فصل
في هَدْيه - صلى الله عليه وسلم - في عِلاج العشق
هذا مرضٌ من أمراض القلب ، مخالفٌ لسائر الأمراض في ذاته وأسبابه وعِلاجه ، وإذا تمكَّنَ واستحكم ، عزَّ على الأطباء دواؤه ، وأعيا العليلَ داؤُه ، وإنَّما حكاه اللهُ سبحانه في كتابه عن طائفتين من الناس : من النِّسَاء ، وعشاقِ الصبيان المُرْدان ، فحكاه عن امرأة العزيز في شأن يوسفَ ، وحكاه عن قوم لوط ، فقال تعالى إخبارا عنهم لـمَّا جاءت الملائكةُ لوطا : وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ
وأمَّا ما زعمه بعضُ مَن لم يقدر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حقَّ قدره أنه ابتُلي به في شأن زينب بنت جَحْش ، وأنه رآها فقال : " سُبحانَ مُقَلِّبِ القُلُوبِ " . وأخذتْ بقلبه ، وجعل يقول لزيد بن حارثةَ : أمْسِكْها ، حتى أنزل الله عليه : وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فظنَّ هذا الزاعمُ أنَّ ذلك في شأن العشق ، وصنَّف بعضهم كتابا في العشق ، وذكر فيه عشق الأنبياء ، وذكر هذه الواقعة ، وهذا من جهلِ هذا القائل بالقرآن وبالرُّسُل ، وتحمِيلهِ كلامَ الله ما لا يحتمِلُه ، ونسبتِه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ما برَّأَه الله منه ، فإنَّ زينبَ بنت جحش كانت تحتَ زيدِ بن حارثةَ ، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد تبنَّاه ، وكان يُدعى زيد بن محمد ، وكانت زينبُ فيها شَممٌ وترفُّع عليه ، فشاور رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في طلاقها ، فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : " أَمْسِكْ عليكَ زوجَكَ واتَّقِ الله " ، وأخفى في نفسه أن يتزوَّجَها إن طلَّقها زيد ، وكان يخشى من قالةِ الناس أنه تزوَّج امرأة ابنه ، لأن زيدا كان يُدعى [1/196] ابنَه ، فهذا هو الذي أخفاه في نفسه ، وهذه هي الخشية من الناس التي وقعت له ، ولهذا ذكر سبحانه هذه الآية يُعَدِّدُ فيها نعمه عليه لا يُعاتبه فيها ، وأعلمه أنه لا ينبغي له أن يخشى الناسَ فيما أحلَّ الله له ، وأنَّ اللهَ أحق أن يخشاه ، فلا يتحرَّج ما أحَلَّه له لأجل قول الناس ، ثم أخبره أنه سبحانه زوَّجه إيَّاها بعد قضاء زيدٌ وطرَه منها لتقتدي أُمَّتُه به في ذلك ، ويتزوج الرجل بامرأةِ ابنه من التبنّي ، لا امرأةِ ابنه لِصُلبه ، ولهذا قال في آية التحريم : وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وقال في هذه السورة : مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وقال في أولها : وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ فتأمَّلْ هذا الذبَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودَفْع طعنِ الطاعنين عنه ، وبالله التوفيق .
نعم ، كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ نساءه ، وكان أحبَّهن إليه عائشةُ - رضي الله عنها - ولم تكن تبلُغُ محبتُه لها ولا لأحد سِوَى ربه نهايةَ الحب ، بل صح أنه قال : " لو كنتُ مُتَّخِذا من أهل الأرض خليلا لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خليلا " ، وفي لفظ : " وإنَّ صَاحِبَكُم خَلِيلُ الرَّحْمَن " .