بَابُ مَنْ جَهَرَ بِهَا
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ ، أَنَا هُشَيْمٌ ، عَنْ عَوْفٍ ، عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ : مَا حَمَلَكُمْ أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى بَرَاءَةَ وَهِيَ مِنْ الْمِئِينَ ، وَإِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنْ الْمَثَانِي ، فَجَعَلْتُمُوهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّولِ ، وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قَالَ عُثْمَانُ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا تَنَزَّلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فَيَدْعُو بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ لَهُ وَيَقُولُ لَهُ : ضَعْ هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ فَيَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَكَانَتْ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَّلِ مَا نْزِلَ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ ، وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ ، [1/288] وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا ، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا فَمِنْ هُنَاكَ وَضَعْتُهما فِي السَّبْعِ الطِّوَلِ وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ".


بَابُ مَنْ جَهَرَ بِهَا
أَيْ بِالْبَسْمَلَةِ .
( مَا حَمَلَكُمْ ) أَيْ مَا الْبَاعِثُ وَالسَّبَبُ لَكُمْ ( عَمَدْتُمْ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ قَصَدْتُمْ ( إِلَى بَرَاءَةِ ) هِيَ سُورَةُ التَّوْبَةِ وَهِيَ أَشْهَرُ أَسْمَائِهَا ، وَلَهَا أَسْمَاءٌ أُخْرَى تَزِيدُ عَلَى الْعَشَرَةِ ، قَالَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ ( وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ ) أَيْ مِنْ ذَوَاتِ مِائَةِ آيَةٍ ، قَالَ فِي الْمَجْمَعِ : أَوَّلُ الْقُرْآنِ السَّبْعُ الطُّوَالُ ، ثُمَّ ذَوَاتِ الْمِئِينَ أَيْ ذَوَاتِ مِائَةِ آيَةٍ ، ثُمَّ الْمَثَانِي ، ثُمَّ الْمُفَصَّلِ ، انْتَهَى .
( إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي ) أَيْ مِنَ السَّبْعِ الْمَثَانِي وَهِيَ السَّبْعُ الطُّوَالُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمَثَانِي مِنَ الْقُرْآنِ مَا كَانَ أَقَلَّ مِنَ الْمِئِينَ وَيُسَمَّى جَمِيعُ الْقُرْآنِ مَثَانِيَ لِاقْتِرَانِ آيَةِ الرَّحْمَةِ بِآيَةِ الْعَذَابِ ، وَتُسَمَّى الْفَاتِحَةُ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي الصَّلَاةِ ، أَوْ ثُنِّيَتْ فِي النُّزُولِ . وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : الْمَثَانِي السُّوَرُ الَّتِي تَقْصُرُ عَنِ الْمِئِينَ وَتَزِيدُ عَلى الْمُفَصَّلِ ، كَأَنَّ الْمِئِينَ جُعِلَتْ مَبَادِئَ وَالَّتِي تَلِيهَا مَثَانِيَ . انْتَهَى . ( فَجَعَلْتُمُوهُمَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ ( وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) قَالَ فِي الْمِرْقَاةِ : تَوْجِيهُ السُّؤَالِ أَنَّ الْأَنْفَالَ لَيْسَ مِنَ السَّبْعِ الطُّوَلِ لِقِصَرِهَا عَنِ الْمِئِينَ لِأَنَّهَا سَبْعٌ وَسَبْعُونَ آيَةٍ وَلَيْسَتْ غَيْرَهَا لِعَدَمِ الْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَرَاءَةَ .
( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا تَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ ) وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ ، وَهُوَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتِ الْعَدَدِ ( فَيَدْعُو بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ لَهُ ) الْوَحْيَ كَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِ ( فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا ) كَقِصَّةِ هُودٍ وَحِكَايَةِ يُونُسَ ( وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ ) أَيْ فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ أَيْضًا وَبَيْنَهُمَا النِّسْبَةُ التَّرْتِيبِيَّةُ بِالْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ ، فَهَذَا أَحَدُ وُجُوهِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ، وَكَانَ هَذَا مُسْتَنَدُ مَنْ قَالَ إِنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ دوْقٍ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ وَابْنِ لَهِيعَةَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ بَرَاءَةَ مِنَ الْأَنْفَالِ ، وَلِهَذَا لَمْ تُكْتَبِ الْبَسْمَلَةَ بَيْنَهُمَا مَعَ اشْتِبَاهِ [1/288] طُرُقِهِمَا . وَرَدَ بِتَسْمِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمٍ مُسْتَقِلٍّ . قَالَ الْقُشَيْرِيُّ : إِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمْ تَكُنْ فِيهَا لِأَنَّ جبْريلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا فِيهَا . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : لَمْ تُكْتَبِ الْبَسْمَلَةَ فِي بَرَاءَةَ لِأَنَّهَا أَمَانٌ وَبَرَاءَةٌ نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ . وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّ أَوَّلَهَا لَمَّا سَقَطَ سَقَطَتْ مَعَهُ الْبَسْمَلَةُ ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا كَانَتْ تَعْدِلُ الْبَقَرَةَ لِطُولِهَا وَقِيلَ إِنَّهَا ثَابِتَةٌ أَوَّلُهَا فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَى ذَلِكَ ( وَكَانَتْ قِصَّتُهَا ) أَيْ بَرَاءَةَ ( شَبِيهَةٌ بِقِصَّتِهَا ) أَيِ الْأَنْفَالِ وَيَجُوزُ الْعَكْسُ وَهَذَا وَجْهٌ آخَرُ مَعْنَوِيٌّ ، وَلَعَلَّ الْمُشَابَهَةَ فِي قَضِيَّةِ الْمُقَاتَلَةِ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ : قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ وَنَحْوَهُ ، وَفِي نَبْذِ الْعَهْدِ بِقَوْلِهِ فِي الْأَنْفَالِ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ : لِأَنَّ الْأَنْفَالَ بَيَّنَتْ مَا وَقَعَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مُشْرِكِي مَكَّةَ ، وَبَرَاءَةُ بَيَّنَتْ مَا وَقَعَ لَهُ مَعَ مُنَافِقِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مِمَّا ظَهَرَ لِي فِي أَمْرِ الِاقْتِرَانِ بَيْنَهُمَا .
( فَظَنَنْتُ أَنَّهَا ) أَيِ التَّوْبَةُ ( مِنْهَا ) أَيِ الْأَنْفَالِ ( فَمِنْ هُنَاكَ ) أَيْ لِمَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ تَبْيِينِهِ وَوُجُوهٍ مَا ظَهَرَ لَنَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا ( وَضَعْتُهُمَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) أَيْ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا سُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْفَصْلِ وَلَمْ تَنْزِلْ وَلَمْ أَكْتُبْ وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي عَدَمِ نُزُولِ الْبَسْمَلَةِ وَهُوَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَأَلَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَ لَمْ تَكْتُبْ ؟ قَالَ : لِأَنَّ بِاسْمِ اللَّهِ أَمَانٌ وَلَيْسَ فِيهَا أَمَانٌ أُنْزِلَتْ بِالسَّيْفِ ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَكْتُبُهَا أَوَّلَ مُرَاسَلَاتِهِمْ فِي الصُّلْحِ وَالْأَمَانِ وَالْهُدْنَةِ ، فَإِذَا نَبَذُوا الْعَهْدَ وَنَقَضُوا الْأَيْمَانَ لَمْ يَكْتُبُوهَا وَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ ، فَصَارَتْ عَلَامَةَ الْأَمَانِ وَعَدَمُهَا عَلَامَةَ نَقْضِهِ ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ أَمَانٌ ، وَقَوْلُهُمْ آيَةُ رَحْمَةٍ وَعَدَمُهَا عَذَابٌ . قَالَ الطِّيبِيُّ : دَلَّ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُمَا نَزَلَتَا مَنْزِلَةَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَمُلَ السَّبْعُ الطُّوَلُ بِهَا ، ثُمَّ قِيلَ السَّبْعُ الطُّوَلُ هِيَ الْبَقَرَةُ وَبَرَاءَةُ وَمَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ ، لَكِنْ رَوَى النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا الْبَقَرَةُ وَالْأَعْرَافُ وَمَا بَيْنَهُمَا . قَالَ الرَّاوِي : وَذَكَرَ السَّابِعَةَ فَنَسِيتُهَا وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْفَاتِحَةُ فَإِنَّهَا مِنَ السَّبْعِ الْمَثَانِي أَوْ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَنَزَلَتْ سَبْعَتُهَا مَنْزِلَةً الْمِئِينَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْأَنْفَالُ بِانْفِرَادِهَا أَوْ بِانْضِمَامِ مَا بَعْدَهَا إِلَيْهَا . وَصَحَّ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا يُونُسُ وَجَاءَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْأَنْفَالَ وَمَا بَعْدَهَا مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهَا مِنَ الْمَثَانِي وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سُورَةٌ أَوْ هُمَا سُورَةٌ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ . وَقَدِ اسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنَ الْقُرْآنِ بِأَنَّهَا مُثْبَتَةٌ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ بِخَطِّ الْمُصْحَفِ فَتَكُونَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الْفَاتِحَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا أَثْبَتُوهَا بِخَطِّ الْقُرْآنِ . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَوْفٍ عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَزِيدَ الْفَارِسِيِّ قَدْ رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرَ حَدِيثٍ وَيُقَالُ : هُوَ يَزِيدُ بْنُ هُرْمُزٍ وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ هُوَ الَّذِي قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَذَكَرَ غَيْرُهُمَا أَنَّهُمَا اثْنَانِ ، وَأَنَّ الْفَارِسِيَّ غَيْرُ ابْنِ هُرْمُزٍ وَأَنَّ ابْنَ هُرْمُزٍ ثِقَةٌ وَالْفَارِسِيَّ لَا بَأْسَ بِهِ . انْتَهَى .