20 - بَاب الْمَنُّ شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ
5708 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ ، قال : سَمِعْتُ عَمْرُو بْنَ حُرَيْثٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ . قَالَ شُعْبَةُ : وَأَخْبَرَنِي الْحَكَمُ ، عَنْ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ شُعْبَةُ : لَمَّا حَدَّثَنِي بِهِ الْحَكَمُ لَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ .


قَوْلُهُ : ( بَابُ الْمَنِّ شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ : " شِفَاءٌ مِنَ الْعَيْنِ " ، وَعَلَيْهَا شَرْحُ ابْنِ بَطَّالٍ ، وَيَأْتِي تَوْجِيهُهَا . وَفِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْجِيحِ الْقَوْلِ الصَّائِرِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَنِّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ الصِّنْفُ الْمَخْصُوصُ ومِنَ الْمَأْكُولِ ، لَا الْمَصْدَرُ الَّذِي بِمَعْنَى الِامْتِنَانِ ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى الْمَنِّ شِفَاءٌ ، لِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ أَنَّ الْكَمْأَةَ مِنْهُ ، وَفِيهَا شِفَاءٌ إِذَا ثَبَتَ الْوَصْفُ لِلْفَرْعِ كَانَ ثُبُوتُهُ لِلْأَصْلِ أَوْلَى .
قَوْلُهُ : ( عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ ) هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ ، وَصَرَّحَ بِهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ غُنْدَرٍ ، وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ هُوَ الْمَخْزُومِيُّ لَهُ صُحْبَةٌ .
قَوْلُهُ : ( سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ ) أَيِ ابْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْعَدَوِيِّ أَحَدَ الْعَشَرَةِ ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلٍ ابْنَ عَمِّ أَبِيهِ . كَذَا قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ وَمَنْ تَابَعَهُ ، وَخَالَفَهُمْ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْهُ ، فَقَالَ : " عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ أَبِيهِ " ، أَخْرَجَهُ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ السَّكَنِ فِي الصَّحَابَةِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي " الْأَفْرَادِ " وَقَالَ فِي " الْعِلَلِ " ، الصَّوَابُ رِوَايَةُ عَبْدِ الْمَلِكِ . وَقَالَ ابْنُ السَّكَنِ : أَظُنُّ عَبْدَ الْوَارِثِ أَخْطَأَ فِيهِ . وَقِيلَ : كَانَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ تَزَوَّجَ أُمَّ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ : " حَدَّثَنِي أَبِي " وَأَرَادَ زَوْجَ أُمِّهِ مَجَازًا فَظَنَّهُ الرَّاوِي أَبَاهُ حَقِيقَةً .
قَوْلُهُ : ( الْكَمْأَةُ ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَفِي الْعَامَّةِ مَنْ لَا يَهْمِزُهُ ، [10/173] وَاحِدَةُ الْكَمْءِ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ مِثْلِ تَمْرَةٍ وَتَمْرٍ ، وَعَكَسَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ ، فَقَالَ : الْكَمْأَةُ جَمْعُ الْكَمْء الْوَاحِدُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ ، قَالَ : وَلَمْ يَقَعْ فِي كَلَامِهِمْ نَظِيرُ هَذَا سِوَى خَبْأَةٍ وَخَبْءٍ . وَقِيلَ : الْكَمْأَةُ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدةِ وَعَلَى الْجَمْعِ ، وَقَدْ جَمَعُوهَا عَلَى أَكْمُؤٍ ، قَالَ الشَّاعِرُ :
وَلَقَدْ جَنَيْتُكَ أَكْمُؤًا وَعَسَاقِلَا .
وَالْعَسَاقِلُ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَقَافٍ وَلَامٍ الشَّرَابُ ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْأَكْمُؤَ مَحَلُّ وِجْدَانِهَا الْفَلَوَاتُ . وَالْكَمْأَةُ نَبَاتٌ لَا وَرَقَ لَهَا وَلَا سَاقَ ، تُوجَدُ فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُزْرَعَ . قِيلَ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاسْتِتَارِهَا ، يُقَالُ : كَمَأَ الشَّهَادَةَ إِذَا كَتَمَهَا . وَمَادَّةُ الْكَمْأَةِ مِنْ جَوْهَرِ أَرْضِي بُخَارَي يَحْتَقِنُ نَحْوَ سَطْحِ الْأَرْضِ بِبَرْدِ الشِّتَاءِ وَيُنَمِّيهِ مَطَرُ الرَّبِيعِ فَيَتَوَلَّدُ وَيَنْدَفِعُ مُتَجَسِّدًا ، وَلِذَلِكَ كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ يُسَمِّيهَا جُدَرِيَّ الْأَرْضِ تَشْبِيهًا لَهَا بِجُدَرِيِّ مَادَّةً وَصُورَةً ، لِأَنَّ مَادَّتَهُ رُطُوبَةٌ دَمَوِيَّةٌ تَنْدَفِعُ غَالِبًا عِنْدَ التَّرَعْرُعِ وَفِي ابْتِدَاءِ اسْتِيلَاءِ الْحَرَارَةِ وَنَمَاءِ الْقُوَّةِ وَمُشَابَهَتُهَا لَهُ فِي الصُّورَةِ ظَاهِرٌ . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا : الْكَمْأَةُ جُدَرِيُّ الْأَرْضِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ . الْحَدِيثَ . وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : كَثُرَتِ الْكَمْأَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَامْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْ أَكْلِهَا وَقَالُوا : هِيَ جُدَرِيُّ الْأَرْضِ ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَالَ : إِنَّ الْكَمْأَةَ لَيْسَتْ مِنْ جُدَرِيِّ الْأَرْضِ ، أَلَا إِنَّ الْكَمْأَةَ مِنَ الْمَنِّ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْكَمْأَةَ أَيْضًا بَنَاتَ الرَّعْدِ ؛ لِأَنَّهَا تَكْثُرُ بِكَثْرَتِهِ ، ثُمَّ تَنْفَطِرُ عَنْهَا الْأَرْضُ . وَهِيَ كَثِيرَةٌ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ، وَتُوجَدُ بِالشَّامِ وَمِصْرَ ، فَأَجْوَدهَا مَا كَانَتْ أَرْضُهُ رَمْلَةٌ قَلِيلَةُ الْمَاءِ ، وَمِنْهَا صِنْفٌ قَتَّالٌ يَضْرِبُ لَوْنُهُ إِلَى الْحُمْرَةِ . وَهِيَ بَارِدَةٌ رَطْبَةٌ فِي الثَّانِيَةِ رَدِيئَةٌ لِلْمَعِدَةِ بَطِيئَةُ الْهَضْمِ ، وَإِدْمَانُ أَكْلِهَا يُورِثُ الْقُولَنْجَ وَالسَّكْتَةَ ، وَالْفَالِجَ وَعُسْرَ الْبَوْلِ ، وَالرَّطْبُ مِنْهَا أَقَلُّ ضَرَرًا مِنَ الْيَابِسِ ، وَإِذَا دُفِنَتْ فِي الطِّينِ الرَّطْبِ ثُمَّ سُلِقَتْ بِالْمَاءِ وَالْمِلْحِ وَالسَّعْتَرِ وَأُكِلَتْ بِالزَّيْتِ وَالتَّوَابِلِ الْحَارَّةِ قَلَّ ضَرَرُهَا ، وَمَعَ ذَلِكَ فَفِيهَا جَوْهَرُ مَائِيٍّ لَطِيفٍ بِدَلِيلِ خِفَّتِهَا ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَاؤُهَا شِفَاءً لِلْعَيْنِ .
قَوْلُهُ : ( مِنَ الْمَنِّ ) قِيلَ فِي الْمُرَادُ بِالْمَنِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَهُوَ الطَّلُّ الَّذِي يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ فَيُجْمَعُ وَيُؤْكَلُ حُلْوًا ، وَمِنْهُ التَّرَنْجَبِينُ فَكَأَنَّهُ شَبَّهَ بِهِ الْكَمْأَةَ بِجَامِعِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُودِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَفْوًا بِغَيْرِ عِلَاجٍ . قُلْتُ : وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَذَكَرْتُ مَنْ زَادَ فِي مَتْنِ هَذَا الْحَدِيثِ : " الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا مِنَ الْمَنِّ الَّذِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ عَفْوًا بِغَيْرِ عِلَاجٍ ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَإِنَّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ كَالتَّرَنْجَبِينِ الَّذِي يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الْكَمْأَةَ شَيْءٌ يَنْبُتُ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ بِبَذْرٍ وَلَا سَقْيٍ ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمَنِّ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَقَعُ عَلَى الشَّجَرِ فَيَتَنَاوَلُونَهُ . ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ أَنْوَاعًا ، مِنْهَا مَا يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ ، وَمِنْهَا مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ فَتَكُونُ الْكَمْأَةُ مِنْهُ ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَبِهِ جَزَمَ الْمُوَفَّقُ عَبْدُ اللَّطِيفِ الْبَغْدَادِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ ، فَقَالُوا : إِنَّ الْمَنَّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْسَ هُوَ مَا يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ فَقَطْ ، بَلْ كَانَ أَنْوَاعًا مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِهَا مِنَ النَّبَاتِ الَّذِي يُوجَدُ عَفْوًا ، وَمِنَ الطَّيْرِ الَّتِي تَسْقُطُ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ اصْطِيَادٍ ، وَمِنَ الطَّلِّ الَّذِي يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ . وَالْمَنُّ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ مَمْنُونٌ بِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ فِيهِ شَائِبَةُ كَسْبٍ كَانَ مَنًّا مَحْضًا ، وَإِنْ كَانَتْ جَمِيعُ نِعَمِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى عَبِيدِهِ مَنًّا مِنْهُ عَلَيْهِمْ ، لَكِنْ خُصَّ هَذَا بِاسْمِ الْمَنِّ لِكَوْنِهِ لَا صُنْعَ فِيهِ لِأَحَدٍ ، فَجَعَلَ [10/174] سُبْحَانَهُ وتَعَالَى قُوتَهُمْ فِي التِّيهِ الْكَمْأَةَ وَهِيَ تَقُومُ مَقَامَ الْخُبْزِ ، وَأُدُمُهُمُ السَّلْوَى وَهِيَ تَقُومُ مَقَامَ اللَّحْمِ ، وَحَلْوَاهُمُ الطَّلُّ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى الشَّجَرِ ، فَكَمَّلَ بِذَلِكَ عَيْشَهُمْ . وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مِنَ الْمَنِّ " فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ ، فَالتَّرَنْجَبِينُ كَذَلِكَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْمَنِّ ، وَإِنْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْمَنِّ عَلَيْهِ عُرْفًا ، ا هـ . وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُمْ : لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَحْدَةِ دَوَامُ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ غَيْرِ تَبَدُّلٍ وَذَلِكَ يَصْدُقُ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْمَطْعُومُ أَصْنَافًا لَكِنَّهَا ، لَا تَتَبَدَّلُ أَعْيَانُهَا .
قَوْلُهُ : ( وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي : " مِنَ الْعَيْنِ " ، أَيْ : شِفَاءٌ مِنْ دَاءِ الْعَيْنِ ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ : إِنَّمَا اخْتَصَّتِ الْكَمْأَةُ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْحَلَالِ الْمَحْضِ الَّذِي لَيْسَ فِي اكْتِسَابِهِ شُبْهَةٌ ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْحَلَالِ الْمَحْضِ يَجْلُو الْبَصَرَ ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ . قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : فِي الْمُرَادِ بِكَوْنِهَا شِفَاءً لِلْعَيْنِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَاؤُهَا حَقِيقَةً ، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ صِرْفًا فِي الْعَيْنِ ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا كَيْفَ يُصْنَعُ بِهِ عَلَى رَأْيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُخْلَطُ فِي الْأَدْوِيَةِ الَّتِي يُكْتَحَلُ بِهَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، قَالَ : وَيُصَدِّقُ هَذَا الَّذِي حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ بَعْضَ الْأَطِبَّاءِ قَالُوا : أَكْلُ الْكَمْأَةِ يَجْلُو الْبَصَرَ .
ثَانِيهُمَا : أَنْ تُؤْخَذَ فَتُشَقُّ وَتُوضَعُ عَلَى الْجَمْرِ حَتَّى يَغْلِيَ مَاؤُهَا ، ثُمَّ يُؤْخَذُ الْمِيلُ فَيُجْعَلُ فِي ذَلِكَ الشِّقِّ وَهُوَ فَاتِرٌ فَيُكْتَحَلُ بِمَائِهَا ، لِأَنَّ النَّارَ تُلَطِّفُهُ وَتُذْهِبُ فَضَلَاتَهُ الرَّدِيئَةَ وَيَبْقَى النَّافِعُ مِنْهُ ، وَلَا يُجْعَلُ الْمِيلُ فِي مَائِهَا وَهِيَ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ فَلَا يَنْجَعُ ، وَقَدْ حَكَى إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ ، عَنْ صَالِحٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ أَنَّهُمَا اشْتَكَتْ أَعْيُنُهُمَا ، فَأَخَذَا كَمْأَةً وَعَصَرَاهَا وَاكْتَحَلَا بِمَائِهَا ، فَهَاجَتْ أَعْيُنُهُمَا وَرَمِدَا . قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَحَكَى شَيْخُنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ عَصَرَ مَاءَ كَمْأَةٍ فَاكْتَحَلَ بِهِ فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ مَاؤُهَا الَّذِي تَنْبُتُ بِهِ ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَطَرٍ يَقَعُ فِي الْأَرْضِ فَتُرَبَّى بِهِ الْأَكْحَالُ حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْبَاقِي أَيْضًا ، فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ إِضَافَةَ الْكُلِّ لَا إِضَافَةَ جُزْءٍ . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : وَهَذَا أَضْعَفُ الْوُجُوهِ . قُلْتُ : وَفِيمَا ادَّعَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ صِرْفًا نَظَرٌ ، فَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الطِّبِّ فِي التَّدَاوِي بِمَاءِ الْكَمْأَةِ تَفْصِيلًا ، وَهُوَ إِنْ كَانَ لِتَبْرِيدِ مَا يَكُونُ بِالْعَيْنِ مِنَ الْحَرَارَةِ فَتُسْتَعْمَلُ مُفْرَدَةً ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَتُسْتَعْمَلُ مُرَكَّبَةً ، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَقَالَ : الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْفَعُ بِصُورَتِهِ فِي حَالٍ ، وَبِإِضَافَتِهِ فِي أُخْرَى ، وَقَدْ جُرِّبَ ذَلِكَ فَوُجِدَ صَحِيحًا . نَعَمْ جَزَمَ الْخَطَّابِيُّ بِمَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ، فَقَالَ : تُرَبَّى بِهَا التُّوتِيَاءُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَكْحَالِ ، قَالَ : وَلَا تُسْتَعْمَلُ صِرْفًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي الْعَيْنَ . وَقَالَ الْغَافِقِيُّ فِي " الْمُفْرَدَاتِ " : مَاءُ الْكَمْأَةِ أَصْلَحُ الْأَدْوِيَةِ لِلْعَيْنِ إِذَا عُجِنَ بِهِ الْإِثْمِدُ وَاكْتُحِلَ بِهِ ، فَإِنَّهُ يُقَوِّي الْجَفْنَ ، وَيَزِيدُ الرُّوحَ الْبَاصِرَ حِدَّةً وَقُوَّةً ، وَيَدْفَعُ عَنْهَا النَّوَازِلَ . وَقَالَ النَّوَوِيُّ : الصَّوَابُ أَنَّ مَاءَهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ مُطْلَقًا فَيُعْصَرُ مَاؤُهَا وَيُجْعَلُ فِي الْعَيْنِ مِنْهُ ، قَالَ : وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَا وَغَيْرِي فِي زَمَانِنَا مَنْ كَانَ عَمِيَ وَذَهَبَ بَصَرُهُ حَقِيقَةً فَكَحَّلَ عَيْنَهُ بِمَاءِ الْكَمْأَةِ مُجَرَّدًا فَشُفِيَ وَعَادَ إِلَيْهِ بَصَرُهُ ، وَهُوَ الشَّيْخُ الْعَدْلُ الْأَمِينُ الْكَمَالُ بْنُ عَبْدٍ الدِّمَشْقِيُّ صَاحِبُ صَلَاحٍ وَرِوَايَةٍ فِي الْحَدِيثِ ، وَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ لِمَاءِ الْكَمْأَةِ اعْتِقَادًا فِي الْحَدِيثِ وَتَبَرُّكًا بِهِ فَنَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ . قُلْتُ : الْكَمَالُ الْمَذْكُورُ هُوَ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ الْخَضِرِ يُعْرَفُ ابْنِ عَبْدٍ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ الْحَارِثِيُّ الدِّمَشْقِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي طَاهِرٍ الْخُشُوعِيِّ ، سَمِعَ مِنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِ شُيُوخِنَا ، عَاشَ ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ سَنَةً وَمَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ قَبْلَ النَّوَوِيِّ بِأَرْبَعِ سِنِينَ . وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَنْ عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةَ اعْتِقَادٍ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَالْعَمَلِ بِهِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ آخِرُ كَلَامِهِ ، وَهُوَ يُنَافِي قَوْلَهُ أَوَّلًا مُطْلَقًا ، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى قَتَادَةَ قَالَ : حُدِّثْتُ أَنَّ [10/175] أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : أَخَذْتُ ثَلَاثَةَ أَكْمُؤٍ أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَعَصَرْتُهُنَّ ، فَجَعَلْتُ مَاءَهُنَّ فِي قَارُورَةٍ فَكَحَّلْتُ بِهِ جَارِيَةً لِي فَبَرِئَتْ . وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : اعْتَرَفَ فُضَلَاءُ الْأَطِبَّاءِ أَنَّ مَاءَ الْكَمْأَةِ يَجْلُو الْعَيْنَ ، مِنْهُمُ الْمُسَبِّحِيُّ ، وَابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُمَا . وَالَّذِي يُزِيلُ الْإِشْكَالَ عَنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْكَمْأَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ خُلِقَتْ فِي الْأَصْلِ سَلِيمَةً مِنَ الْمَضَارِّ ، ثُمَّ عَرَضَتْ لَهَا الْآفَاتُ بِأُمُورٍ أُخْرَى مِنْ مُجَاوَرَةٍ أَوِ امْتِزَاجٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَرَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى ، فَالْكَمْأَةُ فِي الْأَصْلِ نَافِعَةٌ لِمَا اخْتَصَّتْ بِهِ مِنْ وَصْفِهَا بِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ ، وَإِنَّمَا عَرَضَتْ لَهَا الْمَضَارُّ بِالْمُجَاوَرَةِ ، وَاسْتِعْمَالُ كُلِّ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ بِصِدْقٍ يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ يَسْتَعْمِلُهُ ، وَيَدْفَعُ اللَّهُ عَنْهُ الضَّرَرَ بِنِيَّتِهِ ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ : ( وَقَالَ شُعْبَةُ ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِوَاوٍ فِي أَوَّلِهِ وَصُورَتُهُ صُورَةُ التَّعْلِيقِ ، وَسَقَطَتِ الْوَاوُ لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ أَوْلَى فَإِنَّهُ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ ، فَأَعَادَ الْإِسْنَادَ مِنْ أَوَّلِهِ لِلطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ ، وَكَذَا أَوْرَدَهُ أَحْمَدُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا .
قَوْلُهُ : ( وَأَخْبَرَنِي الْحَكَمُ ) هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مُصَغَّر وَالْحَسَنُ الْعُرَنِيُّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا نُونٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ ، كُوفِيٌّ وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ ، وَالْعِجْلِيُّ ، وَابْنُ سَعْدٍ ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ : صَدُوقٌ . قُلْتُ : وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ .
قَوْلُهُ : ( قَالَ شُعْبَةُ لَمَّا حَدَّثَنِي بِهِ الْحَكَمُ لَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ ) كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ كَبِرَ وَتَغَيَّرَ حِفْظُهُ ، فَلَمَّا حَدَّثَ بِهِ شُعْبَةَ تَوَقَّفَ فِيهِ ، فَلَمَّا تَابَعَهُ الْحَكَمُ بِرِوَايَتِهِ ثَبَتَ عِنْدَ شُعْبَةَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ ، وَانْتَفَى عَنْهُ التَّوَقُّفُ فِيهِ . وَقَدْ تَكَلَّفَ الْكِرْمَانِيُّ لِتَوْجِيهِ كَلَامِ شُعْبَةَ أَشْيَاءَ فِيهَا نَظَرٌ .
أَحَدُهَا : أَنَّ الْحَكَمَ مُدَلِّسٌ وَقَدْ عَنْعَنَ ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ صَرَّحَ بِقَوْلِهِ : " سَمِعْتُهُ " فَلَمَّا تَقَوَّى بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمْ يَبْقَ بِهِ مَحَلٌّ لِلْإِنْكَارِ . قُلْتُ : شُعْبَةُ مَا كَانَ يَأْخُذُ عَنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ ذَكَرَ عَنْهُمُ التَّدْلِيسَ إِلَّا مَا يَتَحَقَّقُ سَمَاعُهُمْ فِيهِ ، وَقَدْ جَزَمَ بِذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ بِبُعْدِ هَذَا الِاحْتِمَالِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ كَانَ يَلْزَمُ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ بِأَنْ يَقُولَ لَمَّا حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمُلْكِ لَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ الْحَكَمِ .
ثَانِيهَا : لَمْ يَكُنِ الْحَدِيثُ مَنْكُورًا لِي لِأَنِّي كُنْتُ أَحْفَظُهُ .

ثَالِثُهَا : يَحْتَمِلُ الْعَكْسُ بِأَنْ يُرَادَ لَمْ يُنْكِرْ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ ، وَقَدْ سَاقَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الطَّرِيقَ مِنْ أَوْجُهٍ أُخْرَى عَنِ الْحَكَمِ . وَوَقَعَ عِنْدَهُ فِي الْمَتْنِ : مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَفِي لَفْظِ : " عَلَى مُوسَى " وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى مَا فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ مِنَ الْفَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ .