كمأة : ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " ، أخرجاه في ( الصحيحين ) .
[1/259] قال ابن الأعرابي : الكمأة : جمع ، واحده كمء ، وهذا خلاف قياس العربية ، فإن ما بينه وبين واحده التاء ، فالواحد منه بالتاء ، وإذا حذفت كان للجمع . وهل هو جمع ، أو اسم جمع ؟ على قولين مشهورين ، قالوا : ولم يخرج عن هذا إلا حرفان : كمأة وكمء ، وجبأة وجبء ، وقال غير ابن الأعرابي : بل هي على القياس : الكمأة للواحد ، والكمء للكثير ، وقال غيرهما : الكمأة تكون واحدا وجمعا .
واحتج أصحاب القول الأول بأنهم قد جمعوا كمئا على أكمؤ ، قال الشاعر :
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا
ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
وهذا يدل على أن ( كمء ) مفرد ، ( وكمأة ) جمع .
والكمأة تكون في الأرض من غير أن تزرع ، وسميت كمأة لاستتارها ، ومنه كمأ الشهادة : إذا سترها وأخفاها ، والكمأة مخفية تحت الأرض لا ورق لها ، ولا ساق ، ومادتها من جوهر أرضي بخاري محتقن في الأرض نحو سطحها يحتقن ببرد الشتاء ، وتنميه أمطار الربيع ، فيتولد ويندفع نحو سطح الأرض متجسدا ، ولذلك يقال لها : جدري الأرض ، تشبيها بالجدري في صورته ومادته ، لأن مادته رطوبة دموية ، فتندفع عند سن الترعرع في الغالب ، وفي ابتداء استيلاء الحرارة ، ونماء القوة .
وهي مما يوجد في الربيع ، ويؤكل نيئا ومطبوخا ، وتسميها العرب : نبات الرعد لأنها تكثر بكثرته ، وتنفطر عنها الأرض ، وهي من أطعمة أهل البوادي ، وتكثر بأرض العرب ، وأجودها ما كانت أرضها رملية قليلة الماء .
وهي أصناف : منها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة يحدث الاختناق .
وهي باردة رطبة في الدرجة الثالثة ، رديئة للمعدة ، بطيئة الهضم ، وإذا أدمنت ، أورثت القولنج والسكتة والفالج ، ووجع المعدة ، وعسر البول ، والرطبة أقل ضررا من اليابسة ، ومن أكلها فليدفنها في الطين الرَّطب ، ويَسلِقها بالماء والملح والصَّعْتر ، ويأكلها بالزيت والتوابِل الحارَّة ، لأن جوهرها أرضي غليظ ، وغِذاءَها رديء ، لكن فيها جوهر مائي لطيف يدل على خفتها ، والاكتحال بها نافع من ظلمة البصر والرَّمد الحار ، وقد اعترف فضلاء الأطباء بأنَّ ماءها يجلو العَيْن . وممن ذكره المسيحي ، وصاحب القانون ، وغيرهما .
[1/260] وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الكَمْأَة من المَنِّ ) ، فيه قولان :
أحدهما : أنَّ المنَّ الذي أُنزل على بني إسرائيل لم يكن هذا الحلو فقط ، بل أشياءُ كثيرة مَنَّ الله عليهم بها من النبات الذي يُوجد عفوا من غير صنعة ولا عِلاج ولا حرث ، فإن المن مصدر بمعنى المفعول أي ( ممنون ) به ، فكل ما رزقه الله العبد عفوا بغير كسب منه ولا علاج ، فهو مَنٌّ محضٌ ، وإن كانت سائر نعمه مَنّا منه على عبده ، فخصَّ منها ما لا كسب له فيه ، ولا صُنعَ باسم ( المنِّ ) ، فإنه مَنٌّ بلا واسطة العبد ، وجعل سبحانه قُوتَهم بالتِّيه ( الكمأة ) ، وهي تقومُ مقام الخبز ، وجعل أُدمهم ( السَّلْوى ) ، وهو يقوم مقام اللَّحم ، وجعل حَلواهم ( الطلَّ ) الذي ينزلُ على الأشجار يقوم لهم مقام الحلوى . فكَمُل عيشهُم .
وتأمل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الكمأة من المنِّ الذي أنزله الله على بني إسرائيل " فجعلها من جملته ، وفردا من أفراده ، والترنْجبين الذي يسقط على الأشجار نوع من المَنِّ ، ثم غلب استعمال المَنِّ عليه عُرْفا حادثا .
والقول الثاني : أنه شَبَّهَ الكمأةَ بالمَنِّ المُنَزَّل من السماء ، لأنه يُجمع من غير تعب ولا كلفة ولا زرع بِزر ولا سقي .
فإن قلت : فإن كان هذا شأنَ الكمأة ، فما بالُ هذا الضرر فيها ، ومن أين أتاها ذلك ؟ فاعلم أنَّ اللهَ سبحانه أتقن كُلَّ شيء صنعه ، وأحسن كُلَّ شيء خلقه ، فهو عند مبدأ خلقه بريء من الآفات والعلل ، تامُّ المنفعة لما هُيئ وخُلِقَ له ، وإنما تعرِضُ له الآفاتُ بعد ذلك بأُمور أخرى من مجاورة ، أو امتزاج واختلاط ، أو أسباب أُخَر تقتضي فسادَه ، فلو تُرِكَ على خِلقته الأصلية من غير تعلق أسباب الفساد به ، لم يفسد .
ومَنْ له معرفة بأحوال العالَم ومبدئه يعرِف أنَّ جميع الفساد في جَوِّه ونباته وحيوانه وأحوالِ أهله ، حادثٌ بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثَه ، ولم تزل أعمالُ بني آدَم ومخالفتُهم للرُّسُل تُحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام ، والأمراض ، والأسقام ، والطواعين ، والقحوط ، والجدوب ، وسلب بركات الأرض ، وثمارها ، ونباتها ، وسلب منافعها ، أو نقصانها أُمورا متتابعة يتلو بعضُهَا بعضا ، فإن لم يَتَّسِعْ علمك لهذا فاكتفِ بقوله تعالى : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [1/261] ، ونَزِّل هذه الآية على أحوالِ العالَم ، وطابِقْ بين الواقع وبينها ، وأنت ترى كيف تحدث الآفاتُ والعلل كل وقت في الثمار والزرع والحيوان ، وكيف يحدُث من تلك الآفات آفاتٌ أُخَرُ متلازمة ، بعضُها آخذ برقاب بعض ، وكُلَّما أحدث الناسُ ظلما وفجورا ، أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم ، وأهويتهم ومياههم ، وأبدانهم وخلقهم ، وصُورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات ، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم .
ولقد كانت الحبوب من الحِنطة وغيرها أكبرَ مما هي اليوم ، كما كانت البركةُ فيها أعظمَ . وقد روى الإمام أحمد بإسناده : أنه وجد في خزائن بعض بني أميةَ صرة فيها حِنطةٌ أمثال نوى التمر مكتوبٌ عليها : هذا كان ينبُت أيامَ العدل . وهذه القصة ، ذكرها في ( مسنده ) على أثر حديث رواه .
وأكثرُ هذه الأمراض والآفات العامة بقيةُ عذاب عُذِّبتْ به الأُممُ السالفة ، ثم بقيت منها بقية مُرصَدَةٌ لمن بقيت عليه بقيةٌ من أعمالهم ، حكما قسطا ، وقضاءً عدلا ، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا بقوله في الطاعون : " إنَّه بقيةُ رجز أو عذاب أُرسِلَ على بني إسرائيلَ " .
وكذلك سلَّط اللهُ سبحانه وتعالى الريحَ على قومٍ سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيام ، ثم أبقَى في العالَم منها بقيةً في تلك الأيام ، وفي نظيرها عِظةً وعِبرة .
وقد جعل اللهُ سبحانه أعمال البَرِّ والفاجر مقتضياتٍ لآثارها في هذا العالَم اقتضاءً لا بد منه ، فجعل منعَ الإحسان والزكاة والصدقة سببا لمنع الغَيْث من السماء ، والقحطِ والجَدْبِ ، وجعَلَ ظلمَ المساكين ، والبخسَ في المكاييل والموازين ، وتعدّي القَوِّي على الضعيف سببا لجَوْر الملوك والولاة الذين لا يَرحمون إن اسْتُرْحِموا ، ولا يَعْطِفُون إن استُعطِفُوا ، وهم في الحقيقة أعمالُ الرعايا ظهرت في صور وُلاتهم ، فإنَّ اللهَ سبحانه بحكمته وعدله يُظهِرُ للناس أعمالَهم في قوالِب وصورٍ تناسبها ، فتارةً بقحط وجدب ، وتارة بعدوٍّ ، وتارةً بولاة جائرين ، وتارةً بأمراضٍ عامة ، وتارةً بهُموم وآلام وغموم تحضُرها نفوسُهم لا ينفكُّونَ عنها ، وتارةً بمنع بركات السماء والأرض [1/262] عنهم ، وتارةً بتسليط الشياطين عليهم تَؤُزُّهم إلى أسباب العذاب أزَّا ، لِتَحِقَّ عليهم الكلمة ، وليصيرَ كل منهم إلى ما خُلِقَ له . والعاقل يُسَيِّر بصيرته بين أقطار العالَم ، فيُشاهدُه ، وينظر مواقعَ عدل الله وحكمته ، وحينئذ يَتَبيَّنُ له أنَّ الرُّسُلَ وأتباعَهُم خاصةً على سبيل النجاة ، وسائر الخلق على سبيل الهلاك سائرون ، وإلى دار البَوار صائرون ، واللهُ بالغُ أمرِه ، لا مُعَقِّبَ لحكمه ، ولا رادَ لأمره ، وبالله التوفيق .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الكمأة : " وماؤها شفاء للعَيْنِ " فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنَّ ماءَها يُخلَط في الأدوية التي يُعالَج بها العَيْنُ ، لا أنه يُستعمل وحده ، ذكره أبو عُبيد .
الثاني : أنه يُستعمل بحْتا بعد شَـيِّها ، واستقطار مائها ، لأنَّ النار تُلطِّفه وتُنضجه ، وتُذِيبُ فضلاتِه ورطوبتَه المؤذية ، وتُبقي المنافع .
الثالث : أنَّ المراد بمائها الماءُ الذي يحدث به من المطر ، وهو أولُ قَطْر ينزل إلى الأرض ، فتكون الإضافة إضافةَ اقتران ، لا إضافة جزء ، ذكره ابن الجوزي ، وهو أبعدُ الوجوه وأضعفها .
وقيل : إن استُعمل ماؤها لتبريد ما في العَيْن ، فماؤها مجرَّدا شفاء ، وإن كان لغير ذلك ، فمركَّب مع غيره .
وقال الغافقي : ماء الكمأة أصلح الأدوية للعَيْن إذا عُجِنَ به الإثمِد واكتُحِلَ به ، ويُقوّي أجفانها ، ويزيدُ الروحَ الباصرة قوةً وحِدَّة ، ويدفع عنها نزول النوازل .