[1/35] فصل
في بحث عن النهي عن الخروج من موضع الطاعون أو الدخول فيه
وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - للأُمة في نهيه عن الدخول إلى الأرض التي هو بها ، ونهيهِ عن الخروج منها بعد وقوعه كمالَ التحرز منه ، فإنَّ في الدخول في الأرض التي هو بها تعرضا للبلاء ، وموافاةً له في محل سلطانه ، وإعانةً للإنسان على نفسه ، وهذا مخالف للشرع والعقل ، بل تجنُّبُ الدخول إلى أرضه من باب الحِمية التي أرشد الله سبحانه إليها ، وهي حِمية عن الأمكنة ، والأهوية المؤذية .
وأما نهيه عن الخروج من بلده ، ففيه معنيان :
أحدهما : حمل النفوس على الثقة بالله ، والتوكل عليه ، والصبرِ على أقضيته ، والرِّضَى بها .
والثاني : ما قاله أئمة الطب : أنه يجب على كل محترز من الوباء أن يُخْرِجَ عن بدنه الرطوبات الفضلية ، ويُقلِّل الغذاء ، ويميل إلى التدبير المجفف مِن كل وجه إلا الرياضةَ والحمَّام ، فإنهما مما يجب أن يُحذرا ، لأن البدن لا يخلو غالبا مِن فضل رديء كامن فيه ، فتثيرُه الرياضة والحمَّام ، ويخلطانه بالكيموس الجيد . وذلك يجلب عِلَّة عظيمة ، بل يجب عند وقوع الطاعون السكون والدَّعة ، وتسكين هيجان الأخلاط ، ولا يمكن الخروجُ من أرض الوباء والسفر منها إلا بحركة شديدة ، وهي مضرة جدا ، هذا كلام أفضل الأطباء المتأخرين ، فظهر المعنى الطبي من الحديث النبوي ، وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحِهما .
فإن قيل : ففي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تخرجوا فِرارا مِنهُ " ، ما يُبطل أن يكون أراد هذا المعنى الذي ذكرتموه ، وأنه لا يمنع الخروجَ لعارض ، ولا يحبس مسافرا عن سفره ؟
قيل : لم يقل أحدٌ - طبيبٌ ولا غيره - إنَّ الناس يتركون حركاتِهم عند الطواعين ، ويصيرون بمنزلة الجماداتِ ، وإنما ينبغي فيه التقلُّل من الحركة بحسب الإمكان ، والفارُّ منه لا موجب لحركته إلا مجرد الفِرار منه ، ودعتُه وسكونُه أنفع لقلبه وبدنه ، وأقربُ إلى توكله على الله تعالى ، واستسلامه لقضائه . وأما مَن لا يستغني عن الحركة كالصُـنَّاع ، والأُجراء ، والمسافرين ، والبُرُد ، وغيرهم فلا يقال لهم : اتركوا حركاتِهم جملةً ، وإن أُمروا أن يتركوا منها ما لا حاجة لهم إليه ، كحركة المسافر فارّا منه . والله تعالى أعلم .
[1/36] وفي المنع من الدخول إلى الأرض التي قد وقع بها عدةُ حِكَم :
أحدها : تجنب الأسباب المؤذية ، والبُعْد منها .
الثاني : الأخذُ بالعافية التي هي مادةُ المعاشِ والمعاد .
الثالث : أن لا يستنشِقُوا الهواءَ الذي قد عَفِنَ وفَسَدَ فيمرضون .
الرابع : أن لا يُجاوروا المرضى الذين قد مَرِضُوا بذلك ، فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم .
وفي ( سنن أبي داود ) مرفوعا : " إنَّ مِن القرفِ التلفَ " .
قال ابن قتيبة : القرفُ مداناة الوباء ، ومداناة المرضى .
الخامس : حِميةُ النفوس عن الطِّيَرَة والعَدوى ، فإنها تتأثر بهما ، فإن الطِّيرة على مَن تطيَّرَ بها .
وبالجملة ففي النهي عن الدخول في أرضه الأمرُ بالحذر والحِمية ، والنهيُ عن التعرض لأسباب التلف . وفي النهي عن الفِرار منه الأمر بالتوكل ، والتسليم ، والتفويض ، فالأولُ : تأديب وتعليم ، والثاني : تفويض وتسليم .
وفي الصحيح : أنَّ عمر بن الخطاب خرج إلى الشام ، حتى إذا كان بِسَرْغَ لَقيه أبو عُبيدة بن الجرَّاح وأصحابه ، فأخبرُوه أنَّ الوَباءَ قد وقع بالشام ، فاختلفوا ، فقال لابن عباس : ادعُ لي المهاجرينَ الأوَّلينَ ، قال : فدعوتُهم ، فاستشارهم ، وأخبرهم أنَّ الوباء قد وقع بالشام . فاختلفوا ، فقال له بعضُهم : خرجتَ لأَمر ، فلا نرى أن تَرْجِعَ عنه . وقال آخرون : معك بقيةُ الناس ، وأصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا نرى أن تُقْدِمَهُم على هذا الوَبَاء ، فقال عمر : ارتفعوا عَنِّي ، ثم قال : ادعُ لي الأنصار ، فدعوتُهم له ، فاستشارهم ، فسلكُوا سبيلَ المهاجرين ، واختلفوا كاختلافهم ، فقال : ارتفعوا عَنِّي ، ثم قال : ادْع لي مَنْ ها هنا من مشيخةِ قريشٍ من مُهاجرةِ الفتح ، [1/37] فدعوتهم له ، فلم يختلف عليه منهم رجلان ، قالوا : نرى أن ترجِعَ بالناس ولا تُقْدِمَهُم على هذا الوباء ، فَأَذَّنَ عمر في الناس : إني مُصبحٌ على ظَهْرٍ ، فأَصْبِحُوا عليهِ . فقال أبو عُبيدة بن الجرَّاح : يا أميرَ المؤمنين ؛ أفِرَارا من قَدَرِ الله تعالى ؟ قال : لو غيرُك قالها يا أبا عُبيدة ، نعم نَفِرُّ من قَدَرِ الله تعالى إلى قَدَرِ الله تعالى ، أرأيتَ لو كانَ لك إبلٌ فهبطتَ وَادِيا له عُدْوَتَان ، إحداهما خِصبة ، والأُخرى جَدْبة ، ألستَ إنْ رعيتَها الخِصبة رعيتَها بَقدَرِ الله تعالى ، وإن رعيتها الجدبةَ رعيتَها بقدر الله تعالى ؟ . قال : فجاء عبد الرحمن بن عَوْف وكانَ متغيبا في بعض حاجاتِهِ ، فقال : إنَّ عندي في هذا علما ، سمعتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا كان بِأَرْضٍ وأنْتُمْ بها فلا تَخْرُجوا فِرَارا منه ، وإذا سَمِعْتُم به بأرضٍ فلا تَقْدَموا عَلَيْهِ " .