فصل
في هَدْيه - صلى الله عليه وسلم - في الشراب وآدابه
وأما هَدْيه في الشراب ، فمن أكمل هَدْي يحفظ به الصحة ، فإنه كان يشرب العسلَ الممزوجَ بالماء البارد ، وفي هذا مِن حفظ الصحة ما لا يَهتدي إلى معرفته إلا أفاضلُ الأطباء ، فإنَّ شُربه ولعقَه على الرِّيق يُذيب البلغم ، ويغسِلُ خَمْل المَعِدَة ، ويجلُو لزوجتها ، ويدفع عنها الفضلات ، ويُسخنها باعتدال ، ويفتحُ سددها ، ويفعل مثل ذلك بالكَبِد والكُلَى والمثَانة ، وهو أنفع للمَعِدَة من كل حلو دخلها ، وإنما يضر بالعَرَض لصاحب الصَّفراء لحدَّتِه وحِدَّة الصفراء ، فربما هيَّجها ، ودفعُ مضرَّته لهم بالخلِّ ، فيعودُ حينئذ لهم نافعا جدا ، وشربه أنفع من كثير من الأشربة المتخذة من السكر أو أكثرِها ، ولا سِيَّما لمن لم يعتد هذه الأشربة ، ولا ألِفَها طبعُه ، فإنه إذا شربها لا تلائمه ملاءمةَ العسل ، ولا قريبا منه ، والمحكَّمُ في ذلك العادة ، فإنها تهدم أُصولا ، وتبني أُصولا .
[1/166] وأما الشراب إذا جَمَعَ وصْفَيِ الحلاوة والبرودة ، فمن أنفع شيء للبدن ، ومن أكبر أسباب حفظ الصحة ، وللأرواح والقُوى ، والكبد والقلب ، عشقٌ شديدٌ له ، واستمدادٌ منه ، وإذا كان فيه الوصفانِ ، حصَلتْ به التغذيةُ ، وتنفيذُ الطعام إلى الأعضاء ، وإيصاله إليها أتمَّ تنفيذ .
والماء البارد رطب يقمع الحرارة ، ويحفظ على البدن رطوباته الأصلية ، ويرد عليه بدل ما تحلَّل منها ، ويُرقِّقُ الغِذاء ويُنفِذه في العروق .
واختلف الأطباء : هل يُغذّي البدن ؟ على قولين : فأثبتت طائفةٌ التغذية به بناءً على ما يشاهدونه من النمو والزيادة والقوة في البدن به ، ولا سِيَّما عند شدة الحاجة إليه .
قالوا : وبينَ الحيوانِ والنبات قدرٌ مشترك مِن وجوه عديدة منها : النموُّ والاغتذاءُ والاعتدال ، وفي النبات قوةُ حِسٍّ تُناسبه ، ولهذا كان غِذاءُ النبات بالماء ، فما يُنكر أن يكون للحيوان به نوعُ غذاء ، وأن يكون جزءا من غذائه التام .
قالوا : ونحن لا ننكر أنَّ قوة الغذاء ومعظمه في الطعام ، وإنما أنكرنا أن لا يكون للماء تغذية البتة . قالوا : وأيضا الطعام إنما يُغذّي بما فيه من المائية ، ولولاها لما حصلت به التغذيةُ .
قالوا : ولأن الماء مادة حياة الحيوان والنبات ، ولا ريب أنَّ ما كان أقربَ إلى مادة الشيء ، حصلت به التغذية ، فكيف إذا كانت مادته الأصلية ، قال الله تعالى : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ فكيف ننكِرُ حصولَ التغذية بما هو مادة الحياة على الإطلاق ؟
قالوا : وقد رأينا العطشان إذا حصل له الري بالماء البارد ، تراجعت إليه قواه ونشاطُه وحركته ، وصبرَ عن الطعام ، وانتفع بالقدر اليسير منه ، ورأينا العطشانَ لا ينتفِعُ بالقدرِ الكثير مِن الطعام ، ولا يجد به القوة والاغتذاءَ ، ونحن لا ننكِرُ أنَّ الماءَ يُنفِذُ الغذاء إلى أجزاء البدن ، وإلى جميع الأعضاء ، وأنه لا يتم أمر الغذاء إلا به ، وإنما ننكر على مَن سلب قوةَ التغذية عنه البتة ، ويكاد قولُه عندنا يدخُل في إنكار الأُمور الوجدانية .
وأنكرت طائفةٌ أُخرى حصولَ التغذية به ، واحتجَّت بأُمور يرجعُ حاصِلُها إلى عدم الاكتفاء به ، وأنه لا يقومُ مقام الطعام ، وأنه لا يزيد في نموِّ الأعضاء ، ولا [1/167] يخلف عليها بدل ما حلَّلتْه الحرارةُ ، ونحو ذلك مما لا ينكره أصحاب التغذية ، فإنهم يَجعلون تغذيته بحسب جوهره ، ولطافته ورقته ، وتغذيةُ كل شيء بحسبه ، وقد شُوهد الهواءُ الرَّطب البارد اللَّين اللَّذيذ يُغذّي بحسبه ، والرائحة الطيبة تُغذّي نوعا من الغذاء ، فتغذية الماء أظهر وأظهر .
والمقصودُ : أنه إذا كان باردا ، وخالطه ما يُحليه كالعسل أو الزبيب ، أو التمر أو السكر ، كان من أنفع ما يدخل البدن ، وحفِظَ عليه صحته ، فلهذا كان أحبُّ الشرابِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - البارِدَ الحلوَ . والماءُ الفاتِرُ ينفخ ، ويفعل ضدَّ هذه الأشياء .
ولما كان الماء البائت أنفعَ من الذي يُشرب وقتَ استقائه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد دخل إلى حائط أبي الهيثم بن التيهان : " هَلْ من ماءٍ بات في شَـنَّة ؟ " فأتاه به ، فشرب منه ، رواه البخاري ولفظُه : " إنْ كان عِنْدَكَ ماءٌ باتَ في شَنَّة وإلا كَرَعْنَا " .
والماء البائت بمنزلة العجين الخمير ، والذي شُرِب لوقته بمنزلة الفطير ، وأيضا فإنَّ الأجزاء الترابية والأرضية تُفارقه إذا بات ، وقد ذُكِر أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُسْتَعْذَبُ له الماء ، ويَختار البائت منه . وقالت عائشة : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُستقى له الماء العذب مِن بئر السقيا .
والماء الذي في القِرَب والشنان ، ألذُّ من الذي يكون في آنية الفَخَّار والأحجار وغيرهما ، ولا سِيَّما أسقيةَ الأدمَ ، ولهذا التَمسَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ماءً بات في شَـنَّة دون غيرها من الأواني ، وفي الماء إذا وُضع في الشِّنان ، وقِرب الأدم خاصةٌ لطيفةٌ لما فيها من المسامِّ المنفتحةِ التي يرشَح منها الماء ، ولهذا كان الماء في الفَخَّار الذي يرشح ألذُّ منه وأبردُ في الذي لا يرشَح ، فصلاةُ الله وسلامه على أكمل الخلق ، وأشرفهم نفسا ، وأفضلهم هَدْيا في كل شيء ، لقد دَلَّ أُمته على أفضل الأُمور وأنفعها لهم في القلوب والأبدان ، والدُّنيا والآخرة .
[1/168] قالت عائشةُ : كان أحبُّ الشرابِ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحُلوَ البارِدَ . وهذا يحتمل أن يريد به الماءَ العذبَ ، كمياه العيون والآبار الحلوة ، فإنه كان يُستعذَب له الماء . ويحتملُ أن يريد به الماءَ الممزوجَ بالعسل ، أو الذي نُقِعَ فيه التمرُ أو الزبيبُ . وقد يُقال وهو الأظهر : يعمُّهما جميعا .
وقولُه في الحديث الصحيح : " إن كان عندكَ ماء باتَ في شَنٍ وإلا كَرَعْنَا " ، فيه دليلٌ جواز الكَرْع ، وهو الشرب بالفم من الحوضِ والمِقْراةِ ونحوها ، وهذه والله أعلم واقعةُ عَيْن دعت الحاجةُ فيها إلى الكَرْع بالفم ، أو قاله مبيِّنا لجوازه ، فإنَّ مِن الناس مَنْ يكرهُه ، والأطباءُ تكادُ تُحَرِّمُه ، ويقولون : إنه يضرُّ بالمَعِدَة ، وقد رُوي في حديث لا أدري ما حالُه عن ابن عمر ، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا أنْ نشرب على بطوننا ، وهو الكَرْعُ ، ونهانا أنْ نغترِفَ باليد الواحدة وقال : " لا يَلَغْ أحدُكُم كَمَا يَلَغُ الكلبُ ، ولا يَشْرَبْ باللَّيْلِ مِن إنَاءٍ حَتَّى يَختبِرَه إلا أنْ يكونَ مُخَمَّرا " .
وحديثُ البخاري أصحُّ من هذا ، وإن صحَّ ، فلا تعارُضَ بينهما ، إذ لعلَّ الشربَ باليد لم يكن يمكن حينئذٍ ، فقال : ( وإلا كَرَعْنا ) ، والشربُ بالفم إنما يضرُّ إذا انكبَّ الشارِبُ على وجهه وبطنه ، كالذي يشربُ من النهر والغدِير ، فأمَّا إذا شرب مُنتصِبا بفمه من حوض مرتفع ونحوِه ، فلا فَرْقَ بين أن يشرب بيده أو بفمه .