474 حَدِيثٌ ثَالِثٌ لِهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ
مَالِكٌ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَحْيَانًا يَأْتِينِي فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ - وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ ، [22/113] فَيَفْصِمُ عَنِّي - وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ . قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدُ فَيَفْصِمُ عَنْهُ ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا
.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَسْأَلُونَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَعَانِي ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجِيبُهُمْ وَيُعْلِمُهُمْ ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ تَسْأَلُ ، وَطَائِفَةٌ تَحْفَظُ وَتُؤَدِّي وَتُبَلِّغُ ، حَتَّى أَكْمَلَ اللَّهُ دِينَهُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ نَوْعَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ مِنْ صِفَةِ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ وَكَيْفِيَّةِ ذَلِكَ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي غَيْرِ مَا أُثِرَ ضُرُوبٌ مِنْ صِفَةِ الْوَحْيِ حَتَّى الرُّؤْيَا ، فَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ أَيْضًا ، وَلَكِنَّ الْمَقْصِدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ إِلَى نُزُولِ الْقُرْآنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ وَشِبْهِهِ فِي بَابِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : صَلْصَلَةُ الْجَرَسِ ، فَإِنَّهُ أَرَادَ فِي مثل صوت الْجَرَسِ ، وَالصَّلْصَلَةُ الصَّوْتُ ، يُقَالُ : صَلْصَلَةُ الطِّسْتِ ، وَصَلْصَلَةُ الْجَرَسِ ، وَصَلْصَلَةُ الْفَخَّارِ ، وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الْوَحْيُ إِذَا نَزَلَ سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ صَوْتَ مِرَارٍ ، أَوْ إِمْرَارِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا ، وَفِي حَدِيثِ حُنَيْنٍ : أَنَّهُمْ سَمِعُوا صَلْصَلَةً بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَإِمْرَارِ الْحَدِيدِ عَلَى الطِّسْتِ الْجَدِيدِ ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ قَالَ : مُوسَى حِينَ [22/114] كَلَّمَهُ اللَّهُ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا قَالَ : جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - وَأَشْبَاهِهِ مِنَ الرُّسُلِ .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ قَالَ : نَرَى هَذِهِ الْآيَةَ تَعُدُّ مَنْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الْبَشَرِ ، فَالْكَلَامُ : مَا كَلَّمَ اللَّهُ به مُوسَى مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، وَالْوَحْيُ : مَا يُوحِي اللَّهُ إِلَى النَّبِيِّ مِنِ الْهِدَايَةِ ، فَيُثَبِّتُ اللَّهُ مَا أَرَادَ مِنْ وَحْيِهِ فِي قَلْبِ النَّبِيِّ ، فَيَتَكَلَّمُ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَكْتُبُهُ ، فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ رُسُلِهِ ، لَا يُكَلِّمُ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ سِرٌّ غَيْبٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ رُسُلِهِ ، وَمِنْهُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَلَا يَكْتُبُونَهُ ، وَلَكِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِهِ النَّاسَ وَيَأْمُرُونَهُمْ بِبَيَانِهِ ، وَيُبَيِّنُونَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ أَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ وَيُعْلِمُوهُمْ إِيَّاهُ .
وَمِنَ الْوَحْيِ مَا يُرْسِلُ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ فَيُوحِيهِ وَحْيًا فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ رُسُلِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ كَانَ يُرْسِلُ جِبْرِيلَ إِلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ : قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَـزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - : وَإِنَّهُ لَتَنْـزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ إِلَى قَوْلِهِ : بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ
وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَيَفْصِمُ عَنِّي ، فَمَعْنَاهُ : يَنْفَرِجُ عَنِّي وَيَذْهَبُ ، كَمَا تَفْصِمُ الْخَلْخَالَ إِذَا فَصَمْتَهُ لِتُخْرِجَهُ مِنَ الرِّجْلِ ، وَكُلُّ عُقْدَةٍ حَلَلْتَهَا فَقَدْ فَصَمْتَهَا ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [22/115] وَانْفِصَامُ الْعُرْوَةِ أَنْ تُفَكَّ عَنْ مَوْضِعِهَا ، وَأَصْلُ الْفَصْمِ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنْ يَفُكَّ الْخَلْخَالَ ، وَلَا يُبَيِّنَ كَسْرَهُ ، فَإِذَا كَسَرْتَهُ فَقَدْ قَصَمْتَهُ - بِالْقَافِ - ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ :
كَأَنَّهُ دُمْلُجٌ مِنْ فِضَّةٍ نَبَهٌ
فِي مَلْعَبٍ مِنْ عَذَارَى الْحَيِّ مَفْصُومُ
.