52 - بَاب كَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ
432 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي نَافِعٌ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا .


قَوْلُهُ : ( بَابُ كَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ ) اسْتَنْبَطَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ : وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا ، أَنَّ الْقُبُورَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلْعِبَادَةِ فَتَكُونُ الصَّلَاةُ فِيهَا مَكْرُوهَةً ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ ، وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا : الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ ، وَحَكَمَ مَعَ ذَلِكَ بِصِحَّتِهِ الْحَاكِمُ ، وَابْنُ حِبَّانَ .
قَوْلُهُ : ( حَدَّثَنَا يَحْيَى ) هُوَ الْقَطَّانُ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ .
قَوْلُهُ : ( مِنْ صَلَاتِكُمْ ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ ، وَالْمُرَادُ النَّوَافِلُ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا : إِذَا قَضَى أَحَدَكُمُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ ، قُلْتُ : وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفِي الِاحْتِمَالَ . وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ : اجْعَلُوا بَعْضَ فَرَائِضِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لِيَقْتَدِيَ بِكُمْ مَنْ لَا يَخْرُجُ إِلَى الْمَسْجِدِ مِنْ نِسْوَةٍ وَغَيْرِهِنَّ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الرَّاجِحُ .
وَقَدْ بَالَغَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ فَقَالَ : لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْفَرِيضَةِ ، وَقَدْ نَازَعَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْمُصَنِّفَ أَيْضًا فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فَقَالَ : الْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي الْقَبْرِ لَا فِي الْمَقَابِرِ . قُلْتُ : قَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ " الْمَقَابِرِ " كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ : لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ . وَقَالَ ابْنُ التِّينِ : تَأَوَّلَهُ الْبُخَارِيُّ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ ، وَتَأَوَّلَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا فِيهِ النَّدْبُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ إِذِ الْمَوْتَى لَا يُصَلُّونَ ، كَأَنَّهُ قَالَ : " لَا تَكُونُوا كَالْمَوْتَى الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ ، وَهِيَ الْقُبُورُ " . قَالَ : فَأَمَّا جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ أَوِ الْمَنْعِ مِنْهُ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ذَلِكَ . قُلْتُ : إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ فَمُسَلَّمٌ ، وَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ ذَلِكَ مُطْلَقًا فَلَا ، فَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ اسْتِنْبَاطِهِ . وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ تَبَعًا لِلْمَطَالِعِ : إِنَّ تَأْوِيلَ الْبُخَارِيِّ مَرْجُوحٌ ، وَالْأَوْلَى قَوْلُ مَنْ قَالَ : مَعْنَاهُ إِنَّ الْمَيِّتَ لَا يُصَلَّى فِي قَبْرِهِ .
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَقْبَرَةَ لَيْسَتْ بِمَوْضِعِ الصَّلَاةِ ، وَكَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَالْخَطَّابِيُّ ، وَقَالَ أَيْضًا : يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ : لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ وَطَنًا لِلنَّوْمِ فَقَطْ لَا تُصَلُّونَ فِيهَا فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ وَالْمَيِّتَ لَا يُصَلِّي . وَقَالَ التُّورْبَشْتِيُّ : حَاصِلُ مَا يَحْتَمِلُهُ أَرْبَعَةُ مَعَانٍ ، فَذَكَرَ الثَّلَاثَةَ الْمَاضِيَةَ وَرَابِعُهَا : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ فِي بَيْتِهِ جَعَلَ نَفْسَهُ كَالْمَيِّتِ وَبَيْتَهُ كَالْقَبْرِ . قُلْتُ : وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ " مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ كَمَثَلِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ " . قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَأَمَّا مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ دَفْنِ [1/631] الْمَوْتَى فِي الْبُيُوتِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ، فَقَدْ دُفِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهِ الَّذِي كَانَ يَسْكُنُهُ أَيَّامَ حَيَاتِهِ ، قُلْتُ : مَا ادَّعَى أَنَّهُ تَأْوِيلٌ هُوَ ظَاهِرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ وَلَا سِيَّمَا أنْ جَعَلَ النَّهْيَ حُكْمًا مُنْفَصِلًا عَنِ الْأَمْرِ . وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى رَدِّهِ تَعَقَّبَهُ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ : لَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يُدْفَنُونَ حَيْثُ يَمُوتُونَ . قُلْتُ : هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوعًا : مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلَّا دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ ، وَفِي إِسْنَادِهِ حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى مُرْسَلَةٌ ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَشْجَعِيِّ الصَّحَابِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : " فَأَيْنَ يُدْفَنُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ قَالَ : فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَبَضَ اللَّهُ فِيهِ رُوحَهُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ رُوحَهُ إِلَّا فِي مَكَانٍ طَيِّبٍ " إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ . وَالَّذِي قَبْلَهُ أَصْرَحُ فِي الْمَقْصُودِ . وَإِذَا حُمِلَ دَفْنُهُ فِي بَيْتِهِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لَمْ يَبْعُدْ نَهْيُ غَيْرِهِ عَنْ ذَلِكَ ، بَلْ هُوَ مُتَّجَهٌ ؛ لِأَنَّ اسْتِمْرَارَ الدَّفْنِ فِي الْبُيُوتِ رُبَّمَا صَيَّرَهَا مَقَابِرَ فَتَصِيرُ الصَّلَاةُ فِيهَا مَكْرُوهَةً ، وَلَفْظُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَصْرَحُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ : لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ الدَّفْنِ فِي الْبُيُوتِ مُطْلَقًا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .