63 - بَاب أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَتُرَدَّ فِي الْفُقَرَاءِ حَيْثُ كَانُوا
1496 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ ، أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ : إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ .


قَوْلُهُ : ( بَابُ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَتُرَدُّ فِي الْفُقَرَاءِ حَيْثُ كَانُوا ) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ : ظَاهِرُ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ الصَّدَقَةَ تُرَدُّ عَلَى فُقَرَاءِ مَنْ أُخِذَتْ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ : اخْتَارَ الْبُخَارِيُّ جَوَازَ نَقْلِ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدِ الْمَالِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : " فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ " ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَأَيُّ فَقِيرٍ مِنْهُمْ رُدَّتْ [3/419] فِيهِ الصَّدَقَةُ فِي أَيِّ جِهَةٍ كَانَ فَقَدْ وَافَقَ عُمُومَ الْحَدِيثِ . انْتَهَى . وَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ عَدَمُ النَّقْلِ ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فَيَخْتَصُّ بِذَلِكَ فُقَرَاؤُهُمْ ، لَكِنْ رَجَّحَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الْأَوَّلَ ، وَقَالَ : إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَظْهَرَ إِلَّا أَنَّهُ يُقَوِّيهِ أَنَّ أَعْيَانَ الْأَشْخَاصِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْكُلِّيَّةِ لَا تُعْتَبَرُ ، فَلَا تُعْتَبَرُ فِي الزَّكَاةِ كَمَا لَا تُعْتَبَرُ فِي الصَّلَاةِ ، فَلَا يَخْتَصُّ بِهِمُ الْحُكْمُ وَإِنِ اخْتَصَّ بِهِمْ خِطَابُ الْمُوَاجَهَةِ . انْتَهَى . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَأَجَازَ النَّقْلَ اللَّيْثُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمَا ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، عَنِ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ تَرْكُ النَّقْلِ ، فَلَوْ خَالَفَ وَنَقَلَ أَجْزَأَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَلَمْ يُجْزِئْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ إِلَّا إِذَا فُقِدَ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : ( حَيْثُ كَانُوا ) يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا يَنْقُلُهَا عَنْ بَلَدٍ وَفِيهِ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ .
قَوْلُهُ : ( أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَزَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ مَكِّيٌّ ، وَكَذَا مَنْ فَوْقَهُ .
قَوْلُهُ : ( عَنْ يَحْيَى ) فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ ، عَنْ زَكَرِيَّا : " حَدَّثَنِي يَحْيَى " . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
قَوْلُهُ : ( عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ ) فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ : " عَنْ يَحْيَى أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَعْبَدٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ " . أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْحِيدِ .
قَوْلُهُ : ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ ) كَذَا فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبِي كُرَيْبٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ وَكِيعٍ ، فَقَالَ فِيهِ : " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، قَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . فَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ مُسْنَدِ مُعَاذٍ ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ مُسْلِمٍ أَنَّ اللَّفْظَ مُدْرَجٌ ، لَكِنْ لَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، وَسَائِرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ ، عَنْ وَكِيعٍ ، فَقَالَ فِيهِ : " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا " . وَكَذَا هُوَ فِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ قَالَ : " حَدَّثَنَا وَكِيعٌ بِهِ " . وَكَذَا رَوَاهُ عَنْ وَكِيعٍ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ ، عَنْ أَحْمَدَ ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَظَالِمِ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُوسَى ، عَنْ وَكِيعٍ كَذَلِكَ ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْرَمِيِّ ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الثَّعْلَبِيِّ ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَيْثَمَةَ ، وَمُوسَى بْنِ السُّدِّيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيِّ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَغَوِيِّ ، كُلِّهِمْ عَنْ وَكِيعٍ كَذَلِكَ ، فَإِنْ ثَبَتَتْ رِوَايَةُ أَبِي بَكْرٍ ، فَهُوَ مِنْ مُرْسَلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، لَكِنْ لَيْسَ حُضُورُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِذَلِكَ بِبَعِيدٍ ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَاخِرِ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ إِذْ ذَاكَ مَعَ أَبَوَيْهِ بِالْمَدِينَةِ ، وَكَانَ بَعْثُ مُعَاذٍ إِلَى الْيَمَنِ سَنَةَ عَشْرٍ قَبْلَ حَجِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي ، وَقِيلَ : كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ تِسْعٍ عِنْدَ مُنْصَرَفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ ، رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْهُ ، ثُمَّ حَكَى ابْنُ سَعْدٍ أَنَّهُ كَانَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ عَشْرٍ ، وَقِيلَ : بَعَثَهُ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عَلَى الْيَمَنِ إِلَى أَنْ قَدِمَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى الشَّامِ فَمَاتَ بِهَا ، وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ مُعَاذٌ وَالِيًا أَوْ قَاضِيًا ؟ فَجَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِالثَّانِي وَالْغَسَّانِيُّ بِالْأَوَّلِ .
قَوْلُهُ : ( سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ ) هِيَ كَالتَّوْطِئَةِ لِلْوَصِيَّةِ ، لِتُسْتَجْمَعَ هِمَّتُهُ عَلَيْهَا لِكَوْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَهْلَ عِلْمٍ فِي الْجُمْلَةِ ، فَلَا تَكُونُ الْعِنَايَةُ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ كَمُخَاطَبَةِ الْجُهَّالِ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ [3/420] يَقْدُمُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ تَفْضِيلًا لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ .
قَوْلُهُ : ( فَإِذَا جِئْتَهُمْ ) قِيلَ : عَبَّرَ بِلَفْظِ إِذَا تَفَاؤُلًا بِحُصُولِ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ .
قَوْلُهُ : ( فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الزَّكَاةِ بِلَفْظِ : " وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ " . كَذَا فِي رِوَايَةِ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ فَفِي رِوَايَةِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ : " فَأَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ " . وَفِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْهُ : " إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ ، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ " . وَيُجْمَعُ بَيْنَهَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَوْحِيدُهُ وَبِتَوْحِيدِهِ الشَّهَادَةُ لَهُ بِذَلِكَ وَلِنَبِيِّهِ بِالرِّسَالَةِ ، وَوَقَعَتِ الْبُدَاءَةُ بِهِمَا لِأَنَّهُمَا أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَصِحُّ شَيْءٌ غَيْرُهُمَا إِلَّا بِهِمَا فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ مُوَحِّدٍ فَالْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَيْهِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ ، وَمَنْ كَانَ مُوَحِّدًا فَالْمُطَالَبَةُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ بِالرِّسَالَةِ ، وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مَا يَقْتَضِي الْإِشْرَاكَ أَوْ يَسْتَلْزِمُهُ كَمَنْ يَقُولُ بِبُنُوَّةِ عُزَيْرٍ أَوْ يَعْتَقِدُ التَّشْبِيهَ فَتَكُونُ مُطَالَبَتُهُمْ بِالتَّوْحِيدِ لِنَفْيِ مَا يَلْزَمُ مِنْ عَقَائِدِهِمْ . وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ : إِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّبَرِّي مِنْ كُلِّ دِينٍ يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : إِنَّ مَنْ كَانَ كَافِرًا بِشَيْءٍ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِغَيْرِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا بِتَرْكِ اعْتِقَادِ مَا كَفَرَ بِهِ ، وَالْجَوَابُ أَنَّ اعْتِقَادَ الشَّهَادَتَيْنِ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ اعْتِقَادِ التَّشْبِيهِ وَدَعْوَى بُنُوَّةِ عُزَيْرٍ وَغَيْرِهِ فَيُكْتَفَى بِذَلِكَ ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الْإِسْلَامِ الِاقْتِصَارُ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى يُضِيفَ إِلَيْهَا الشَّهَادَةَ لِمُحَمَّدٍ بِالرِّسَالَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَصِيرُ بِالْأُولَى مُسْلِمًا وَيُطَالَبُ بِالثَّانِيَةِ . وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ بِالْحُكْمِ بِالرِّدَّةِ .
( تَنْبِيهَانِ ) أَحَدُهُمَا : كَانَ أَصْلُ دُخُولِ الْيَهُودِيَّةِ فِي الْيَمَنِ فِي زَمَنِ أَسْعَدَ أَبِي كَرِبَ ، وَهُوَ تُبَّعُ الْأَصْغَرُ ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي أَوَائِلِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ .
ثَانِيهِمَا : قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : تَبَرَّأَتِ الْيَهُودُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعُزَيْرَ ابْنُ اللَّهِ ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لِأَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ فِي زَمَنِهِ ، وَالْيَهُودُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا ، فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَدَّ ذَلِكَ وَلَا تَعَقَّبَهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَائِلَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لَا جَمِيعُهُمْ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَائِلَ مِنَ النَّصَارَى : إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لَا جَمِيعُهُمْ ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الطَّائِفَةُ انْقَرَضَتْ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ كَمَا انْقَلَبَ اعْتِقَادُ مُعْظَمِ الْيَهُودِ عَنِ التَّشْبِيهِ إِلَى التَّعْطِيلِ وَتَحَوَّلَ مُعْتَقَدُ النَّصَارَى فِي الِابْنِ وَالْأَبِ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ لَا الْحِسِّيَّةِ ، فَسُبْحَانَ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ .
قَوْلُهُ : ( فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ ) أَيْ شَهِدُوا وَانْقَادُوا ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ : " فَإِنْ هُمْ أَجَابُوا لِذَلِكَ " . وَفِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَلَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ : " فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ " . وَعَدَّى أَطَاعَ بِاللَّامِ ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى انْقَادَ ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَيْسُوا بِعَارِفِينَ وَإِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيُظْهِرُونَ مَعْرِفَتَهُ ، لَكِنْ قَالَ حُذَّاقُ الْمُتَكَلِّمِينَ : مَا عَرَفَ اللَّهَ مَنْ شَبَّهَهُ بِخَلْقِهِ أَوْ أَضَافَ إِلَيْهِ الْيَدَ أَوْ أَضَافَ إِلَيْهِ الْوَلَدَ فَمَعْبُودُهُمُ الَّذِي عَبَدُوهُ لَيْسَ هُوَ اللَّهُ وَإِنْ سَمَّوْهُ بِهِ . وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ حَيْثُ دُعُوا أَوَّلًا [3/421] إِلَى الْإِيمَانِ فَقَطْ ، ثُمَّ دُعُوا إِلَى الْعَمَلِ ، وَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَيْهَا بِالْفَاءِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ : فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا فَأَخْبِرْهُمْ . يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يُطِيعُوا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ ، لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الدَّعْوَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّرْتِيبَ فِي الْوُجُوبِ ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَا تَرْتِيبَ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُوبِ ، وَقَدْ قُدِّمَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَرُتِّبَتِ الْأُخْرَى عَلَيْهَا بِالْفَاءِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْإِتْيَانِ بِالصَّلَاةِ إِسْقَاطُ الزَّكَاةِ . وَقِيلَ : الْحِكْمَةُ فِي تَرْتِيبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّلَاةِ أَنَّ الَّذِي يُقِرُّ بِالتَّوْحِيدِ وَيَجْحَدُ الصَّلَاةَ يَكْفُرُ بِذَلِكَ ، فَيَصِيرُ مَالُهُ فَيْئًا فَلَا تَنْفَعُهُ الزَّكَاةُ ، وَأَمَّا قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ : إِنَّ ذِكْرَ الصَّدَقَةِ أُخِّرَ عَنْ ذِكْرِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ ، وَأَنَّهَا لَا تُكَرَّرُ تَكْرَارَ الصَّلَاةِ فَهُوَ حَسَنٌ ، وَتَمَامُهُ أَنْ يُقَالَ : بَدَأَ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ ، وَذَلِكَ مِنَ التَّلَطُّفِ فِي الْخِطَابِ لِأَنَّهُ لَوْ طَالَبَهُمْ بِالْجَمِيعِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ لَمْ يَأْمَنِ النُّفْرَةَ .
قَوْلُهُ : ( خَمْسَ صَلَوَاتٍ ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي مَوْضِعِهِ .
قَوْلُهُ : ( فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ ، أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِقْرَارَهُمْ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ وَالْتِزَامِهِمْ لَهَا ، وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الطَّاعَةَ بِالْفِعْلِ ، وَقَدْ يُرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الْإِخْبَارُ بِالْفَرِيضَةِ ، فَتَعُودُ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَيْهَا ، وَيَتَرَجَّحُ الثَّانِي بِأَنَّهُمْ لَوْ أُخْبِرُوا بِالْفَرِيضَةِ فَبَادَرُوا إِلَى الِامْتِثَالِ بِالْفِعْلِ لَكَفَى وَلَمْ يُشْتَرَطِ التَّلَفُّظُ بِخِلَافِ الشَّهَادَتَيْنِ ، فَالشَّرْطُ عَدَمُ الْإِنْكَارِ وَالْإِذْعَانُ لِلْوُجُوبِ . انْتَهَى . وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، فَمَنِ امْتَثَلَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْفِعْلِ كَفَاهُ أَوْ بِهِمَا فَأَوْلَى ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَلَاءِ بَعْدَ ذِكْرِ الصَّلَاةِ : " فَإِذَا صَلَّوْا " وَبَعْدَ ذِكْرِ الزَّكَاةِ : " فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ " .
قَوْلُهُ : ( صَدَقَةً ) زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ زَكَرِيَّا : " فِي أَمْوَالِهِمْ " كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الزَّكَاةِ ، وَفِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَلَاءِ : افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ .
قَوْلُهُ : ( تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَ الزَّكَاةِ وَصَرْفَهَا إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِنَائِبِهِ ، فَمَنِ امْتَنَعَ مِنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ قَهْرًا .
قَوْلُهُ : ( عَلَى فُقَرَائِهِمْ ) اسْتُدِلَّ بِهِ لِقَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ : إِنَّهُ يَكْفِي إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ ، وَفِيهِ بَحْثٌ كَمَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ الْفُقَرَاءَ لِكَوْنِهِمُ الْغَالِبَ فِي ذَلِكَ ، وَلِلْمُطَابَقَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى عَلَى الْمَدْيُونِ زَكَاةَ مَا فِي يَدِهِ إِذَا لَمْ يَفْضُلْ مِنَ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ قَدْرُ نِصَابٍ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيٍّ إِذَا كَانَ إِخْرَاجُ مَالِهِ مُسْتَحَقًّا لِغُرَمَائِهِ .
قَوْلُهُ : ( فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ ) كَرَائِمَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْوَاوِ ، وَالْكَرَائِمُ جَمْعُ كَرِيمَةٍ أَيْ نَفِيسَةٍ ، فَفِيهِ تَرْكُ أَخْذِ خِيَارِ الْمَالِ ، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ أَنَّ الزَّكَاةَ لِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ ، فَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْإِجْحَافَ بِمَالِ الْأَغْنِيَاءِ إِلَّا إِنْ رَضَوْا بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ .
قَوْلُهُ : ( وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ) أَيْ تَجَنَّبِ الظُّلْمَ لِئَلَّا يَدْعُوَ عَلَيْكَ الْمَظْلُومُ . وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ ، وَالنُّكْتَةُ فِي ذِكْرِهِ عَقِبَ الْمَنْعِ مِنْ أَخْذِ الْكَرَائِمِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَخْذَهَا ظُلْمٌ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : [3/422] عَطَفَ وَاتَّقِ عَلَى عَامِلِ إِيَّاكَ الْمَحْذُوفِ وُجُوبًا ، فَالتَّقْدِيرُ : اتَّقِ نَفْسَكَ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِلْكَرَائِمِ . وَأَشَارَ بِالْعَطْفِ إِلَى أَنَّ أَخْذَ الْكَرَائِمِ ظُلْمٌ ، وَلَكِنَّهُ عَمَّمَ إِشَارَةً إِلَى التَّحَرُّزِ عَنِ الظُّلْمِ مُطْلَقًا .
قَوْلُهُ : ( حِجَابٌ ) أَيْ لَيْسَ لَهَا صَارِفٌ يَصْرِفُهَا وَلَا مَانِعٌ ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ ، وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حِجَابًا يَحْجُبُهُ عَنِ النَّاسِ . وَقَالَ الطِّيبِيُّ : قَوْلُهُ : اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ . تَذْيِيلٌ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الظُّلْمِ الْخَاصِّ مِنْ أَخْذِ الْكَرَائِمِ وَعَلَى غَيْرِهِ ، وَقَوْلُهُ : " فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ " . تَعْلِيلٌ لِلِاتِّقَاءِ وَتَمْثِيلٌ لِلدُّعَاءِ ، كَمَنْ يَقْصِدُ دَارَ السُّلْطَانِ مُتَظَلِّمًا فَلَا يُحْجَبُ ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدٌ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : إِلَّا أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ الدَّاعِيَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ : إِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ لَهُ مَا طَلَبَ ، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ ، وَإِمَّا أَنْ يُدْفَعَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلُهُ . وَهَذَا كَمَا قُيِّدَ مُطْلَقُ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا الدُّعَاءُ إِلَى التَّوْحِيدِ قَبْلَ الْقِتَالِ ، وَتَوْصِيَةُ الْإِمَامِ عَامِلَهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا ، وَفِيهِ بَعْثُ السُّعَاةِ لِأَخْذِ الزَّكَاةِ ، وَقَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ ، وَإِيجَابُ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : " مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ " قَالَهُ عِيَاضٌ وَفِيهِ بَحْثٌ ، وَأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تُدْفَعُ إِلَى الْكَافِرِ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ فِي فُقَرَائِهِمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ قُلْنَا بِخُصُوصِ الْبَلَدِ أَوِ الْعُمُومِ ، وَأَنَّ الْفَقِيرَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، وَأَنَّ مَنْ مَلَكَ نِصَابًا لَا يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَعَلَ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ غَنِيًّا وَقَابَلَهُ بِالْفَقِيرِ ، وَمَنْ مَلَكَ النِّصَابَ فَالزَّكَاةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ فَهُوَ غَنِيٌّ وَالْغِنَى مَانِعٌ مِنْ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ إِلَّا مَنِ اسْتُثْنِيَ ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَلَيْسَ هَذَا الْبَحْثُ بِالشَّدِيدِ الْقُوَّةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ . وَقَالَ الْبَغَوِيُّ : فِيهِ أَنَّ الْمَالَ إِذَا تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ لِإِضَافَةِ الصَّدَقَةِ إِلَى الْمَالِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا .
( تَكْمِيلٌ ) : لَمْ يَقَعْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ مَعَ أَنَّ بَعْثَ مُعَاذٍ كَمَا تَقَدَّمَ كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ ، وَأَجَابَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّ ذَلِكَ تَقْصِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى ارْتِفَاعِ الْوُثُوقِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ . وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ اهْتِمَامَ الشَّارِعِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَكْثَرُ ، وَلِهَذَا كُرِّرَا فِي الْقُرْآنِ فَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُذْكَرِ الصَّوْمُ وَالْحَجُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّهُمَا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ ، وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ إِذَا وَجَبَتَا عَلَى الْمُكَلَّفِ لَا يَسْقُطَانِ عَنْهُ أَصْلًا بِخِلَافِ الصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ بِالْفِدْيَةِ ، وَالْحَجِّ فَإِنَّ الْغَيْرَ قَدْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيهِ كَمَا فِي الْمَعْضُوبِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ شُرِعَ . انْتَهَى . وَقَالَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ : إِذَا كَانَ الْكَلَامُ فِي بَيَانِ الْأَرْكَانِ لَمْ يَخْلُ الشَّارِعُ مِنْهُ بِشَيْءٍ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ . بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ : فَإِذَا كَانَ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ اكْتُفِيَ بِالْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ : الشَّهَادَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ وُجُودِ فَرْضِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ : ( بَرَاءَةٌ ) مَعَ أَنَّ نُزُولَهَا بَعْدَ فَرْضِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ قَطْعًا ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا . أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ : وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ ، قَالَ : وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْكَانَ الْخَمْسَةَ : اعْتِقَادِيٌّ وَهُوَ الشَّهَادَةُ ، وَبَدَنِيٌّ وَهُوَ الصَّلَاةُ ، وَمَالِيٌّ وَهُوَ الزَّكَاةُ . اقْتُصِرَ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ عَلَيْهَا لِتَفَرُّعِ الرُّكْنَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ عَلَيْهَا ، فَإِنَّ الصَّوْمَ بَدَنِيٌّ مَحْضٌ ، وَالْحَجَّ بَدَنِيٌّ مَالِيٌّ ، وَأَيْضًا فَكَلِمَةُ [3/423] الْإِسْلَامِ وَهِيَ شَاقَّةٌ عَلَى الْكُفَّارِ ، وَالصَّلَوَاتُ شَاقَّةٌ لِتَكَرُّرِهَا ، وَالزَّكَاةُ شَاقَّةٌ لِمَا فِي جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ مِنْ حُبِّ الْمَالِ ، فَإِذَا أَذْعَنَ الْمَرْءُ لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ كَانَ مَا سِوَاهَا أَسْهَلَ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .