239 - وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ : لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ .


قَالَ : وَبِإِسْنَادِهِ ، وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمُنَاسَبَةُ الْمَذْكُورَةُ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ التَّكَلُّفِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ نُسْخَةَ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَنُسْخَةِ مَعْمَرٍ ، عَنْ هَمَّامٍ عَنْهُ ، وَلِهَذَا قَلَّ حَدِيثٌ يُوجَدُ فِي هَذِهِ إِلَّا وَهُوَ فِي الْأُخْرَى ، وَقَدِ اشْتَمَلَتَا عَلَى أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ غَالِبَهَا وَابْتِدَاءُ كُلِّ نُسْخَةٍ مِنْهُمَا حَدِيثُ " نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ " ، فَلِهَذَا صَدَّرَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِيمَا أَخْرَجَهُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَسَلَكَ مُسْلِمٌ فِي نُسْخَةِ هَمَّامٍ طَرِيقًا أُخْرَى فَيَقُولُ فِي كُلِّ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مِنْهَا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَذْكُرُ الْحَدِيثَ الَّذِي يُرِيدُهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ مِنْ أَثْنَاءِ النُّسْخَةِ لَا أَوَّلِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ : ( الَّذِي لَا يَجْرِي ) قِيلَ : هُوَ تَفْسِيرٌ لِلدَّائِمِ وَإِيضَاحٌ لِمَعْنَاهُ ، وَقِيلَ : احْتَرَزَ بِهِ عَنْ رَاكِدٍ يَجْرِي بَعْضُهُ كَالْبِرَكِ ، وَقِيلَ : احْتَرَزَ بِهِ عَنِ الْمَاءِ الدَّائِمِ ; لِأَنَّهُ جَارٍ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ سَاكِنٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَيْدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّتِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا حَيْثُ جَاءَ فِيهَا بِلَفْظِ " الرَّاكِدِ " بَدَلَ الدَّائِمِ ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : الدَّائِمُ مِنْ حُرُوفِ الْأَضْدَادِ يُقَالُ لِلسَّاكِنِ وَالدَّائِرِ ، وَمِنْهُ أَصَابَ الرَّأْسَ دُوَامٌ أَيْ دُوَارٌ ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ : " الَّذِي لَا يَجْرِي " صِفَةٌ مُخَصِّصَةٌ لِأَحَدِ مَعْنَى الْمُشْتَرَكِ ، وَقِيلَ : الدَّائِمُ وَالرَّاكِدُ مُقَابِلَانِ لِلْجَارِي ، لَكِنِ الدَّائِمُ الَّذِي لَهُ نَبْعٌ وَالرَّاكِدُ الَّذِي لَا نَبْعَ لَهُ .
قَوْلُهُ : ( ثُمَّ يَغْتَسِلُ ) بِضَمِّ اللَّامِ عَلَى الْمَشْهُورِ ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ : يَجُوزُ الْجَزْمُ عَطْفًا عَلَى يَبُولَنَّ ; لِأَنَّهُ [1/414] مَجْزُومُ الْمَوْضِعِ بِلَا النَّاهِيَةِ ، وَلَكِنَّهُ بُنِيَ عَلَى الْفَتْحِ لِتَوْكِيدِهِ بِالنُّونِ ، وَمَنَعَ ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ فَقَالَ : لَوْ أَرَادَ النَّهْيَ لَقَالَ : ثُمَّ لَا يَغْتَسِلَنَّ ، فَحِينَئِذٍ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ فِي النَّهْيِ عَنْهُمَا ; لِأَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي تَوَارَدَا عَلَيْهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمَاءُ ، قَالَ : فَعُدُولُهُ عَنْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْعَطْفَ ، بَلْ نَبَّهَ عَلَى مَآلِ الْحَالِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا بَالَ فِيهِ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَضْرِبَنَّ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْأَمَةِ ثُمَّ يُضَاجِعُهَا ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ بِالْجَزْمِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنِ الضَّرْبِ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي مَآلِ حَالِهِ إِلَى مُضَاجَعَتِهَا فَتَمْتَنِعُ لِإِسَاءَتِهِ إِلَيْهَا فَلَا يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُهُ ، وَتَقْدِيرُ اللَّفْظِ : ثُمَّ هُوَ يُضَاجِعُهَا ، وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ " ثُمَّ هُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهُ " وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْكِيدِ النَّهْيِ أَنْ لَا يُعْطَفَ عَلَيْهِ نَهْيٌ آخَرُ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِلتَّأْكِيدِ فِي أَحَدِهِمَا مَعْنًى لَيْسَ لِلْآخَرِ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَلَا يَجُوزُ النَّصْبُ ، إِذْ لَا تُضْمَرُ أَنْ بَعْدَ ثُمَّ ، وَأَجَازَهُ ابْنُ مَالِكٍ بِإِعْطَاءِ ثُمَّ حُكْمَ الْوَاوِ ، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ دُونَ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْأَحْكَامِ الْمُتَعَدِّدَةِ لَفْظٌ وَاحِدٌ ، فَيُؤْخَذُ النَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ إِنْ ثَبَتَتْ رِوَايَةُ النَّصْبِ ، وَيُؤْخَذُ النَّهْيُ عَنِ الْإِفْرَادِ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ .
قُلْتُ : وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ " نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ " ، وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي السَّائِبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ : " لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ " وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ النَّهْيَ عَنْهُمَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ وَلَفْظُهُ : " لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ " ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ; لِأَنَّ الْبَوْلَ يُنَجِّسُ الْمَاءَ فَكَذَلِكَ الِاغْتِسَالُ ، وَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا مَعًا وَهُوَ لِلتَّحْرِيمِ فَيَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ فِيهِمَا ، وَرُدَّ بِأَنَّهَا دَلَالَةُ اقْتِرَانٍ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهَا فَلَا يَلْزَمُ التَّسْوِيَةُ ، فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنَ الْبَوْلِ لِئَلَّا يُنَجِّسَهُ ، وَعَنِ الِاغْتِسَالِ فِيهِ لِئَلَّا يَسْلُبَهُ الطَّهُورِيَّةَ ، وَيَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ : " كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قَالَ : يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الِانْغِمَاسِ فِيهِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُسْتَعْمَلًا فَيَمْتَنِعُ عَلَى الْغَيْرِ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَالصَّحَابِيُّ أَعْلَمُ بِمَوَارِدِ الْخِطَابِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ غَيْرُ طَهُورٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى طَهَارَتِهِ ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَاءِ الَّذِي لَا يَجْرِي فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ بَوْلِ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَبُولَ فِي الْمَاءِ أَوْ يَبُولَ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ يَصُبَّهُ فِيهِ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَاءِ الْقَلِيلِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي حَدِّ الْقَلِيلِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ إِلَّا التَّغَيُّرَ وَعَدَمَهُ ، وَهُوَ قَوِيٌّ ، لَكِنَّ الْفَصْلَ بِالْقُلَّتَيْنِ أَقْوَى لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ فِيهِ ، وَقَدِ اعْتَرَفَ الطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِذَلِكَ لَكِنَّهُ اعْتَذَرَ عَنِ الْقَوْلِ بِهِ بِأَنَّ الْقُلَّةَ فِي الْعُرْفِ تُطْلَقُ عَلَى الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ كَالْجَرَّةِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنَ الْحَدِيثِ تَقْدِيرُهُمَا فَيَكُونُ مُجْمَلًا فَلَا يُعْمَلُ بِهِ ، وَقَوَّاهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ ، لَكِنِ اسْتَدَلَّ لَهُ غَيْرُهُمَا فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ : الْمُرَادُ الْقُلَّةُ الْكَبِيرَةُ ، إِذْ لَوْ أَرَادَ الصَّغِيرَةَ لَمْ يَحْتَجْ لِذِكْرِ الْعَدَدِ ، فَإِنَّ الصَّغِيرَتَيْنِ قَدْرُ وَاحِدَةٍ كَبِيرَةٍ ، وَيُرْجَعُ فِي الْكَبِيرَةِ إِلَى الْعُرْفِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّارِعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَرَكَ تَحْدِيدَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْسِعَةِ ، وَالْعِلْمُ مُحِيطٌ بِأَنَّهُ مَا خَاطَبَ الصَّحَابَةَ إِلَّا بِمَا يَفْهَمُونَ فَانْتَفَى الْإِجْمَالُ ، لَكِنْ لِعَدَمِ التَّحْدِيدِ وَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي مِقْدَارِهِمَا عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ حَكَاهَا ابْنُ الْمُنْذِرِ ، ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ تَحْدِيدُهُمَا بِالْأَرْطَالِ ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا ، وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ فِيمَا لَا يَتَغَيَّرُ وَهُوَ قَوْلُ الْبَاقِينَ فِي [1/415] الْكَثِيرِ ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّحْرِيمِ مُطْلَقًا عَلَى قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ ; لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ .
قَوْلُهُ : ( ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ ) كَذَا هُنَا ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ " ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ " ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ ، وَكُلٌّ مِنَ اللَّفْظَيْنِ يُفِيدُ حُكْمًا بِالنَّصِّ وَحُكْمًا بِالِاسْتِنْبَاطِ قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِلَفْظِ " فِيهِ " تَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الِانْغِمَاسِ بِالنَّصِّ وَعَلَى مَنْعِ التَّنَاوُلِ بِالِاسْتِنْبَاطِ ، وَالرِّوَايَةَ بِلَفْظِ " مِنْهُ " بِعَكْسِ ذَلِكَ ، وَكُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .