حدثنا محمد بن الحسن بن سماعة الحضرمي: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا بشير يعني ابن المهاجر الغنوي، حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال : خرج النبي- صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فنادى ثلاث مرات: أيها الناس إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا أن يأتيهم، فبعثوا رجلا يتربا لهم، فبينما هو كذلك إذ أبصر العدو فأقبل لينذر قومه، فخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه فأهوى بثوبه، أيها الناس أتيتم ثلاث مرات .
قال أبو محمد: يتربا لهم، هو أن يعلو شاهقا فيرقب العدو وينذر به، واسمه الربيئة على مثال فعيلة مهموز، [1/17] وهو الذي يقال له: الديدبان. قال عبيد الله بن ثعلبة اليشكري ( من الكامل ) :
أما النهار فرابي
قومي بمرقبة يفاع
والليل أبطن ذا خضا
خض والوعور من البقاع
ترد السباع معي فألـ
غى كالمدل من السباع
ومنه قولهم: إني لأربأ بك عن كذا، أي أرفعك عنه، وتقول: ما رأيته حتى أربأ علي، أي أشرف علي.
وهذا مثل في السبق إلى اتباع النبي- صلى الله عليه وسلم - والفوز بتصديقه قبل فقده، وأنه آخر من أنذر ولا نبي بعده ينتظر، ويتضمن معنى دنو الساعة وقربها كما قال : " بعثت والساعة كهاتين، وأشار بإصبعيه " وقال الله عز وجل: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى أَزِفَتِ الْآزِفَةُ يعني دنت القيامة، وهذا على المبالغة في تقريب الكائن الذي هو لا محالة واقع، كما قال أبو بكر- رضي الله عنه - ( من الرجز ) :
كل امرئ مصبح في أهله
والموت أدنى من شراك نعله
أرد بدنو الموت وقوعه لا محالة، وقال كعب الغنوي ( من الطويل ) :
[1/18]
لعمركما إن البعيد الذي مضى
وإن الذي يأتي غدا لقريب
فسمى ما قدر كونه وينتظر وقوعه وإن بعد وقته باسم غد، وهو ثاني يومك؛ لأن مرور الأوقات يدنيه، وفي التنزيل: سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (54/2) وهذا وشبهه متصرف في أكثر كلام العرب، ولهذا أخرجوا المستقبل من الأفعال التي وقع الوعد به مخرج الماضي الذي قد تصرم وقته، كما قال الله عز وجل : وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ، وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ .
وسمعت إبراهيم بن محمد بن عرفة يقول في قوله عز وجل: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ إن معناه: أتى أمر الله وعدا فلا تستعجلوه وقوعا.
ومن كلام العرب إذا بالغوا في شدة السعي وسرعة الحركة: جاءنا زيد أسرع من الريح، وأسرع من البرق، ورأينا فلانا يطير، ومعلوم أن الإنسان لا يباري الريح والبرق، ولا يقدر على الطيران، وإنما يراد به الخفة وسرعة الحركة، ويقال في أمثالهم: جاء فلان قبل عير وما جرى، يريدون السرعة. أي قبل لحظة العين، والعير بالراء إنسان العين، وفسر بيت الحارث بن حلزة ( من الخفيف ) :
[1/19]
زعموا أن كل من ضرب العير
موال لنا وأنا الولاء

أي: كل من ضرب بجفن على عير، قال : والعير إنسان العين، وهذا تفسير بعض الرواة من القدماء، وهو غريب، فهذه لغات العرب وإنما خاطبهم النبي- صلى الله عليه وسلم - بلغته ولغتهم، فمن جهل لغات المخاطبين فقد خرج عن جملة النظارين.