهدُه ويُحبُه ، ويقول : " حُبِّبَ إلي مِن دُنْيَاكُمُ : النِّسَاءُ والطِّيبُ " .
[1/184] وفي كتاب ( الزهد ) للإمام أحمد في هذا الحديث زيادةٌ لطيفة ، وهي : أصبرُ عن الطعام والشراب ، ولا أصبرُ عنهنَّ .
وحثَّ على التزويج أُمَّته ، فقال : " تَزَوَّجوا ، فإني مُكاثرٌ بِكُمُ الأُمَمَ " .
وقال ابن عباس : خيرُ هذه الأُمة أكثرُها نِساءً .
وقال : " إني أتزوَّجُ النساءَ ، وأنامُ وأقومُ ، وأَصُومُ وأُفطِرُ ، فمن رَغِبَ عن سُـنَّتي فليس منّي " .
وقال : " يا معشرَ الشبابِ ؛ مَن استطاعَ منكم الباءَةَ فلْيَتَزَوَّجْ ، فإنه أغضُّ للبصرِ ، وأحْفَظُ للْفِرْج ، ومَن لم يستطعْ ، فعليه بالصومِ ، فإنه له وِجاءٌ " .
ولما تزوج جابر ثيِّبا قال له : " هَلا بِكْرا تُلاعِبُها وتُلاعِبُكَ " .
وروى ابن ماجه في ( سننه ) من حديث أنس بن مالك قال ، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : " مَن أراد أنْ يَلْقَى اللهَ طاهرا مُطَهَّرا ، فَلْيَتَزَوَّج الحَرَائِرَ " .
وفي ( سننه ) أيضا من حديث ابن عباس يرفعه ، قال : " لم نَرَ للمُتَحابَّيْن مِثْلَ النِّكاحِ " .
وفي ( صحيح مسلم ) من حديث عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الدُّنيا مَتَاعٌ ، وخَيْرُ متاع الدُّنْيا المرأةُ الصَّالِحَةُ " .
[1/185] وكان - صلى الله عليه وسلم - يُحرِّض أُمته على نكاح الأبكار الحسان ، وذواتِ الدين ، وفي ( سنن النسائي ) عن أبي هريرةَ قال : " سُئل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : أي النساءِ خير ؟ قال : التي تَسُرُّهُ إذا نَظَرَ ، وتُطِيعُهُ إذا أَمَرَ ، ولا تُخَالِفُه فيما يَكرَهُ في نفسِها ومالِهِ " .
وفي ( الصحيحين ) عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " تُنكَحُ المرأةُ لمالِها ، ولِحَسَبِها ، ولِجَمَالِها ، ولِدِينِهَا ، فاظْفَرْ بذاتِ الدِّين ، تَرِبَتْ يَدَاكَ " .
وكان يَحثُّ على نكاح الوَلُود ، وَيَكرهُ المرأة التي لا تلد ، كما في ( سنن أبي داودَ ) عن مَعْقِل بن يَسار ، أنَّ رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني أصَبتُ امرأةً ذاتَ حَسَبٍ وجمالٍ ، وإنَّها لا تَلِدُ ، أَفَأَتَزَوَّجُها ؟ قال : لا ، ثم أتاه الثانيةَ ، فَنَهَاه ، ثم أتاه الثالثةَ ، فقال : " تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ ، فإني مُكَاثِرٌ بِكُمْ " .
وفي ( الترمذي ) عنه مرفوعا : " أَرْبَعٌ من سُنن المُرْسَلِينَ : النِّكاحُ ، والسِّواكُ ، والتَّعَطُّرُ والحِنَّاءُ " . رُوي في ( الجامع ) بالنون والياء ، وسمعتُ أبا الحجَّاج الحافظَ يقول : الصواب : أنه الخِتَان ، وسقطت النونُ من الحاشية ، وكذلك رواه المَحَامِلي عن شيخ أبي عيسى الترمذي .
وممَّا ينبغي تقديُمُه على الجِماع ملاعبةُ المرأة ، وتقبيلُها ، ومصُّ لِسانها ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُلاعبُ أهله ، ويُقَبلُها .
وروى أبو داود في ( سننه ) : " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُقبِّلُ عائشةَ ، ويمصُّ لِسَانَها " .
ويُذكر عن جابر بن عبد الله قال : " نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن المُواقعةِ قبلَ المُلاعَبَةِ " .
وكان - صلى الله عليه وسلم - ربما جامع نساءَه كُلَّهن بغُسل واحد ، وربما اغتَسَلَ عند كل واحدة منهن ، فروى مسلم في ( صحيحه ) عن أنس : " أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَطوفُ على نسائه بغُسْلٍ واحد " .
[1/186] وروى أبو داود في ( سننه ) عن أبي رافع مولَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - طاف على نسائه في ليلة ، فاغتَسَلَ عند كلِّ امرأةٍ منهنَّ غُسلا ، فقلتُ : يا رسول الله ، لو اغتسلتَ غُسلا واحدا ، فقال : " هذا أزكى وأطْهَرُ وأطْيَبُ " .
وشُرع للمُجامِع إذا أراد العَودَ قبل الغُسل الوضوء بين الجِمَاعَيْن ، كما روى مسلم في ( صحيحه ) من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أتى أحدُكُم أَهْلَهُ ، ثم أرادَ أن يعودَ فلْيَتَوَضأ " .
وفي الغُسْلِ والوضوء بعد الوطء من النشاطِ ، وطيبِ النفس ، وإخلافِ بعض ما تحلَّل بالجِماع ، وكمالِ الطُهْر والنظافة ، واجتماع الحار الغريزي إلى داخل البدن بعد انتشاره بالجِماع ، وحصولِ النظافة التي يُحبها الله ، ويُبغض خلافها ، ما هو مِن أحسن التدبير في الجِماع ، وحفظ الصحة والقُوَى فيه .