فِضَّةٌ : ثبت أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان خاتِمُه من فِضَّة ، وفَصُّه منه ، وكانت قَبِيعةُ سيفِه فِضَّة ، ولم يصح عنه في المنع من لباس الفِضَّة والتحلّي بها شيء البتة ، كما صَحَّ عنه المنع من الشُّرب في آنيتها ، وبابُ الآنية أضيقُ من باب اللباس والتحلي ، ولهذا يُباح للنساء لباسا وحليةً ، ما يحرُم عليهن استعمالُه آنيةً ، فلا يلزم من تحريم الآنية تحريمُ اللباس والحلية .
[1/252] وفي ( السنن ) عنه : " وأما الفِضَّةُ فالعبوا بها لَعبا " . فالمنع يحتاجُ إلى دليل يُبينه ، إما نصٌ أو إجماع ، فإن ثبت أحدُهما ، وإلا ففي القلب من تحريم ذلك على الرجال شيء ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمسك بيده ذهبا ، وبالأخرى حريرا ، وقال : " هذان حرامٌ على ذُكُور أُمَّتي ، حِلٌ لإناثهم " .
والفِضَّة سِرٌ من أسرار الله في الأرض وطلسم الحاجات ، وإحسانُ أهل الدنيا بينهم ، وصاحبُها مرموقٌ بالعيون بينهم ، معظَّمٌ في النفوس ، مُصدَّرٌ في المجالس ، لا تُغلق دونه الأبواب ، ولا تُمَلُّ مجالستُه ، ولا معاشرتُه ، ولا يُستثقل مكانه ، تُشير الأصابعُ إليه ، وتعقِد العيون نِطاقها عليه ، إن قال سُمِعَ قوله ، وإن شَفَعَ قُبِلَتْ شفاعتُه ، وإن شهد زُكِّيتْ شهادتُه ، وإن خَطَبَ فكُفء لا يُعاب ، وإن كان ذا شيبة بيضاء فهي أجمل عليه من حِلية الشباب .
وهي من الأدوية المفرحة النافعةِ من الهمِّ والغمِّ والحزن ، وضعف القلب وخفقانه ، وتدخُلُ في المعاجين الكبار ، وتجتذب بخاصيتها ما يتولَّد في القلب من الأخلاط الفاسدة ، خصوصا إذا أُضيفت إلى العسل المصفَّى ، والزعفران .
ومزاجُها إلى اليبُوسة والبُرودة ، ويتولَّد عنها مِن الحرارة والرُّطوبة ما يتولَّد ، والجِنَانُ التي أعدَّها الله - عز وجل - لأوليائه يومَ يلقونه أربعٌ : جنَّتانِ من ذهب ، وجنَّتان مِن فِضَّة ، آنيتهُما وحليتهما وما فيهما . وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في ( الصحيح ) من حديث أُم سلمة أنه قال : " الذي يشربُ في آنيةِ الذَّهَب والفِضَّة إنما يُجَرْجِرُ في بَطْنِهِ نارَ جَهَنَّمَ " .
وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تشربوا في آنيةِ الذَّهبِ والفِضَّةِ ، ولا تأكُلُوا في صِحَافِهما ، فإنها لَهُم في الدُّنْيا ولكم في الآخِرَةِ " .
فقيل : عِلَّةُ التحريم تضييقُ النقود ، فإنها إذا اتُّخِذَتْ أواني فاتت الحِكمةُ التي وُضعت لأجلها من قيام مصالح بني آدم ، وقيل : العِلَّةُ الفخر والخُيلاء . وقيل : العِلَّةُ كسرُ قلوب الفقراء والمساكين إذا رأوها وعاينوها .
[1/253] وهذه العللُ فيها ما فيها ، فإنَّ التعليل بتضييق النقود يمنع من التحلي بها وجعلِها سبائكَ ونحوَها مما ليس بآنيةٍ ولا نقْدٍ ، والفخرُ والخيلاءُ حرام بأي شيء كان ، وكسر قلوب المساكين لا ضابطَ له ، فإنَّ قُلوبَهم تنكسر بالدُّور الواسعة ، والحدائق المعجبة ، والمراكبِ الفارهة ، والملابس الفاخرة ، والأطعمة اللذيذة ، وغير ذلك من المباحات ، وكُلُّ هذه عللٌ منتقَضة ، إذ تُوجد العِلَّةُ ، ويَتَخلَّف معلولُها .
فالصواب أنَّ العِلَّة والله أعلم ما يُكْسِب استعمالُها القلبَ من الهيئة ، والحالة المنافية للعبودية منافاةً ظاهرة ، ولهذا عَلَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها للكفار في الدُّنْيا ، إذ ليس لهم نصيب مِن العبودية التي ينالون بها في الآخرة نعيمها ، فلا يصلُح استعمالُها لعبيد الله في الدنيا ، وإنما يستعمِلُها مَنْ خرج عن عبوديته ، ورَضي بالدنيا وعاجِلهَا من الآخرة .