17 - بَاب فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ
25 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْحٍ الْحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ .


[1/95] قَوْلُهُ : ( بَابٌ ) هُوَ مُنَوَّنٌ فِي الرِّوَايَةِ ، وَالتَّقْدِيرُ : هَذَا بَابٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ تَابُوا ، وَتَجُوزُ الْإِضَافَةِ أَيْ : بَابُ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ . وَإِنَّمَا جُعِلَ الْحَدِيثُ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّوْبَةِ فِي الْآيَةِ الرُّجُوعُ عَنِ الْكُفْرِ إِلَى التَّوْحِيدِ ، فَفَسَّرَهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . وَبَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ مُنَاسَبَةٌ أُخْرَى ; لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ فِي الْآيَةِ وَالْعِصْمَةَ فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَمُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِأَبْوَابِ الْإِيمَانِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ الرَّدُّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْأَعْمَالِ .
قَوْلُهُ : ( حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ) زَادَ ابْنُ عَسَاكِرَ " الْمُسْنَدِيُّ " وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ كَمَا مَضَى ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْحٍ ، هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ .
قَوْلُهُ : ( الْحَرَمِيُّ ) هُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ ، وَلِلْأَصِيلِيِّ حَرَمِيٌّ ، وَهُوَ اسْمٌ بِلَفْظِ النَّسَبِ تُثْبَتُ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَتُحْذَفُ ، مِثْلُ مَكِّيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْآتِي بَعْدُ ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ : أَبُو رَوْحٍ كُنْيَتُهُ ، وَاسْمُهُ ثَابِتٌ وَالْحَرَمِيُّ نِسْبَتُهُ ، كَذَا قَالَ . وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي جَعْلِهِ اسْمَهُ نِسْبَتَهُ ، وَالثَّانِي فِي جَعْلِهِ اسْمَ جَدِّهِ اسْمَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ وَاسْمُ أَبِي حَفْصَةَ نَابِتٌ ، وَكَأَنَّهُ رَأَى فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ وَاسْمُهُ نَابِتٌ فَظَنَّ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى حَرَمِيٍّ لِأَنَّهُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى أَبِي حَفْصَةَ لِأَنَّهُ الْأَقْرَبُ ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ عِنْدَهُ وُرُودُهُ فِي هَذَا السَّنَدِ " الْحَرَمِيُّ " بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَلَيْسَ هُوَ مَنْسُوبًا إِلَى الْحَرَمِ بِحَالٍ لِأَنَّهُ بَصْرِيُّ الْأَصْلِ وَالْمَوْلِدِ وَالْمَنْشَأِ وَالْمَسْكَنِ وَالْوَفَاةِ . وَلَمْ يَضْبِطْ نَابِتًا كَعَادَتِهِ وَكَأَنَّهُ ظَنَّهُ بِالْمُثَلَّثَةِ كَالْجَادَّةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَوَّلَهُ نُونٌ .
قَوْلُهُ : ( عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ ) زَادَ الْأَصِيلِيُّ : يَعْنِي ابْنَ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَبْنَاءِ عَنِ الْآبَاءِ ، وَهُوَ كَثِيرٌ لَكِنَّ رِوَايَةَ الشَّخْصِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَقَلُّ ، وَوَاقِدٌ هُنَا رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّ أَبِيهِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبُ الْإِسْنَادِ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ شُعْبَةُ ، عَنْ وَاقِدٍ ، قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ ، وَهُوَ عَنْ شُعْبَةَ عَزِيزٌ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ عَنْهُ حَرَمِيٌّ هَذَا وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ ، وَهُوَ عَزِيزٌ عَنْ حَرَمِيٍّ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ الْمُسْنَدِيُّ ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ ، وَمِنْ جِهَةِ إِبْرَاهِيمَ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُمْ . وَهُوَ غَرِيبٌ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ ، شَيْخُ مُسْلِمٍ ، فَاتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ مَعَ غَرَابَتِهِ ، وَلَيْسَ هُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَلَى سَعَتِهِ . وَقَدِ اسْتَبْعَدَ قَوْمٌ صِحَّتَهُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَوْ كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ لَمَا تَرَكَ أَبَاهُ يُنَازِعُ أَبَا بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ ، وَلَوْ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ لَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُقِرُّ عُمَرَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ [1/96] أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَيَنْتَقِلُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا النَّصِّ إِلَى الْقِيَاسِ ، إِذْ قَالَ : لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ; لِأَنَّهَا قَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ . وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ أَنْ يَكُونَ اسْتَحْضَرَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحْضِرًا لَهُ فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ حَضَرَ الْمُنَاظَرَةَ الْمَذْكُورَةَ ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهُ لَهُمَا بَعْدُ ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ أَبُو بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ بِالْقِيَاسِ فَقَطْ ، بَلْ أَخَذَهُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالزَّكَاةُ حَقُّ الْإِسْلَامِ . وَلَمْ يَنْفَرِدِ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ . بَلْ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا بِزِيَادَةِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِيهِ ، كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ .
وَفِي الْقِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ تَخْفَى عَلَى بَعْضِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَيَطَّلِعُ عَلَيْهَا آحَادُهُمْ ، وَلِهَذَا لَا يُلْتَفَتُ إِلَى الْآرَاءِ وَلَوْ قَوِيَتْ مَعَ وُجُودِ سُنَّةٍ تُخَالِفُهَا ، وَلَا يُقَالُ كَيْفَ خَفِيَ ذَا عَلَى فُلَانٍ ؟ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
قَوْلُهُ : ( أُمِرْتُ ) أَيْ : أَمَرَنِي اللَّهُ ; لِأَنَّهُ لَا آمِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا اللَّهُ ، وَقِيَاسُهُ فِي الصَّحَابِيِّ إِذَا قَالَ أُمِرْتُ ، فَالْمَعْنَى أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَمَرَنِي صَحَابِيٌّ آخَرُ لِأَنَّهُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ لَا يَحْتَجُّونَ بِأَمْرِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ ، وَإِذَا قَالَهُ التَّابِعِيُّ احْتُمِلَ . وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنِ اشْتَهَرَ بِطَاعَةِ رَئِيسٍ إِذَا قَالَ ذَلِكَ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْآمِرَ لَهُ هُوَ ذَلِكَ الرَّئِيسُ .
قَوْلُهُ : ( أَنْ أُقَاتِلَ ) أَيْ : بِأَنْ أُقَاتِلَ ، وَحَذْفُ الْجَارِّ مِنْ " أَنْ " كَثِيرٌ .
قَوْلُهُ : ( حَتَّى يَشْهَدُوا ) جُعِلَتْ غَايَةُ الْمُقَاتَلَةِ وُجُودَ مَا ذُكِرَ ، فَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مَنْ شَهِدَ وَأَقَامَ وَآتَى عُصِمَ دَمُهُ وَلَوْ جَحَدَ بَاقِيَ الْأَحْكَامِ ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالرِّسَالَةِ تَتَضَمَّنُ التَّصْدِيقَ بِمَا جَاءَ بِهِ ، مَعَ أَنَّ نَصَّ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ : " إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ " يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَمْ يَكْتَفِ بِهِ وَنَصَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لِعِظَمِهِمَا وَالِاهْتِمَامِ بِأَمْرِهِمَا ; لِأَنَّهُمَا أُمَّا الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ .
قَوْلُهُ : ( وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ) أَيْ : يُدَاوِمُوا عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا بِشُرُوطِهَا ، مِنْ قَامَتِ السُّوقُ إِذَا نَفَقَتْ ، وَقَامَتِ الْحَرْبُ إِذَا اشْتَدَّ الْقِتَالُ . أَوِ الْمُرَادُ بِالْقِيَامِ الْأَدَاءُ - تَعْبِيرًا عَنِ الْكُلِّ بِالْجُزْءِ - إِذِ الْقِيَامُ بَعْضُ أَرْكَانِهَا . وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضُ مِنْهَا ، لَا جِنْسُهَا ، فَلَا تَدْخُلْ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ مَثَلًا وَإِنْ صَدَقَ اسْمُ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا . وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : إِنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَمْدًا يُقْتَلُ . ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ . وَسُئِلَ الْكِرْمَانِيُّ هُنَا عَنْ حُكْمِ تَارِكِ الزَّكَاةِ ، وَأَجَابَ بِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْغَايَةِ ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ فِي الْمُقَاتَلَةِ ، أَمَّا فِي الْقَتْلِ فَلَا . وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ يُمْكِنُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ قَهْرًا ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ ، فَإِنِ انْتَهَى إِلَى نَصْبِ الْقِتَالِ لِيَمْنَعَ الزَّكَاةِ قُوتِلَ ، وَبِهَذِهِ الصُّورَةِ قَاتَلَ الصِّدِّيقُ مَانِعِي الزَّكَاةِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ قَتَلَ أَحَدًا مِنْهُمْ صَبْرًا . وَعَلَى هَذَا فَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ نَظَرٌ ; لِلْفَرْقِ بَيْنَ صِيغَةِ أُقَاتِلُ وَأَقْتُلُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ أَطْنَبَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ : لَا يَلْزَمُ مِنْ إِبَاحَةِ الْمُقَاتَلَةِ إِبَاحَةُ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْمُقَاتَلَةَ مُفَاعَلَةٌ تَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الْقِتَالِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْقَتْلُ . وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ الْقِتَالُ مِنَ الْقَتْلِ بِسَبِيلٍ ، قَدْ يَحِلُّ قِتَالُ الرَّجُلِ وَلَا يَحِلُّ قَتْلُهُ .
[1/97] قَوْلُهُ : ( فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ) فِيهِ التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ عَمَّا بَعْضُهُ قَوْلٌ ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ ، وَإِمَّا عَلَى إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَعَمِّ ، إِذِ الْقَوْلُ فِعْلُ اللِّسَانِ .
قَوْلُهُ : ( عَصَمُوا ) أَيْ : مَنَعُوا ، وَأَصْلُ الْعِصْمَةِ مِنَ الْعِصَامِ وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ فَمُ الْقِرْبَةِ لِيَمْنَعَ سَيَلَانَ الْمَاءِ .
قَوْلُهُ : ( وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ) أَيْ : فِي أَمْرِ سَرَائِرِهِمْ ، وَلَفْظَةُ " عَلَى " مُشْعِرَةٌ بِالْإِيجَابِ ، وَظَاهِرُهَا غَيْرُ مُرَادٍ ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى اللَّامِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ ، أَيْ : هُوَ كَالْوَاجِبِ عَلَى اللَّهِ فِي تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْحُكْمِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ ، وَالِاكْتِفَاءُ فِي قَبُولِ الْإِيمَانِ بِالِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ خِلَافًا لِمَنْ أَوْجَبَ تَعَلُّمَ الْأَدِلَّةَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ . وَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَرْكُ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُقِرِّينَ بِالتَّوْحِيدِ الْمُلْتَزِمِينَ لِلشَّرَائِعِ ، وَقَبُولُ تَوْبَةِ الْكَافِرِ مِنْ كُفْرِهِ ، مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ كُفْرٍ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ . فَإِنْ قِيلَ : مُقْتَضَى الْحَدِيثِ قِتَالُ كُلِّ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ التَّوْحِيدِ ، فَكَيْفَ تُرِكَ قِتَالُ مُؤَدِّي الْجِزْيَةِ وَالْمُعَاهَدِ ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ ، أَحَدُهَا : دَعْوَى النَّسْخِ بِأَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ وَالْمُعَاهَدَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
ثَانِيهَا : أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَمْرِ حُصُولُ الْمَطْلُوبِ ، فَإِذَا تَخَلَّفَ الْبَعْضُ لِدَلِيلٍ لَمْ يَقْدَحْ فِي الْعُمُومِ .
ثَالِثُهَا : أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ فِي قَوْلِهِ : " أُقَاتِلَ النَّاسَ " أَيِ : الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ " . فَإِنْ قِيلَ : إِذَا تَمَّ هَذَا فِي أَهْلِ الْجِزْيَةِ لَمْ يَتِمَّ فِي الْمُعَاهَدِينَ وَلَا فِيمَنْ مَنَعَ الْجِزْيَةَ ، أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ فِي تَرْكِ الْمُقَاتَلَةِ رَفْعُهَا لَا تَأْخِيرُهَا مُدَّةً كَمَا فِي الْهُدْنَةِ ، وَمُقَاتَلَةُ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ بِدَلِيلِ الْآيَةِ .
رَابِعُهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا التَّعْبِيرَ عَنْ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَإِذْعَانَ الْمُخَالِفِينَ ، فَيَحْصُلُ فِي بَعْضٍ بِالْقَتْلِ ، وَفِي بَعْضٍ بِالْجِزْيَةِ ، وَفِي بَعْضٍ بِالْمُعَاهَدَةِ .
خَامِسُهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقِتَالِ هُوَ ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ ، مِنْ جِزْيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا . سَادِسُهَا : أَنْ يُقَالَ الْغَرَضُ مِنْ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ اضْطِرَارُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَسَبَبُ السَّبَبِ سَبَبٌ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يَلْتَزِمُوا مَا يُؤَدِّيهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَهَذَا أَحْسَنُ ، وَيَأْتِي فِيهِ مَا فِي الثَّالِثِ ، وَهُوَ آخِرُ الْأَجْوِبَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .