فصل
الوقت الصالح للجماع
وأنفعُ الجِماع : ما حصلَ بعد الهضم ، وعند اعتدال البدن في حرِّه وبرده ، ويُبوسته ورطوبته ، وخَلائه وامتلائه . وَضَرَرُه عند امتلاء البدن أسهلُ وأقل من ضرره عند خُلوِّه ، وكذلك ضررُه عند كثرة الرطوبة أقلُّ منه عند اليبوسة ، وعند حرارته أقلُّ منه عند برودته ، وإنما ينبغي أن يُجامِعَ إذا اشتدتْ الشهوةُ ، وحصَلَ الانتشارُ التام الذي ليس عن تكلُّفٍ ، ولا فكرٍ في صورة ، ولا نظرٍ متتابع . ولا ينبغي أن يستدعي شهوةَ الجِماع ويتكلفها ، ويحمل نفسه عليها ، وليُبادْر إليه إذا هاجتْ به كثرةُ المَنِي ، واشتد شَبَقُهُ ، وليحذرْ جِماعَ العجوز والصغيرةِ التي لا يُوطأُ مثلُها ، والتي لا شهوة لها ، والمريضةِ ، والقبيحةِ المنظرِ ، والبَغيضة ، فوطءُ هؤلاء يُوهن القُوَى ، ويُضعف الجِماع بالخاصِّية ، وغلط مَن قال من الأطباء : إن جِماع الثيِّب أنفعُ من جِماع البكر وأحفظُ للصحة ، وهذا من القياس الفاسد ، حتى ربما حذَّر منه بعضُهم ، وهو مخالف لِما عليه عقلاءُ الناسِ ، ولِما اتفقتْ عليه الطبيعةُ والشريعة .
[1/187] وفي جِماع البِكر من الخاصِّية وكمالِ التعلُّق بينها وبين مُجامعها ، وامتلاءِ قلبها من محبته ، وعدم تقسيم هواها بينه وبين غيره ، ما ليس للثَيِّب . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجابر : " هلا تَزوَّجتَ بِكرا " ، وقد جعل الله سبحانه من كمالِ نساء أهل الجنَّة من الحُور العين ، أنَّهن لم يَطْمِثْهُنَّ أحدٌ قبلَ مَن جُعِلْنَ له من أهل الجنَّة .
وقالت عائشةُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أرأيْتَ لو مَرَرْتَ بشجرةٍ قد أُرْتِعَ فيها ، وشجرةٍ لم يُرْتَعْ فيها ، ففي أيِّهما كنتَ تُرتِعُ بعيرَك ؟ قال : " في التي لم يُرْتَعْ فيها " . تريد أنه لم يأخذ بكرا غيرَها .
وجِماعُ المرأة المحبوبة في النفس يَقِلُّ إضعافُهُ للبدن مع كثرةِ استفراغه للمَنِي ، وجماع البغيضة يُحِلُّ البدن ، ويُوهن القُوَى مع قِلَّةِ استفراغه ، وجِماعُ الحائض حرامٌ طبعا وشرعا ، فإنه مضرٌ جدا ، والأطباء قاطبةً تُحَذِّر منه .
وأحسنُ أشكالِ الجِماع أن يعلوَ الرجلُ المرأةَ ، مُستفرِشا لها بعدَ المُلاعبة والقُبلة ، وبهذا سُميت المرأة فِراشا ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " الولَدُ لِلفِراش " ، وهذا من تمام قَوَّامية الرجل على المرأة ، كما قال تعالى : الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ وكما قيل :
إذَا رُمْتُهَا كَانَتْ فِرَاشَا يُقِلُّني
وَعِنْدَ فَرَاغي خَادِمٌ يَتَمَلَّقُ

وقد قال تعالى : هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ وأكملُ اللِّباس وأسبَغُه على هذه الحال ، فإن فِراش الرجل لباسٌ له ، وكذلك لِحَافُ المرأة لباسٌ لها ، فهذا الشكلُ الفاضلُ مأخوذٌ من هذه الآية ، وبه يَحسن موقعُ استعارةِ اللِّباس من كل من الزوجين للآخر . وفيه وجه آخرُ ، وهو أنها تَنعطِفُ عليه أحيانا ، فتكونُ عليه كاللِّباس ، قال الشاعر :
إذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَها
تَثَنَّتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا
[1/188] وأردأُ أشكاله أن تعلُوَهُ المرأةُ ، ويُجامِعَها على ظهره ، وهو خلافُ الشكل الطبيعي الذي طبع الله عليه الرجل والمرأة ، بل نوعَ الذكر والأُنثى ، وفيه من المفاسد ، أنَّ المَنِي يتعسَّرُ خروجُه كلُّه ، فربما بقي في العضو منه فيتعفنُ ويفسد ، فيضر . وأيضا : فربما سال إلى الذَّكر رطوباتٌ من الفَرْج . وأيضا : فإنَّ الرَّحِم لا يتمكن من الاشتمال على الماء واجتماعِهِ فيه ، وانضمامِهِ عليه لتَخْلِيقِ الولد . وأيضا : فإنَّ المرأة مفعولٌ بها طبعا وشرعا ، وإذا كانت فاعلة خالفتْ مقتضى الطبع والشرع .
وكان أهل الكتاب إنما يأتون النساء على جُنوبهن على حَرْفٍ ، ويقولون : هو أيسرُ للمرأة ، وكانت قريش والأنصار تَشْرَحُ النِّساءَ على أقْفَائِهن ، فعابَتِ اليهودُ عليهم ذلك ، فأنزل الله - عز وجل - : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ
وفي ( الصحيحين ) عن جابر ، قال : كانت اليهود تقولُ : إذا أتى الرجلُ امرأتَه من دُبُرِها في قُبُلِها ، كان الولدُ أَحوَلَ ، فأنزل الله - عز وجل - : " نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ " . وفي لفظ لمسلم : " إن شاء مُجَبِّيَة ، وإن شاء غير مجبية ، غَيْرَ أنَّ ذلك في صِمامٍ واحدٍ " .
و ( المُجَبِّيَة ) : المُنْكَبَّة على وجهها ، و ( الصمام الواحد ) : الفَرْج ، وهو موضع الحرْثِ والولد .
وأما الدُّبرُ : فلم يُبَحْ قَطُّ على لسان نبي من الأنبياء ، ومَن نسب إلى بعض السَّلَف إباحة وطء الزوجة في دُبُرها ، فقد غلط عليه . وفي ( سنن أبي داود ) عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ملعونٌ مَن أتى المرأةَ في دُبُرِها " .
وفي لفظ لأحمد وابن ماجه : " لا يَنْظُرُ اللهُ إلى رَجُلٍ جَامَعَ امرأتَه في دُبُرِها " .
وفي لفظ للترمذي وأحمد : " مَن أتى حائضا ، أو امرأةً في دُبُرِها ، أوْ كاهنا فَصَدَّقَهُ ، فقد كَفَرَ بما أُنْزِلَ على محمد - صلى الله عليه وسلم - " .
[1/189] وفي لفظ للبيهقي : " مَنْ أتى شيئا مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ في الأدبار فقد كفر " .
وفي ( مصنَّف وكِيع ) : حدثنى زمْعة بن صالح ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد الله بن يَزيد ؛ قال : قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيي من الحقِّ ، لا تأتُوا النِّسَاءَ في أعجازِهِنَّ " ، وقال مَرَّة : " في أدبارِهِنَّ " .
وفي ( الترمذي ) : عن علي بن طَلْق ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تأتوا النِّسَاءَ في أعجازِهِنَّ ، فإن الله لا يستحيي من الحقِّ " .
وفي ( الكامل ) لابن عَدي : من حديثه عن المحامِلي ، عن سعيد بن يحيى الأموي ، قال : حدَّثنا محمد بن حمزَةَ ، عن زيد بن رَفيع ، عن أبي عُبيدة ، عن عبد الله بن مسعود يرفعه : " لا تأتوا النِّسَاءَ في أعْجَازِهِنَّ " .
وروينا في حديث الحسن بن علي الجوهري ، عن أبي ذرٍّ مرفوعا : " مَنْ أتى الرِّجَال أو النِّسَاءَ في أدْبَارِهنَّ ، فقد كَفَرَ " .
وروى إسماعيل بن عيَّاش ، عن سُهيل بن أبي صالح ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر يرفعه : " اسْتَحْيُوا مِنَ الله ، فإنَّ اللهَ لا يَسْتَحيي مِنَ الحقِّ ، لا تأْتُوا النِّسَاءَ في حُشُوشِهِنَّ " .
ورواه الدارقُطنِي من هذه الطريق ، ولفظه : " إنَّ الله لا يَسْتَحيي مِنَ الحق ، لا يَحلُّ مَأْتَاك النِّسَاءَ في حُشُوشِهِنَّ " .
وقال البغوي : حدثنا هُدْبَةُ ، حدثنا همَّام ، قال : سُئِل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دُبُرِها ؛ فقال : حَدَّثني عمرو بن شُعَيب ، عن أبيه ، عن جده ، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " تلك اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرى " .
[1/190] وقال أحمد في ( مسنده ) : حدَّثنا عبد الرحمن ، قال : حدَّثنا همَّام ، أخبرنا عن قتادَةَ ، عن عمرو بن شُعَيب ، عن أبيه ، عن جده ، فذكره .
وفي ( المسند ) أيضا : عن ابن عباس : " أنزلت هذه الآية : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ في أُناسٍ من الأنصار ، أتَوْا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه ، فقال : ائْتِها على كُلِّ حال إذا كان في الفَرْج " .
وفي ( المسند ) أيضا : عن ابن عباس ، قال : " جاء عمرُ بنُ الخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله : هلكتُ . فقال : وما الذي أهلكَكَ ؟ قال : حَوَّلْتُ رَحْلي البارِحَةَ ، قال : فلم يَرُدَّ عليه شيئا ، فأوحى الله إلى رسوله : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أَقْبِلْ وأَدْبِرْ ، واتَّقِ الحَيْضَةَ والدُّبُرَ " .
وفي ( الترمذي ) : عن ابن عباس مرفوعا : " لا يَنْظُرُ اللهُ إلى رَجُلٍ أتى رَجُلا أو امرأةً في الدُّبُرِ " .
وروينا من حديث أبي علي الحسن بن الحسين بن دُومَا ، عن البَراء بن عازِب يرفعه : " كَفَرَ باللهِ العظيم عشرةٌ من هذه الأُمة : القاتِلُ ، والسَّاحِرُ ، والديوثُ ، وناكحُ المرأةِ في دُبُرِها ، ومانِعُ الزكاةِ ، ومَن وَجَدَ سَعَةً فماتَ ولم يَحُجَّ ، وشاربُ الخَمْرِ ، والسَّاعي في الفِتَنِ ، وبائعُ السِّلاحِ من أهلِ الحربِ ، ومَن نكَح ذَاتَ مَحْرَمٍ منه " .
وقال عبد الله بن وهب : حدَّثنا عبد الله بن لَهيعةَ ، عن مِشرَح بن هاعانَ ، عن عقبةَ بن عامر ، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " مَلْعُونٌ مَن يأتي النِّسَاءَ في محاشِّهِنَّ " ؛ يعني : أدْبَارهنَّ .
[1/191] وفي ( مسند الحارث بن أبي أُسامة ) من حديث أبي هريرة ، وابن عباس قالا : " خطبنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته ، وهي آخِرُ خُطبةٍ خطبها بالمدينة حتى لحق بالله - عز وجل - وعظنا فيها وقال : " مَن نَكَحَ امرأَةً في دُبُرِها أو رجلا أو صَبِيَّا ، حُشِرَ يَوْمَ القيامة ، وريحُهُ أنْتَنُ مِنَ الجِيفةِ يتأذَّى به النَّاسُ حتى يَدْخُلَ النَّار ، وأَحْبَطَ اللهُ أجرَهُ ، ولا يَقْبَلُ منه صَرْفا ولا عدلا ، ويُدْخَلُ في تابوتٍ من نارٍ ، ويُشَدُّ عليه مَساميرُ من نارٍ " قال أبو هريرة : هذا لمن لم يتب .
وذكر أبو نعيم الأصبهاني ، من حديث خزيمة بن ثابت يرفعه " إنَّ الله لا يَسْتَحيي مِنَ الحَق ، لا تأتوا النِّساء في أَعْجازِهِنَّ " .
وقال الشافعي : أخبرني عمي محمد بن علي بن شافع ، قال : أخبرني عبد الله بن علي بن السائب ، عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح ، عن خزيمة بن ثابت ، أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إتيان النساء في أدبارهن ، فقال : حلال ، فلما ولى ، دعاه فقال : كيف قُلتَ ، في أيِّ الخُرْبَتَينِ ، أو في أي الخَرْزَتَينِ ، أو في أيِّ الخَصْفَتَينِ ، أمنْ دُبُرها في قُبُلهَا ؟ فَنَعَم . أم مِنْ دُبُرِها في دُبُرِها ، فلا ، إنَّ الله لا يَسْتَحيِي مِنَ الحَق ، لا تأتوا النِّساء في أَدبارهِنَّ " .
قال الربيع : فقيل للشافعي : فما تقول ؟ فقال : عمي ثقة ، وعبد الله بن علي ثقة ، وقد أثنى على الأنصاري خيرا ، يعني عمرو بن الجلاح ، وخزيمة ممن لا يشك في ثقته ، فلست أرخص فيه ، بل أنهى عنه .
قلت : ومن هاهنا نشأ الغلط على من نقل عنه الإباحة من السلف والأئمة ، فإنهم أباحوا أن يكون الدُّبر طريقا إلى الوطء في الفرج ، فيطأ من الدبر لا في الدبر ، فاشتبه على السامع ( من ) بـ ( في ) ولم يظن بينهما فرقا ، فهذا الذي أباحه السلف والأئمة ، فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه .
وقد قال تعالى : فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ قال مجاهد : سألتُ ابن عَبَّاس عن قوله تعالى : فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فقال : تأتيها من حيث [1/192] أمرت أن تعزلها يعني في الحيض . وقال علي بن أبي طلحة عنه يقول : في الفرج ، ولا تعدُه إلى غيره .
وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دُبرها من وجهين : أحدهما : أنه أباح إتيانها في الحرث ، وهو موضع الولد لا في الحُشّ الذي هو موضع الأذى ، وموضع الحرث هو المراد من قوله : مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ الآية ، قال : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وإتيانُها في قبلها مِن دبرها مستفادٌ من الآية أيضا ، لأنه قال : أنى شئتم ، أي : من أين شئتم من أمام أو من خلف . قال ابن عباس : فأتوا حرثكم ، يعني : الفرج .
وإذا كان الله حرَّم الوطءَ في الفرج لأجل الأذى العارض ، فما الظنُّ بالحشِّ الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جدا من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان .
وأيضا : فللمرأة حق على الزوج في الوطء ، ووطؤها في دُبرها يفوِّتُ حقها ، ولا يقضي وطَرَها ، ولا يُحَصِّل مقصودها .
وأيضا : فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ، ولم يخلق له ، وإنما الذي هيئ له الفرج ، فالعادلون عنه إلى الدُّبُر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعا .
وأيضا : فإن ذلك مضر بالرجل ، ولهذا ينهى عنه عقلاءُ الأطباء منِ الفلاسفة وغيرهم ، لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه ، والوطءُ في الدُّبُر لا يعين على اجتذاب جميع الماء ، ولا يخرج كلَّ المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعي .
وأيضا : يضر من وجه آخَر ، وهو إحواجُه إلى حركات متعبةٍ جدا لمخالفته للطبيعة .
وأيضا : فإنه محل القذر والنَّجْوِ ، فيستقبلُه الرَّجل بوجهه ، ويُلابسه .
وأيضا : فإنه يضرُّ بالمرأة جدا ، لأنه واردٌ غريب بعيدٌ عن الطباع ، مُنافر لها غايةَ المنافرة .
وأيضا : فإنه يُحِدثُ الهمَّ والغم ، والنفرةَ عن الفاعل والمفعول .
وأيضا : فإنه يُسَوِّدُ الوجه ، ويُظلم الصدر ، ويَطمِسُ نور القلب ، ويكسو الوجه وحشةً تصير عليه كالسِّيماء يعرِفُها مَن له أدنى فراسة .
[1/193] وأيضا : فإنه يُوجب النُّفرة والتباغض الشديد ، والتقاطع بين الفاعل والمفعول ، ولا بُدَّ .

وأيضا : فإنه يُفسد حال الفاعل والمفعول فسادا لا يكادُ يُرجَى بعده صلاح ، إلا أن يشاءَ الله بالتوبة النصوح .
وأيضا : فإنه يُذهبُ بالمحاسن منهما ، ويكسوهما ضِدَّها . كما يُذهب بالمَوَدَّة بينهما ، ويُبدلهما بها تباغضا وتلاعُنا .
وأيضا : فإنه من أكبر أسباب زوال النِعَم ، وحُلول النِقَم ، فإنه يوجب اللَّعنةَ والمقتَ من الله ، وإعراضه عن فاعله ، وعدم نظره إليه ، فأي خير يرجوه بعد هذا ، وأي شر يأمنُه ، وكيف حياة عبد قد حلَّتْ عليه لعنة الله ومقته ، وأعرض عنه بوجهه ، ولم ينظر إليه .
وأيضا : فإنه يُذهب بالحياءِ جملةً ، والحياءُ هو حياة القلوب ، فإذا فقدها القلبُ ، استحسَن القبيح ، واستقبحَ الحسن ، وحينئذٍ فقد استَحكَم فسادُه .
وأيضا : فإنهُ يُحيل الطباعَ عما رَكَّبَها الله ، ويُخرج الإنسانَ عن طبعه إلى طبع لم يُركِّب الله عليه شيئا من الحيوان ، بل هو طبع منكوس ، وإذا نُكِسَ الطبعُ انتكس القلب ، والعمل ، والهدي ، فيستطيبُ حينئذٍ الخبيثَ من الأعمال والهيئات ، ويفسد حاله وعملُه وكلامه بغير اختياره .
وأيضا : فإنه يُورِث مِنَ الوقاحة والجُرأة ما لا يُورثه سواه .
وأيضا : فإنه يُورث مِنَ المهانة والسِّفال والحقَارة ما لا يورثه غيره .
وأيضا : فإنه يكسو العبدَ مِن حُلَّة المقت والبغضاء ، وازدراءِ الناس له ، واحتقارِهم إيَّاه ، واستصغارِهم له ما هو مشاهَدٌ بالحسِّ ، فصلاة الله وسلامه على مَن سعادةُ الدنيا والآخرة في هَدْيِه واتباعِ ما جاء به ، وهلاكُ الدنيا والآخرة في مخالفة هَدْيِه وما جاء به .