37 - بَاب سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ وَبَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ ثُمَّ قَالَ : جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ ، فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا ، وَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ
50 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ ، قال : حدثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ رجل فَقال : ما الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ قال : ما الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ : الْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ قال : ما الْإِحْسَانُ قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ، قَالَ : مَتَى السَّاعَةُ ؟ قال : ما الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا : إِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ رَبَّهَا ، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الْإِبِلِ الْبُهْمُ فِي الْبُنْيَانِ فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ، ثُمَّ تَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الْآيَةَ ، ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ : رُدُّوهُ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا فَقال : هذا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ ، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ : جَعَلَ ذَلِك كُلَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ .


قَوْلُهُ : ( بَابُ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ إِلَخْ ) تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ يَرَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ ، فَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَجَوَابُهُ يَقْتَضِي تَغَايُرَهُمَا ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ بِأُمُورٍ مَخْصُوصَةٍ ، وَالْإِسْلَامَ إِظْهَارُ أَعْمَالٍ مَخْصُوصَةٍ ، أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ بِالتَّأْوِيلِ إِلَى طَرِيقَتِهِ .
قَوْلُهُ : ( وَبَيَانِ ) أَيْ : مَعَ بَيَانِ أَنَّ الِاعْتِقَادَ وَالْعَمَلَ دِينٌ ، وَقَوْلُهُ : " وَمَا بَيَّنَ " أَيْ : مَعَ مَا بَيَّنَ لِلْوَفْدِ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ حَيْثُ فَسَّرَهُ فِي قِصَّتِهِمْ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الْإِسْلَامَ هُنَا ، وَقَوْلُهُ : " وَقَوْلُ اللَّهِ " أَيْ : مَعَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ ، وَدَلَّ عَلَيْهِ خَبَرُ أَبِي سُفْيَانَ : أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الدِّينُ ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ أَمْرٌ وَاحِدٌ . هَذَا مُحَصَّلُ كَلَامِهِ ، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو عَوَانَةَ الْإسْفَرَايِينِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ الْمُزَنِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ الْجَزْمَ بِأَنَّهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ ، وَأَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ . وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الْجَزْمَ بِتَغَايُرِهِمَا ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَدِلَّةٌ مُتَعَارِضَةٌ . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : صَنَّفَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِمَامَانِ كَبِيرَانِ ، وَأَكْثَرَا مِنَ الْأَدِلَّةِ لِلْقَوْلَيْنِ ، وَتَبَايَنَا فِي ذَلِكَ . وَالْحَقُّ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا ، فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ ، وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا . انْتَهَى كَلَامُهُ مُلَخَّصًا .
[1/141] وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُطْلَقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ مَعًا ، بِخِلَافِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا مَعًا . وَيَرِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُنَا يَتَنَاوَلُ الْعَمَلَ وَالِاعْتِقَادَ مَعًا ; لِأَنَّ الْعَامِلَ غَيْرُ الْمُعْتَقِدِ لَيْسَ بِذِي دِينٍ مَرْضِيٍّ . وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ فَقَالَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ جِبْرِيلَ هَذَا : جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِسْلَامَ هُنَا اسْمًا لِمَا ظَهَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ ، وَالْإِيمَانَ اسْمًا لِمَا بَطَنَ مِنَ الِاعْتِقَادِ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ ، وَلَا لِأَنَّ التَّصْدِيقَ لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ ، بَلْ ذَاكَ تَفْصِيلٌ لِجُمْلَةٍ كُلُّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَجِمَاعُهَا الدِّينُ ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ وَقال سبحانهُ وَتَعَالَى : وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا وَقَالَ : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَلَا يَكُونُ الدِّينُ فِي مَحَلِّ الرِّضَا وَالْقَبُولِ إِلَّا بِانْضِمَامِ التَّصْدِيقِ . انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً ، كَمَا أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً ، لَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ بِمَعْنَى التَّكْمِيلِ لَهُ ، فَكَمَا أَنَّ الْعَامِلَ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا كَامِلًا إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ ، فَكَذَلِكَ الْمُعْتَقِدُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا كَامِلًا إِلَّا إِذَا عَمِلَ ، وَحَيْثُ يُطْلَقُ الْإِيمَانُ فِي مَوْضِعِ الْإِسْلَامِ أَوِ الْعَكْسِ ، أَوْ يُطْلَقُ أَحَدُهُمَا عَلَى إِرَادَتِهِمَا مَعًا فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ . وَيَتَبَيَّنُ الْمُرَادُ بِالسِّيَاقِ ، فَإِنْ وَرَدَا مَعًا فِي مَقَامِ السُّؤَالِ حُمِلَا عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَرِدَا مَعًا أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَقَامِ سُؤَالٍ أَمْكَنَ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوِ الْمَجَازِ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنَ الْقَرَائِنِ . وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قَالُوا : إِنَّهُمَا تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهُمَا بِالِاقْتِرَانِ ، فَإِنْ أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا دَخَلَ الْآخَرُ فِيهِ . وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَتَبِعَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْأَكْثَرِ أَنَّهُمْ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ الْقَيْسِ ، وَمَا حَكَاهُ اللَّالِكَائِيُّ ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا عَلَى مَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
قَوْلُهُ : ( وَعِلْمِ السَّاعَةِ ) تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِلْمُرَادِ بِقَوْلِ جِبْرِيلَ فِي السُّؤَالِ مَتَى السَّاعَةُ ؟ أَيْ : مَتَى عِلْمُ السَّاعَةِ ؟ وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ آخَرَ ، أَيْ : مَتَى عِلْمُ وَقْتِ السَّاعَةِ ؟
قَوْلُهُ : ( وَبَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ) هُوَ مَجْرُورٌ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَى سُؤَالِ الْمَجْرُورِ بِالْإِضَافَةِ . فَإِنْ قِيلَ : لَمْ يُبَيِّنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقْتَ السَّاعَةِ ، فَكَيْفَ قَالَ وَبَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ . فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيَانِ بَيَانُ أَكْثَرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَأَطْلَقَهُ ; لِأَنَّ حُكْمَ مُعْظَمِ الشَّيْءِ حُكْمُ كُلِّهِ . أَوْ جَعَلَ الْحُكْمَ فِي عِلْمِ السَّاعَةِ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ بَيَانًا لَهُ .
قَوْلُهُ : ( حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ) هُوَ الْبَصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ ، قال : أخبرنَا أَبُو حَيَّانَ التَّمِيمِيُّ . وَأَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ لُقْمَانَ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ الْمَذْكُورِ . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي فَرْوَةَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . زَادَ أَبُو فَرْوَةَ : وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا ، وَسَاقَ حَدِيثَهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا . وَفِيهِ فَوَائِدُ زَوَائِدُ سَنُشِيرُ إِلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَمْ أَرَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ هَذَا عَنْهُ ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ الْبُخَارِيُّ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَيَّانَ عَنْهُ ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَفِي سِيَاقِهِ فَوَائِدُ زَوَائِدُ أَيْضًا . وَإِنَّمَا لَمْ يُخَرِّجُهُ الْبُخَارِيُّ لِاخْتِلَافٍ فِيهِ عَلَى بَعْضِ رُوَاتِهِ ، فَمَشْهُورُهُ رِوَايَةُ كَهْمَسٍ - بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ قَبْلَهَا مِيمٌ مَفْتُوحَةٌ - ابْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ - بِفَتْحِ الْمِيمِ أَوَّلُهُ يَاءٌ تَحْتَانِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عن أبيه عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَوَاهُ عَنْ [1/142] كَهْمَسٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ ، وَتَابَعَهُ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، وَتَابَعَهُ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ، وَكَذَا رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ لَكِنَّهُ قَالَ : عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ، وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ عُمَرَ ، زَادَ فِيهِ حُمَيْدًا ، وَحُمَيْدٌ لَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ ذِكْرٌ لَا رِوَايَةٌ . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الطُّرُقَ وَلَمْ يَسُقْ مِنْهَا إِلَّا مَتْنَ الطَّرِيقِ الْأُولَى وَأَحَالَ الْبَاقِيَ عَلَيْهَا ، وَبَيْنَهَا اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ سَنُشِيرُ إِلَى بَعْضِهِ ، فَأَمَّا رِوَايَةُ مَطَرٍ فَأَخْرَجَهَا أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ ، وَأَمَّا رِوَايَةُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ فَأَخْرَجَهَا ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ فَأَخْرَجَهَا أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ . وَقَدْ خَالَفَهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ فَرَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ لَا مِنْ رِوَايَتِهِ ، عن أبيه . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا . وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ، وَكَذَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ . وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ ، وَالْبُخَارِيُّ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ . وَعَنْ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَفِي إِسْنَادِهِ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ ، وهو الْعُمَرِيُّ وَلَا يَصْلُحُ لِلصَّحِيحِ ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيِّ أَخْرَجَهُمَا أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُمَا حَسَنٌ . وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ فَوَائِدُ سَنَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ . وَإِنَّمَا جَمَعْتُ طُرُقَهَا هُنَا وَعَزَوْتُهَا إِلَى مُخَرِّجِيهَا لِتَسْهِيلِ الْحَوَالَةِ عَلَيْهَا فِرَارًا مِنَ التَّكْرَارِ الْمُبَايِنِ لِطَرِيقِ الِاخْتِصَارِ . وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
قَوْلُهُ : ( كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ ) أَيْ : ظَاهِرًا لَهُمْ غَيْرَ مُحْتَجِبٍ عَنْهُمْ وَلَا مُلْتَبِسٍ بِغَيْرِهِ ، وَالْبُرُوزُ الظُّهُورُ . وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا بَيَانُ ذَلِكَ ، فَإِنَّ أَوَّلَهُ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْلِسُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ ، فَطَلَبْنَا إِلَيْهِ أَنْ نَجْعَلَ لَهُ مَجْلِسًا يَعْرِفُهُ الْغَرِيبُ إِذَا أَتَاهُ ، قَالَ : فَبَنَيْنَا لَهُ دُكَّانًا مِنْ طِينٍ كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ . انْتَهَى . وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْقُرْطُبِيُّ اسْتِحْبَابَ جُلُوسِ الْعَالِمِ بِمَكَانٍ يَخْتَصُّ بِهِ وَيَكُونُ مُرْتَفِعًا إِذَا احْتَاجَ لِذَلِكَ لِضَرُورَةِ تَعْلِيمٍ وَنَحْوِهِ .
قَوْلُهُ : ( فَأَتَاهُ رَجُلٌ ) أَيْ : مَلَكٌ فِي صُورَةِ رَجُلٍ ، وَفِي التَّفْسِيرِ لِلْمُصَنِّفِ : إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي ، وَلِأَبِي فَرْوَةَ : فَإِنَّا لَجُلُوسٌ عِنْدَهُ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهًا وَأَطْيَبُ النَّاسِ رِيحًا ، كَأَنَّ ثِيَابَهُ لَمْ يَمَسَّهَا دَنَسٌ . وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ كَهْمَسٍ فِي حَدِيثِ عُمَرَ : بَيْنَمَا نَحْنُ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ . وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ سَوَادِ اللِّحْيَةِ ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ . وَفِي رِوَايَةِ لِسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ : لَيْسَ عَلَيْهِ سَحْنَاءُ السَّفَرِ ، وَلَيْسَ مِنَ الْبَلَدِ ، فَتَخَطَّى حَتَّى بَرَكَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يَجْلِسُ أَحَدُنَا فِي الصَّلَاةِ ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رُكْبَتَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيِّ : ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رُكْبَتَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . فَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ : عَلَى فَخِذَيْهِ يَعُودُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِهِ جَزَمَ الْبَغَوِيُّ ، وَإِسْمَاعِيلُ التَّيْمِيُّ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَرَجَّحَهُ الطِّيبِيُّ بَحْثًا لِأَنَّهُ نَسَقُ الْكَلَامِ خِلَافًا لِمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ ، وَوَافَقَهُ التُّورِبَشْتِيُّ لِأَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ جَلَسَ كَهَيْئَةِ الْمُتَعَلِّمِ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا مِنَ السِّيَاقِ لَكِنْ وَضْعُهُ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنِيعٌ مُنَبِّهٌ لِلْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ لِمَا يَنْبَغِي لِلْمَسْئُولِ مِنَ التَّوَاضُعِ وَالصَّفْحِ عَمَّا يَبْدُو مِنْ جَفَاءِ [1/143] السَّائِلِ . وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي تَعْمِيَةِ أَمْرِهِ لِيُقَوِّيَ الظَّنَّ بِأَنَّهُ مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ ، وَلِهَذَا تَخَطَّى النَّاسَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَقَدَّمَ . وَلِهَذَا اسْتَغْرَبَ الصَّحَابَةُ صَنِيعَهُ ; وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ ، وَجَاءَ مَاشِيًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَثَرُ سَفَرٍ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ عَرَفَ عُمَرُ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ إِلَى ظَنِّهِ ، أَوْ إِلَى صَرِيحِ قَوْلِ الْحَاضِرِينَ . قُلْتُ : وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى ، فَقَدْ جَاءَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ فَإِنَّ فِيهَا : فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالُوا : مَا نَعْرِفُ هَذَا . وَأَفَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ سَبَبَ وُرُودِ هَذَا الْحَدِيثِ ، فَعِنْدَهُ فِي أَوَّلِهِ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : سَلُونِي ، فَهَابُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ ، قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ . وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ ، عَنْ كَهْمَسٍ : بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ - فَكَأَنَّ أَمْرَهُ لَهُمْ بِسُؤَالِهِ وَقَعَ فِي خُطْبَتِهِ - وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَجِيءَ الرَّجُلِ كَانَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَافَقَ انْقِضَاءَهَا أَوْ كَانَ ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَدْرَ جَالِسًا وَعَبَّرَ عَنْهُ الرَّاوِي بِالْخُطْبَةِ .
قَوْلُهُ : ( فَقَالَ ) زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّفْسِيرِ : يا رسول الله ، مَا الْإِيمَانُ ؟ فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ بَدَأَ بِالسُّؤَالِ قَبْلَ السَّلَامِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي التَّعْمِيَةِ لِأَمْرِهِ ، أَوْ لِيُبَيِّنَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ ، أَوْ سَلَّمَ فَلَمْ يَنْقُلْهُ الرَّاوِي . قُلْتُ : وَهَذَا الثَّالِثُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ ، فَفِيهَا بَعْدَ قَوْلِهِ كَأَنَّ ثِيَابَهُ لَمْ يَمَسَّهَا دَنَسٌ حَتَّى سَلَّمَ مِنْ طَرَفِ الْبِسَاطِ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ . قَالَ : أَدْنُو يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ : ادْنُ . فَمَا زَالَ يَقُولُ أَدْنُو مِرَارًا وَيَقُولُ لَهُ ادْنُ . وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، لَكِنْ قَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يا رسول الله . وَفِي رِوَايَةِ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ فَقَالَ : يا رسول الله ، أَدْنُو مِنْكَ ؟ قَالَ : أدْنُو . وَلَمْ يَذْكُرِ السَّلَامَ . فَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ ، هَلْ قَالَ لَهُ : يَا مُحَمَّدُ أَوْ يا رسول الله ؟ هَلْ سَلَّمَ أَوْ لَا ؟
فَأَمَّا السَّلَامُ فَمَنْ ذَكَرَهُ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْ سَكَتَ عَنْهُ . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ وَقال : يا مُحَمَّدُ : إِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّعْمِيَةَ فَصَنَعَ صَنِيعَ الْأَعْرَابِ . قُلْتُ : وَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّهُ بَدَأَ أَوَّلًا بِنِدَائِهِ بِاسْمِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، ثُمَّ خَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ يا رسول الله . وَوَقَعَ عِنْدَ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا مُحَمَّدُ ، فَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلدَّاخِلِ أَنْ يُعَمِّمَ بِالسَّلَامِ ثُمَّ يُخَصِّصَ مَنْ يُرِيدُ تَخْصِيصَهُ ، انْتَهَى . وَالَّذِي وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّوَايَاتِ إِنَّمَا فِيهِ الْإِفْرَادُ ، وهو قَوْلُهُ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ .
قَوْلُهُ : ( مَا الْإِيمَانُ ؟ ) قِيلَ : قَدَّمَ السُّؤَالَ عَنِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ ، وَثَنَّى بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ مِصْدَاقَ الدَّعْوَى ، وَثَلَّثَ بِالْإِحْسَانِ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا . وَفِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ : بَدَأَ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ بِالْأَمْرِ الظَّاهِرِ ، وَثَنَّى بِالْإِيمَانِ لِأَنَّهُ بِالْأَمْرِ الْبَاطِنِ . وَرَجَّحَ هَذَا الطِّيبِيُّ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّرَقِّي . وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي تَأْدِيَتِهَا ، وَلَيْسَ فِي السِّيَاقِ تَرْتِيبٌ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ فَإِنَّهُ بَدَأَ بِالْإِسْلَامِ وَثَنَّى بِالْإِحْسَانِ وَثَلَّثَ بِالْإِيمَانِ ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْوَاقِعَ أَمْرٌ وَاحِدٌ ، وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ وَقَعَ مِنَ الرُّوَاةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ : ( قَالَ : الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ إِلَخْ ) دَلَّ الْجَوَابُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ لَا عَنْ مَعْنَى لَفْظِهِ ، وَإِلَّا لَكَانَ الْجَوَابُ : الْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ . وَقَالَ الطِّيبِيُّ : هَذَا يُوهِمُ التَّكْرَارَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ مُضَمَّنٌ مَعْنَى أَنْ تَعْتَرِفَ بِهِ ، وَلِهَذَا عَدَّاهُ بِالْبَاءِ ، أَيْ : أَنْ تُصَدِّقَ مُعْتَرِفًا بِكَذَا . قُلْتُ : وَالتَّصْدِيقُ أَيْضًا يُعَدَّى بِالْبَاءِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى دَعْوَى التَّضْمِينِ . وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ : لَيْسَ هُوَ تَعْرِيفًا لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ ، بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الْمَحْدُودِ الْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ ، وَمِنَ الْحَدِّ الْإِيمَانُ اللُّغَوِيُّ قُلْتُ : وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَعَادَ لَفْظَ الْإِيمَانِ لِلِاعْتِنَاءِ [1/144] بِشَأْنِهِ تَفْخِيمًا لِأَمْرِهِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي جَوَابِ : مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ : أَنْ تُؤْمِنَ يَنْحَلُّ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَكَأَنَّهُ قَالَ : الْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ تَصْدِيقٌ مَخْصُوصٌ ، وَإِلَّا لَكَانَ الْجَوَابُ : الْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ ، وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِوُجُودِهِ وَأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ .
قَوْلُهُ : ( وَمَلَائِكَتِهِ ) الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِوُجُودِهِمْ وَأَنَّهُمْ كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى : عِبَادٌ مُكْرَمُونَ وَقَدَّمَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ نَظَرًا لِلتَّرْتِيبِ الْوَاقِعِ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَرْسَلَ الْمَلَكَ بِالْكِتَابِ إِلَى الرَّسُولِ وَلَيْسَ فِيهِ مُتَمَسَّكٌ لِمَنْ فَضَّلَ الْمَلَكَ عَلَى الرَّسُولِ .
قَوْلُهُ : ( وَكُتُبِهِ ) هَذِهِ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ هُنَا ، وَاتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَلَى ذِكْرِهَا فِي التَّفْسِيرِ ، وَالْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ التَّصْدِيقُ بِأَنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ حَقٌّ .
قَوْلُهُ : ( وَبِلِقَائِهِ ) كَذَا وَقَعَتْ هُنَا بَيْنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ ، وَلَمْ تَقَعْ فِي بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ ، وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهَا مُكَرَّرَةٌ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا غَيْرُ مُكَرَّرَةٍ ، فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْبَعْثِ الْقِيَامُ مِنَ الْقُبُورِ ، وَالْمُرَادُ بِاللِّقَاءِ مَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَقِيلَ اللِّقَاءُ يَحْصُلُ بِالِانْتِقال من دَارِ الدُّنْيَا ، وَالْبَعْثُ بَعْدَ ذَلِكَ . وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا رِوَايَةُ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ فَإِنَّ فِيهَا " وَبِالْمَوْتِ وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ " ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِاللِّقَاءِ رُؤْيَةُ اللَّهِ ، ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ . وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْطَعُ لِنَفْسِهِ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ ، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا ، وَالْمَرْءُ لَا يَدْرِي بِمَ يُخْتَمُ لَهُ ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ الْإِيمَانِ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْإِيمَانُ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَهَذَا مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقَوِيَّةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ إِذْ جُعِلَتْ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ .
قَوْلُهُ : ( وَرُسُلِهِ ) وَلِلْأَصِيلِيِّ : " وَبِرُسُلِهِ " ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ : " وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ " ، وَكُلٌّ مِنَ السِّيَاقَيْنِ فِي الْقُرْآنِ فِي الْبَقَرَةِ ، وَالتَّعْبِيرُ بِالنَّبِيِّينَ يَشْمَلُ الرُّسُلَ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ ، وَالْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ التَّصْدِيقُ بِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ ، وَدَلَّ الْإِجْمَالُ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ بِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ، إِلَّا مَنْ ثَبَتَ تَسْمِيَتُهُ فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ عَلَى التَّعْيِينِ . وَهَذَا التَّرْتِيبُ مُطَابِقٌ لِلْآيَةِ : آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَمُنَاسَبَةُ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ وَإِنْ كَانَتِ الْوَاوُ لَا تُرَتِّبُ ، بَلِ الْمُرَادُ مِنَ التَّقَدُّمِ أَنَّ الْخَيْرَ وَالرَّحْمَةَ مِنَ اللَّهِ ، وَمِنْ أَعْظَمِ رَحْمَتِهِ أَنْ أَنْزَلَ كُتُبَهُ إِلَى عِبَادِهِ ، وَالْمُتَلَقِّي لِذَلِكَ مِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ ، وَالْوَاسِطَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُمُ الْمَلَائِكَةُ .
قَوْلُهُ ( وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ ) زَادَ فِي التَّفْسِيرِ " الْآخِرِ " وَلِمُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ عُمَرَ : " وَالْيَوْمِ الْآخِرِ " فَأَمَّا الْبَعْثُ الْآخِرُ فَقِيلَ ذَكَرَ الْآخِرَ تَأْكِيدًا كَقَوْلِهِمْ أَمْسُ الذَّاهِبُ ، وَقِيلَ لِأَنَّ الْبَعْثَ وَقَعَ مَرَّتَيْنِ : الْأُولَى الْإِخْرَاجُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ أَوْ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ بَعْدَ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَالثَّانِيَةُ الْبَعْثُ مِنْ بُطُونِ الْقُبُورِ إِلَى مَحَلِّ الِاسْتِقْرَارِ . وَأَمَّا الْيَوْمُ الْآخِرُ فَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ آخِرُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَوْ آخِرُ الْأَزْمِنَةِ الْمَحْدُودَةِ ، وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ . وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ الْأَرْبَعَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْبَعْثِ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا .
[1/145] ( فَائِدَةٌ ) : زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ هُنَا : " وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ " ، وَهِيَ فِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ أَيْضًا ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ ، وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ " كُلِّهِ " ، وَفِي رِوَايَةِ كَهْمَسٍ ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ : " وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ " وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وهو فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِزِيَادَةِ " وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللَّهِ " ، وَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِعَادَةِ لَفْظِ " وَتُؤْمِنَ " عِنْدَ ذِكْرِ الْبَعْثِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ نَوْعٌ آخَرُ مِمَّا يُؤْمَنُ بِهِ ; لِأَنَّ الْبَعْثَ سَيُوجَدُ بَعْدُ ، وَمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مَوْجُودٌ الْآنَ ، وَلِلتَّنْوِيهِ بِذِكْرِهِ لِكَثْرَةِ مَنْ كَانَ يُنْكِرُهُ مِنَ الْكُفَّارِ ، وَلِهَذَا كَثُرَ تَكْرَارُهُ فِي الْقُرْآنِ ، وَهَكَذَا الْحِكْمَةُ فِي إِعَادَةِ لَفْظِ " وَتُؤْمِنَ " عِنْدَ ذِكْرِ الْقَدَرِ كَأَنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ ، فَحَصَلَ الِاهْتِمَامُ بِشَأْنِهِ بِإِعَادَةِ " تُؤْمِنَ " ، ثُمَّ قَرَّرَهُ بِالْإِبْدَالِ بِقَوْلِهِ " خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ " ثُمَّ زَادَهُ تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ " مِنَ اللَّهِ " . وَالْقَدَرُ مَصْدَرٌ ، تَقُولُ : قَدَرْتُ الشَّيْءَ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا أَقْدِرُهُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ قَدْرًا وَقَدَرًا ، إِذَا أَحَطْتُ بِمِقْدَارِهِ . وَالْمُرَادُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ مَقَادِيرَ الْأَشْيَاءِ وَأَزْمَانَهَا قَبْلَ إِيجَادِهَا ، ثُمَّ أَوْجَدَ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يُوجَدُ ، فَكُلُّ مُحْدَثٍ صَادِرٌ عَنْ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ ، هَذَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنَ الدِّينِ بِالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ ، وَعَلَيْهِ كَانَ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَخِيَارِ التَّابِعِينَ ، إِلَى أَنْ حَدَثَتْ بِدْعَةُ الْقَدَرِ فِي أَوَاخِرِ زَمَنِ الصَّحَابَةِ ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ الْقِصَّةَ فِي ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ كَهْمَسٍ ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ : كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ ، قَالَ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدٌ الْحِمْيَرِيُّ ، فَذَكَرَ اجْتِمَاعَهُمَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّنْ يَقُولُ ذَلِكَ ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْقَدَرِ عَمَلًا . وَقَدْ حَكَى الْمُصَنِّفُونَ فِي الْمَقَالَاتِ عَنْ طَوَائِفَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ إِنْكَارَ كَوْنِ الْبَارِئِ عَالِمًا بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ قَبْلَ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُهَا بَعْدَ كَوْنِهَا . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ : قَدِ انْقَرَضَ هَذَا الْمَذْهَبُ ، وَلَا نَعْرِفُ أَحَدًا يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ . قَالَ : وَالْقَدَرِيَّةُ الْيَوْمُ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ قَبْلَ وُقُوعِهَا ، وَإِنَّمَا خَالَفُوا السَّلَفَ فِي زَعْمِهِمْ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَقْدُورَةٌ لَهُمْ وَوَاقِعَةٌ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِقْلَالِ ، وهو مَعَ كَوْنِهِ مَذْهَبًا بَاطِلًا أَخَفُّ مِنَ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ . وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ فَأَنْكَرُوا تَعَلُّقَ الْإِرَادَةِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ فِرَارًا مِنْ تَعَلُّقِ الْقَدِيمِ بِالْمُحْدَثِ ، وَهُمْ مَخْصُومُونَ بِمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِنْ سَلَّمَ الْقَدَرِيُّ الْعِلْمَ خُصِمَ . يَعْنِي يُقَالُ لَهُ : أَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي الْوُجُودِ خِلَافُ مَا تَضَمَّنَهُ الْعِلْمُ ؟ فَإِنْ مَنَعَ وَافَقَ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَإِنْ أَجَازَ لَزِمَهُ نِسْبَةُ الْجَهْلِ ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ .
( تَنْبِيهٌ ) : ظَاهِرُ السِّيَاقِ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى مَنْ صَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ ، وَقَدِ اكْتَفَى الْفُقَهَاءُ بِإِطْلَاقِ الْإِيمَانِ عَلَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَلَا اخْتِلَافَ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِرَسُولِ اللَّهِ الْمُرَادُ بِهِ الْإِيمَانُ بِوُجُودِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ ، فَيَدْخُلُ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ تَحْتَ ذَلِكَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ : ( أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ ) قَالَ النَّوَوِيُّ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعِبَادَةِ مَعْرِفَةَ اللَّهِ فَيَكُونُ عَطْفُ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا عَلَيْهَا لِإِدْخَالِهَا فِي الْإِسْلَامِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعِبَادَةِ الطَّاعَةَ مُطْلَقًا ، فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْوَظَائِفِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَطْفُ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ . قُلْتُ : أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ فَبَعِيدٌ ; لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الْإِيمَانِ ، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَهُوَ أَعْمَالٌ قَوْلِيَّةٌ وَبَدَنِيَّةٌ ، وَقَدْ عَبَّرَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ هُنَا بِقَوْلِهِ " أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِبَادَةِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ دَفْعُ الِاحْتِمَالِ الثَّانِي . وَلَمَّا عَبَّرَ الرَّاوِي بِالْعِبَادَةِ احْتَاجَ أَنْ يُوَضِّحَهَا بِقَوْلِهِ : " وَلَا تُشْرِكْ [1/146] بِهِ شَيْئًا " وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهَا فِي رِوَايَةِ عُمَرَ لِاسْتِلْزَامِهَا ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : السُّؤَالُ عَامٌّ لِأَنَّهُ سَأَلَ عَنْ مَاهِيَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَالْجَوَابُ خَاصٌّ لِقَوْلِهِ أَنْ تَعْبُدَ أَوْ تَشْهَدَ ، وَكَذَا قَالَ فِي الْإِيمَانِ أَنْ تُؤْمِنَ ، وَفِي الْإِحْسَانِ أَنْ تَعْبُدَ . وَالْجَوَابُ : أَنَّ ذَلِكَ لِنُكْتَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَبَيْنَ أَنْ وَالْفِعْلِ ; لِأَنَّ " أَنْ تَفْعَلَ " تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ ، وَالْمَصْدَرُ لَا يَدُلُّ عَلَى زَمَانٍ . عَلَى أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ أَوْرَدَهُ هُنَا بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ ، فَفِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ : " شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمُخَاطَبَتِهِ بِالْإِفْرَادِ اخْتِصَاصَهُ بِذَلِكَ ، بَلِ الْمُرَادُ تَعْلِيمُ السَّامِعِينَ الْحُكْمَ فِي حَقِّهِمْ وَحَقِّ مَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِهِ : " يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ " . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ ؟ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ ، وهو مَرْدُودٌ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِإِسْنَادِهِ الَّذِي عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ فِي حَدِيثِ عُمَرَ أَوَّلُهُ " أَنَّ رَجُلًا فِي آخِرِ عُمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ ، وَآخِرُ عُمْرِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَإِنَّهَا آخِرُ سَفَرَاتِهِ ، ثُمَّ بَعْدَ قُدُومِهِ بِقَلِيلٍ دُونَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مَاتَ ، وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ بَعْدَ إِنْزَالِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ لِتَقْرِيرِ أُمُورِ الدِّينِ - الَّتِي بَلَّغَهَا مُتَفَرِّقَةً - فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، لِتَنْضَبِطَ . وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ جَوَازُ سُؤَالِ الْعَالِمِ مَا لَا يَجْهَلُهُ السَّائِلُ لِيَعْلَمَهُ السَّامِعُ ، وَأَمَّا الْحَجُّ فَقَدْ ذُكِرَ ، لَكِنْ بَعْضُ الرُّوَاةِ إِمَّا ذَهَلَ عَنْهُ وَإِمَّا نَسِيَهُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي ذِكْرِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ دُونَ بَعْضٍ ، فَفِي رِوَايَةِ كَهْمَسٍ : " وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا " وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ ، وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ لَمْ يَذْكُرِ الصَّوْمَ ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي عَامِرٍ ذَكَرَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ حَسْبُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَزِيدًا عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ . وَذَكَرَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ فِي رِوَايَتِهِ الْجَمِيعَ ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَتَحُجَّ " وَتَعْتَمِرَ ، وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ ، وَتُتَمِّمَ الْوُضُوءَ " . وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ فِي رِوَايَتِهِ : " وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ " قَالَ فَذَكَرَ عُرَى الْإِسْلَامِ ، فَتَبَيَّنَ مَا قُلْنَاهُ : إِنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ضَبَطَ مَا لَمْ يَضْبِطْهُ غَيْرُهُ .
قَوْلُهُ : ( وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ ) زَادَ مُسْلِمٌ : " الْمَكْتُوبَةَ " أَيِ : الْمَفْرُوضَةَ . وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمَكْتُوبَةِ لِلتَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ ، فَإِنَّهُ عَبَّرَ فِي الزَّكَاةِ بِالْمَفْرُوضَةِ ، وَلِاتِّبَاعِ قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا
قَوْلُهُ : ( وَتَصُومَ رَمَضَانَ ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى قَوْلِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةِ شَهْرٍ إِلَيْهِ ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَوْلُهُ : ( الْإِحْسَانُ ) هُوَ مَصْدَرٌ ، تَقُولُ أَحْسَنَ يُحْسِنُ إِحْسَانًا . وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ تَقُولُ : أَحْسَنْتُ كَذَا إِذَا أَتْقَنْتُهُ ، وَأَحْسَنْتُ إِلَى فُلَانٍ إِذَا أَوْصَلْتُ إِلَيْهِ النَّفْعَ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِتْقَانُ الْعِبَادَةِ . وَقَدْ يُلْحَظُ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُخْلِصَ مَثَلًا مُحْسِنٌ بِإِخْلَاصِهِ إِلَى نَفْسِهِ ، وَإِحْسَانُ الْعِبَادَةِ الْإِخْلَاصُ فِيهَا وَالْخُشُوعُ وَفَرَاغُ الْبَالِ حَالَ التَّلَبُّسِ بِهَا وَمُرَاقَبَةُ الْمَعْبُودِ ، وَأَشَارَ فِي الْجَوَابِ إِلَى حَالَتَيْنِ : أَرْفَعُهُمَا أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ مُشَاهَدَةُ الْحَقِّ بِقَلْبِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ بِعَيْنِهِ ، وهو قَوْلُهُ : " كَأَنَّكَ تَرَاهُ " أَيْ : ، وهو يَرَاكَ ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ أَنَّ الْحَقَّ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ يَرَى كُلَّ مَا يَعْمَلُ ، وهو قَوْلُهُ : " فَإِنَّهُ يَرَاكَ " . وَهَاتَانِ الْحَالَتَانِ يُثَمِّرُهُمَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَخَشْيَتُهُ ، وَقَدْ عَبَّرَ فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بِقَوْلِهِ : " أَنْ تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ " وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ . وَقَالَ النَّوَوِيُّ : مَعْنَاهُ أَنَّكَ إِنَّمَا تُرَاعِي الْآدَابَ الْمَذْكُورَةَ إِذَا كُنْتَ تَرَاهُ وَيَرَاكَ ، لِكَوْنِهِ يَرَاكَ لَا لِكَوْنِكَ تَرَاهُ فَهُوَ دَائِمًا يَرَاكَ ، فَأَحْسِنْ عِبَادَتَهُ وَإِنْ لَمْ تَرَهُ ، فَتَقْدِيرُ الْحَدِيثِ : فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَاسْتَمِرَّ عَلَى إِحْسَانِ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ يَرَاكَ . قَالَ : وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ ، وَقَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْمُسْلِمِينَ ، وهو عُمْدَةُ الصِّدِّيقِينَ وَبُغْيَةُ [1/147] السَّالِكِينَ وَكَنْزُ الْعَارِفِينَ وَدَأْبُ الصَّالِحِينَ ، وهو مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي أُوتِيَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَدْ نَدَبَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ إِلَى مُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ لِيَكُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنَ التَّلَبُّسِ بِشَيْءٍ مِنَ النَّقَائِصِ احْتِرَامًا لَهُمْ وَاسْتِحْيَاءً مِنْهُمْ ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَزَالُ اللَّهُ مُطَّلِعًا عَلَيْهِ فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ ؟ انْتَهَى . وَقَدْ سَبَقَ إِلَى أَصْلِ هَذَا الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي تَفْسِيرِ لُقْمَانَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( تَنْبِيهٌ ) : دَلَّ سِيَاقُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا بِالْأَبْصَارِ غَيْرُ وَاقِعَةٍ ، وَأَمَّا رُؤْيَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَاكَ لِدَلِيلٍ آخَرَ ، وَقَدْ صَرَّحَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا . وَأَقْدَمَ بَعْضُ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَقَالَ : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَقَامِ الْمَحْوِ وَالْفَنَاءِ ، وَتَقْدِيرُهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ - أَيْ : فَإِنْ لَمْ تَصِرْ - شَيْئًا وَفَنِيتَ عَنْ نَفْسِكَ حَتَّى كَأَنَّكَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فَإِنَّكَ حِينَئِذٍ تَرَاهُ . وَغَفَلَ قَائِلُ هَذَا - لِلْجَهْلِ بِالْعَرَبِيَّةِ - عَنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا زَعَمَ لَكَانَ قَوْلُهُ : " تَرَاهُ " مَحْذُوفَ الْأَلِفِ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَجْزُومًا ، لِكَوْنِهِ عَلَى زَعْمِهِ جَوَابَ الشَّرْطِ ، وَلَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ بِحَذْفِ الْأَلِفِ ، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ إِثْبَاتَهَا فِي الْفِعْلِ الْمَجْزُومِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِذْ لَا ضَرُورَةَ هُنَا . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ مَا ادَّعَاهُ صَحِيحًا لَكَانَ قَوْلُهُ : " فَإِنَّهُ يَرَاكَ " ضَائِعًا لِأَنَّهُ لَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ . وَمِمَّا يُفْسِدُ تَأْوِيلَهُ رِوَايَةُ كَهْمَسٍ فَإِنَّ لَفْظَهَا " فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ " وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ ، فَسَلَّطَ النَّفْيَ عَلَى الرُّؤْيَةِ لَا عَلَى الْكَوْنِ الَّذِي حُمِلَ عَلَى ارْتِكَابِ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ : " فَإِنْ لَمْ تَرَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ " وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَكُلُّ هَذَا يُبْطِلُ التَّأْوِيلَ الْمُتَقَدِّمَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَائِدَةٌ ) : زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ قَوْلَ السَّائِلِ " صَدَقْتَ " عَقِبَ كُلِّ جَوَابٍ مِنَ الْأَجْوِبَةِ الثَّلَاثَةِ ، وَزَادَ أَبُو فَرْوَةَ فِي رِوَايَتِهِ " فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَ الرَّجُلِ صَدَقْتَ أَنْكَرْنَاهُ " وَفِي رِوَايَةِ كَهْمَسٍ : " فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ " . وَفِي رِوَايَةِ مَطَرٍ : " انْظُرُوا إِلَيْهِ كَيْفَ يَسْأَلُهُ وَانْظُرُوا إِلَيْهِ كَيْفَ يُصَدِّقُهُ " وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ : " انْظُرُوا ، وهو يَسْأَلُهُ ، وهو يُصَدِّقُهُ كَأَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُ " . وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ : " قَالَ الْقَوْمُ : مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِثْلَ هَذَا ، كَأَنَّهُ يُعَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، يَقُولُ لَهُ : صَدَقْتَ صَدَقْتَ " . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : إِنَّمَا عَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، وَلَيْسَ هَذَا السَّائِلُ مِمَّنْ عُرِفَ بِلِقَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا بِالسَّمَاعِ مِنْهُ ، ثُمَّ هُوَ يَسْأَلُ سُؤَالَ عَارِفٍ بِمَا يَسْأَلُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُهُ بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ تَعَجُّبَ الْمُسْتَبْعِدِ لِذَلِكَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ : ( مَتَى السَّاعَةُ ؟ ) أَيْ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ ؟ وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ ، وَالْمُرَادُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ .
قَوْلُهُ : ( مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا ) " مَا " نَافِيَةٌ . وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ : " فَنَكَسَ فَلَمْ يُجِبْهُ ، ثُمَّ أَعَادَ فَلَمْ يُجِبْهُ ثَلَاثًا ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : مَا الْمَسْئُولُ " .
قَوْلُهُ : ( بِأَعْلَمَ ) الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُشْعِرًا بِالتَّسَاوِي فِي الْعِلْمِ لَكِنَّ الْمُرَادَ التَّسَاوِي فِي الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا لِقَوْلِهِ بَعْدَ : " خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ " وَسَيَأْتِي نَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي أَوَاخِرِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ : " مَا كُنْتُ بِأَعْلَمَ بِهِ مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ " فَإِنَّ الْمُرَادَ أَيْضًا التَّسَاوِي فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ ، وَفِي [1/148] حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُنَا فَقَالَ : " سُبْحَانَ اللَّهِ ، خَمْسٌ مِنَ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ " ثُمَّ تَلَا الْآيَةَ . قَالَ النَّوَوِيُّ : يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّ الْعَالِمَ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ ، وَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ نَقْصٌ مِنْ مَرْتَبَتِهِ ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى مَزِيدِ وَرَعِهِ . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ مَقْصُودُ هَذَا السُّؤَالِ كَفُّ السَّامِعِينَ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ ; لِأَنَّهُمْ قَدْ أَكْثَرُوا السُّؤَالَ عَنْهَا كَمَا وَرَدَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ ، فَلَمَّا حَصَلَ الْجَوَابُ بِمَا ذُكِرَ هُنَا حَصَلَ الْيَأْسُ مِنْ مَعْرِفَتِهَا ، بِخِلَافِ الْأَسْئِلَةِ الْمَاضِيَةِ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا اسْتِخْرَاجُ الْأَجْوِبَةِ لِيَتَعَلَّمَهَا السَّامِعُونَ وَيَعْمَلُوا بِهَا ، وَنَبَّهَ بِهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ عَلَى تَفْصِيلِ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ .
قَوْلُهُ : ( مِنَ السَّائِلِ ) عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ لَسْتُ بِأَعْلَمَ بِهَا مِنْكَ إِلَى لَفْظٍ يُشْعِرُ بِالتَّعْمِيمِ تَعْرِيضًا لِلسَّامِعِينَ ، أَيْ أَنَّ كُلَّ مَسْئُولٍ وَكُلَّ سَائِلٍ فَهُوَ كَذَلِكَ .
( فَائِدَةٌ ) : هَذَا السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ وَقَعَ بَيْنَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَجِبْرِيلَ ، لَكِنْ كَانَ عِيسَى سَائِلًا وَجِبْرِيلُ مَسْئُولًا . قَالَ الْحُمَيْدِيُّ فِي نَوَادِرِهِ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ : سَأَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ جِبْرِيلَ عَنِ السَّاعَةِ ، قَالَ فَانْتَفَضَ بِأَجْنِحَتِهِ وَقَالَ : مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ .
قَوْلُهُ : ( وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا ) وَفِي التَّفْسِيرِ " وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ " ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ : " وَلَكِنْ لَهَا عَلَامَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا " ، وَفِي رِوَايَةِ كَهْمَسٍ : " قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا فَأَخْبَرَهُ بِهَا فَتَرَدَّدْنَا " فَحَصَلَ التَّرَدُّدُ هَلِ ابْتَدَأَهُ بِذِكْرِ الْأَمَارَاتِ أَوِ السَّائِلُ سَأَلَهُ عَنِ الْأَمَارَاتِ ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ : وَسَأُخْبِرُكَ ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ : فَأَخْبِرْنِي . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَلَفْظُهَا " وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ نَبَّأْتُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا ، قَالَ : أَجَلْ " وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَادَ " فَحَدِّثْنِي " وَقَدْ حَصَلَ تَفْصِيلُ الْأَشْرَاطِ مِنَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، وَأَنَّهَا الْعَلَامَاتُ ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ شَرَطٍ بِفَتْحَتَيْنِ كَقَلَمٍ وَأَقْلَامٍ ، وَيُسْتَفَادُ مِنِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ التَّحْدِيثَ وَالْإِخْبَارَ وَالْإِنْبَاءَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا غَايَرَ بَيْنَهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ اصْطِلَاحًا . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : عَلَامَاتُ السَّاعَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ : مَا يَكُونُ مِنْ نَوْعِ الْمُعْتَادِ ، أَوْ غَيْرِهِ . وَالْمَذْكُورُ هُنَا الْأَوَّلُ . وَأَمَّا الْغَيْرُ مِثْلُ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا فَتِلْكَ مُقَارِبَةٌ لَهَا أَوْ مُضَايِقَةٌ ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْعَلَامَاتُ السَّابِقَةُ عَلَى ذَلِكَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ : ( إِذَا وَلَدَتْ ) التَّعْبِيرُ بِإِذَا لِلْإِشْعَارِ بِتَحَقُّقِ الْوُقُوعِ ، وَوَقَعَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِلْأَشْرَاطِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى ، وَالتَّقْدِيرُ وِلَادَةُ الْأَمَةِ وَتَطَاوُلُ الرُّعَاةِ . فَإِنْ قِيلَ الْأَشْرَاطُ جَمْعٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ وَالْمَذْكُورُ هُنَا اثْنَانِ ، أَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ : بِأَنَّهُ قَدْ تُسْتَقْرَضُ الْقِلَّةُ لِلْكَثْرَةِ ، وَبِالْعَكْسِ . أَوْ لِأَنَّ الْفَرْقَ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي النَّكِرَاتِ لَا فِي الْمَعَارِفِ ، أَوْ لِفَقْدِ جَمْعِ الْكَثْرَةِ لِلَفْظِ الشَّرْطِ . وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ نَظَرٌ ، وَلَوْ أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا دَلِيلُ الْقَوْلِ الصَّائِرِ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ لَمَا بَعُدَ عَنِ الصَّوَابِ . وَالْجَوَابُ الْمَرْضِيُّ أَنَّ الْمَذْكُورَ مِنَ الْأَشْرَاطِ ثَلَاثَةٌ ، وَإِنَّمَا بَعْضُ الرُّوَاةِ اقْتَصَرَ عَلَى اثْنَيْنِ مِنْهَا لِأَنَّهُ هُنَا ذَكَرَ الْوِلَادَةَ وَالتَّطَاوُلَ ، وَفِي التَّفْسِيرِ ذِكْرُ الْوِلَادَةِ وَتَرَؤُّسُ الْحُفَاةِ ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ الَّتِي أَخْرَجَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهَا وَسَاقَ ابْنُ خُزَيْمَةَ لَفْظَهَا عَنْ [1/149] أَبِي حَيَّانَ ذِكْرُ الثَّلَاثَةِ ، وَكَذَا فِي مُسْتَخْرَجِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُلَيَّةَ ، وَكَذَا ذَكَرَهَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ ، وَوَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ ، فَفِي رِوَايَةِ كَهْمَسٍ ذِكْرُ الْوِلَادَةِ وَالتَّطَاوُلُ فَقَطْ وَوَافَقَهُ عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ ، وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ ذِكْرُ الثَّلَاثَةِ وَوَافَقَهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ ، وَكَذَا ذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي عَامِرٍ .
قَوْلُهُ : ( إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ رَبَّهَا ) وَفِي التَّفْسِيرِ " رَبَّتَهَا " بِتَاءِ التَّأْنِيثِ ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ ، وَلِمُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ مِثْلُهُ وَزَادَ " يَعْنِي السَّرَارِيَّ " ، وَفِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ : " إِذَا رَأَيْتَ الْمَرْأَةَ تَلِدُ رَبَّهَا " وَنَحْوُهُ لِأَبِي فَرْوَةَ ، وَفِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ : " الْإِمَاءُ أَرْبَابُهُنَّ " بِلَفْظِ الْجَمْعِ . وَالْمُرَادُ بِالرَّبِّ الْمَالِكُ أَوِ السَّيِّدُ . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي مَعْنَى ذَلِكَ ، قَالَ ابْنُ التِّينِ : اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ ، فَذَكَرَهَا لَكِنَّهَا مُتَدَاخِلَةٌ ، وَقَدْ لَخَّصْتُهَا بِلَا تَدَاخُلٍ فَإِذَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ : مَعْنَاهُ اتِّسَاعُ الْإِسْلَامِ وَاسْتِيلَاءُ أَهْلِهِ عَلَى بِلَادِ الشِّرْكِ وَسَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ ، فَإِذَا مَلَكَ الرَّجُلُ الْجَارِيَةَ وَاسْتَوْلَدَهَا كَانَ الْوَلَدُ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ رَبِّهَا لِأَنَّهُ وَلَدُ سَيِّدِهَا . قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ : إِنَّهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . قُلْتُ : لَكِنْ فِي كَوْنِهِ الْمُرَادَ نَظَرٌ ; لِأَنَّ اسْتِيلَادَ الْإِمَاءِ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْمَقَالَةِ ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى بِلَادِ الشِّرْكِ وَسَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ وَاتِّخَاذُهُمْ سَرَارِيَّ وَقَعَ أَكْثَرُهُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ، وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي الْإِشَارَةَ إِلَى وُقُوعِ مَا لَمْ يَقَعْ مِمَّا سَيَقَعُ قُرْبَ قِيَامِ السَّاعَةِ ، وَقَدْ فَسَّرَهُ وَكِيعٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ بِأَخَصَّ مِنَ الْأَوَّلِ . قَالَ : أَنْ تَلِدَ الْعَجَمُ الْعَرَبَ ، وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْإِمَاءَ يَلِدْنَ الْمُلُوكَ فَتَصِيرُ الْأُمُّ مِنْ جُمْلَةِ الرَّعِيَّةِ وَالْمَلِكُ سَيِّدُ رَعِيَّتِهِ ، وَهَذَا لِإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ ، وَقَرَّبَهُ بأَنَّ الرُّؤَسَاءَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ كَانُوا يَسْتَنْكِفُونَ غَالِبًا مِنْ وَطْءِ الْإِمَاءِ وَيَتَنَافَسُونَ فِي الْحَرَائِرِ ، ثُمَّ انْعَكَسَ الْأَمْرُ وَلَا سِيَّمَا فِي أَثْنَاءِ دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ ، وَلَكِنَّ رِوَايَةَ " رَبَّتَهَا " بِتَاءِ التَّأْنِيثِ قَدْ لَا تُسَاعِدُ عَلَى ذَلِكَ .
وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ إِطْلَاقَ " رَبَّتَهَا " عَلَى وَلَدِهَا مَجَازٌ ; لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبًا فِي عِتْقِهَا بِمَوْتِ أَبِيهِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ السَّبْيَ إِذَا كَثُرَ فَقَدْ يُسْبَى الْوَلَدُ أَوَّلًا ، وهو صَغِيرٌ ثُمَّ يُعْتَقُ وَيَكْبَرُ وَيَصِيرُ رَئِيسًا بَلْ مَلِكًا ثُمَّ تُسْبَى أُمُّهُ فِيمَا بَعْدُ فَيَشْتَرِيهَا عَارِفًا بِهَا ، أَوْ وهو لَا يَشْعُرُ أَنَّهَا أُمُّهُ ، فَيَسْتَخْدِمُهَا أَوْ يَتَّخِذُهَا مَوْطُوءَةً أَوْ يُعْتِقُهَا وَيَتَزَوَّجُهَا . وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ : " أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ بَعْلَهَا " وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَحُمِلَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْبَعْلِ الْمَالِكُ ، وهو أَوْلَى لِتَتَّفِقَ الرِّوَايَاتُ . الثَّانِي أَنْ تَبِيعَ السَّادَةُ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِمْ وَيَكْثُرُ ذَلِكَ فَيَتَدَاوَلُ الْمُلَّاكُ الْمُسْتَوْلَدَةَ حَتَّى يَشْتَرِيَهَا وَلَدُهَا وَلَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا فَالَّذِي يَكُونُ مِنَ الْأَشْرَاطِ غَلَبَةُ الْجَهْلِ بِتَحْرِيمِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ أَوِ الِاسْتِهَانَةُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا فَلَا يَصْلُحُ الْحَمْلُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ لَا جَهْلَ وَلَا اسْتِهَانَةَ عِنْدَ الْقَائِلِ بِالْجَوَازِ ، قُلْنَا : يَصْلُحُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى صُورَةِ اتِّفَاقِيَّةٍ كَبَيْعِهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ . الثَّالِثُ : وهو مِنْ نَمَطِ الَّذِي قَبْلَهُ ، قَالَ النَّوَوِيُّ : لَا يَخْتَصُّ شِرَاءُ الْوَلَدِ أُمَّهُ بِأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ ، بَلْ يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِهِنَّ بِأَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ حُرًّا مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ ، أَوْ رَقِيقًا بِنِكَاحٍ أَوْ زِنًا ثُمَّ تُبَاعُ الْأَمَةُ فِي الصُّورَتَيْنِ بَيْعًا صَحِيحًا وَتَدُورُ فِي الْأَيْدِي حَتَّى يَشْتَرِيَهَا ابْنُهَا أَوِ ابْنَتُهَا . وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا تَفْسِيرُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ السَّرَارِيُّ لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ .
الرَّابِعُ : أَنْ يَكْثُرَ الْعُقُوقُ فِي الْأَوْلَادِ فَيُعَامِلُ الْوَلَدُ أُمَّهُ مُعَامَلَةَ السَّيِّدِ أَمَتَهُ مِنَ الْإِهَانَةِ بِالسَّبِّ وَالضَّرْبِ وَالِاسْتِخْدَامِ . فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ رَبُّهَا مَجَازًا لِذَلِكَ . أَوِ الْمُرَادُ بِالرَّبِّ الْمُرَبِّي فَيَكُونُ حَقِيقَةً ، وَهَذَا أَوْجَهُ الْأَوْجُهِ عِنْدِي لِعُمُومِهِ ; وَلِأَنَّ الْمَقَامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَالَةٌ تَكُونُ مَعَ كَوْنِهَا تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْأَحْوَالِ مُسْتَغْرَبَةً . وَمُحَصَّلُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ السَّاعَةَ يَقْرُبُ قِيَامُهَا عِنْدَ انْعِكَاسِ الْأُمُورِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمُرَبَّى مُرَبِّيًا وَالسَّافِلُ عَالِيًا ، وهو مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ [1/150] فِي الْعَلَامَةِ الْأُخْرَى أَنْ تَصِيرَ الْحُفَاةُ مُلُوكَ الْأَرْضِ .
( تَنْبِيهَانِ ) : أَحَدُهُمَا قَالَ النَّوَوِيُّ : لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَلَا عَلَى جَوَازِهِ ، وَقَدْ غَلِطَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ لِكُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ ; لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا جُعِلَ عَلَامَةً عَلَى شَيْءٍ آخَرَ لَا يَدُلُّ عَلَى حَظْرٍ وَلَا إِبَاحَةٍ . الثَّانِي : يُجْمَعُ بَيْنَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ إِطْلَاقِ الرَّبِّ عَلَى السَّيِّدِ الْمَالِكِ فِي قَوْلِهِ " رَبَّهَا " وَبَيْنَ مَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ ، وهو فِي الصَّحِيحِ : " لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ ، وَضِّئْ رَبَّكَ ، اسْقِ رَبَّكَ ، وَلْيَقُلْ سَيِّدِي وَمَوْلَايَ " بِأَنَّ اللَّفْظَ هُنَا خَرَجَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ أَوِ الْمُرَادُ بِالرَّبِّ هُنَا الْمُرَبِّي ، وَفِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ السَّيِّدُ ، أَوْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ مُتَأَخِّرٌ ، أَوْ مُخْتَصٌّ بِغَيْرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
قَوْلُهُ : ( تَطَاوَلَ ) أَيْ : تَفَاخَرُوا فِي تَطْوِيلِ الْبُنَيَانِ وَتَكَاثَرُوا بِهِ .
قَوْلُهُ : ( رُعَاةَ الْإِبِلِ ) هُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ جَمْعُ رَاعٍ كَقُضَاةٍ وَقَاضٍ . وَالْبُهْمُ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِفَتْحِهَا وَلَا يَتَّجِهُ مَعَ ذِكْرِ الْإِبِلِ ، وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ مَعَ ذِكْرِ الشِّيَاهِ أَوْ مَعَ عَدَمِ الْإِضَافَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ : رِعَاءَ الْبُهْمِ ، وَمِيمُ الْبُهْمِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ يَجُوزُ ضَمُّهَا عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ الرُّعَاةِ ، وَيَجُوزُ الْكَسْرُ عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ الْإِبِلِ يَعْنِي الْإِبِلَ السُّودَ ، وَقِيلَ : إِنَّهَا شَرُّ الْأَلْوَانِ عِنْدَهُمْ ، وَخَيْرُهَا الْحُمْرُ الَّتِي ضُرِبَ بِهَا الْمَثَلُ فَقِيلَ : " خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ " وَوَصْفُ الرُّعَاةِ بِالْبُهْمِ إِمَّا لِأَنَّهُمْ مَجْهُولُو الْأَنْسَابِ ، وَمِنْهُ أُبْهِمَ الْأَمْرُ فَهُوَ مُبْهَمٌ إِذَا لَمْ تُعْرَفْ حَقِيقَتُهُ ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُمْ سُودُ الْأَلْوَانِ لِأَنَّ الْأُدْمَةَ غَالِبُ أَلْوَانِهِمْ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا شَيْءَ لَهُمْ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : يُحْشَرُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً بُهْمًا قَالَ : وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ نَسَبَ لَهُمُ الْإِبِلَ ، فَكَيْفَ يُقال : لا شَيْءَ لَهُمْ ؟ قُلْتُ : يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا إِضَافَةُ اخْتِصَاصٍ لَا مِلْكٍ ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ أَنَّ الرَّاعِيَ يَرْعَى لِغَيْرِهِ بِالْأُجْرَةِ ، وَأَمَّا الْمَالِكُ فَقَلَّ أَنْ يُبَاشِرَ الرَّعْيَ بِنَفْسِهِ . قَوْلُهُ فِي التَّفْسِيرِ : وَإِذَا كَانَ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ ، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ : الصُّمُّ الْبُكْمُ . وَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي وَصْفِهِمْ بِالْجَهْلِ ، أَيْ : لَمْ يَسْتَعْمِلُوا أَسْمَاعَهُمْ وَلَا أَبْصَارَهُمْ فِي الشَّيْءِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ حَوَاسُّهُمْ سَلِيمَةً . قَوْلُهُ رُءُوسُ النَّاسِ أَيْ : مُلُوكُ الْأَرْضِ ، وَصَرَّحَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ مِثْلُهُ ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ أَهْلُ الْبَادِيَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَغَيْرِهِ . قَالَ : مَا الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ ؟ قَالَ : الْعُرَيْبُ . وهو بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى التَّصْغِيرِ . وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَمْزَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا : " مِنِ انْقِلَابِ الدِّينِ تَفَصُّحُ النَّبَطِ وَاتِّخَاذُهُمُ الْقُصُورَ فِي الْأَمْصَارِ " . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارُ عَنْ تَبَدُّلِ الْحَالِ بِأَنْ يَسْتَوْلِيَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ عَلَى الْأَمْرِ وَيَتَمَلَّكُوا الْبِلَادَ بِالْقَهْرِ فَتَكْثُرُ أَمْوَالُهُمْ وَتَنْصَرِفُ هِمَمُهُمْ إِلَى تَشْيِيدِ الْبُنْيَانِ وَالتَّفَاخُرِ بِهِ ، وَقَدْ شَاهَدْنَا ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ . وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ : " لَا تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعُ ابْنُ لُكَعٍ " وَمِنْهُ : " إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ - أَيْ : أُسْنِدَ - إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ " وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحِ .
قَوْلُهُ : ( فِي خَمْسٍ ) أَيْ : عِلْمُ وَقْتِ السَّاعَةِ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ خَمْسٍ . وَحَذْفُ مُتَعَلَّقِ الْجَارِّ سَائِغٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فِي تِسْعِ آيَاتٍ أَيْ : اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي جُمْلَةِ تِسْعِ آيَاتٍ ، وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ : " قَالَ فَمَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : هِيَ فِي خَمْسٍ مِنَ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ " قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : لَا مَطْمَعَ لِأَحَدٍ فِي عِلْمِ [1/151] شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ بِهَذِهِ الْخَمْسِ ، وهو فِي الصَّحِيحِ . قَالَ : فَمَنِ ادَّعَى عِلْمَ شَيْءٍ مِنْهَا غَيْرَ مُسْنَدَةٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ . قَالَ : وَأَمَّا ظَنُّ الْغَيْبِ فَقَدْ يَجُوزُ مِنَ الْمُنَجِّمِ وَغَيْرِهِ إِذَا كَانَ عَنْ أَمْرٍ عَادِيٍّ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ . وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ وَالْجُعْلِ وَإِعْطَائِهَا فِي ذَلِكَ ، وَجَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : أُوتِيَ نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى هَذِهِ الْخَمْسِ . وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا نَحْوُهُ أَخْرَجَهُمَا أَحْمَدُ ، وَأَخْرَجَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْعِلْمَ بِوَقْتِ الْكُسُوفِ قَبْلَ ظُهُورِهِ فَأُنْكِرَ عَلَيْهِ فَقَالَ : إِنَّمَا الْغَيْبُ خَمْسٌ - وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ - وَمَا عَدَا ذَلِكَ غَيْبٌ يَعْلَمُهُ قَوْمٌ وَيَجْهَلُهُ قَوْمٌ .
( تَنْبِيهٌ ) : تَضَمَّنَ الْجَوَابُ زِيَادَةً عَلَى السُّؤَالِ لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ إِرْشَادًا لِلْأُمَّةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ . فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَدَاةُ حَصْرٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ ، أَجَابَ الطِّيبِيُّ بِأَنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ عَظِيمَ الْخَطَرِ وَمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْفِعْلُ رَفِيعُ الشَّأْنِ فُهِمَ مِنْهُ الْحَصْرُ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لُوحِظَ مَا ذُكِرَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مِنْ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَدَّعُونَ عِلْمَ نُزُولِ الْغَيْثِ . فَيُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ نَفْيُ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ وَاخْتِصَاصُهُ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
( فَائِدَةٌ ) : النُّكْتَةُ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْإِثْبَاتِ إِلَى النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَكَذَا التَّعْبِيرُ بِالدِّرَايَةِ دُونَ الْعِلْمِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّعْمِيمِ ، إِذِ الدِّرَايَةُ اكْتِسَابُ عِلْمِ الشَّيْءِ بِحِيلَةٍ ، فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ مُخْتَصَّاتِهَا وَلَمْ تَقَعْ مِنْهُ عَلَى عِلْمٍ كَانَ عَدَمُ اطِّلَاعِهَا عَلَى عِلْمِ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى . ا هـ مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ الطِّيبِيِّ .
قَوْلُهُ : ( الْآيَةَ ) أَيْ : تَلَا الْآيَةَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ . وَلِمُسْلِمٍ إِلَى قَوْلِهِ : خَبِيرٌ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ . وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ قَوْلِهِ إِلَى الْأَرْحَامِ فَهُوَ تَقْصِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ ، وَالسِّيَاقُ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّهُ تَلَا الْآيَةَ كُلَّهَا .
قَوْلُهُ : ( ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ : رُدُّوهُ ) زَادَ فِي التَّفْسِيرِ : " فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوهُ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا " . فِيهِ أَنَّ الْمَلَكَ يَجُوزُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَرَاهُ وَيَتَكَلَّمُ بِحَضْرَتِهِ ، وهو يَسْمَعُ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ : ( جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ ) فِي التَّفْسِيرِ " لِيُعَلِّمَ " وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ : " أَرَادَ أَنْ تَعْلَمُوا إِذَا لَمْ تَسْأَلُوا " وَمِثْلُهُ لِعُمَارَةَ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ : " وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مَا كُنْتُ بِأَعْلَمَ بِهِ مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ ، وَإِنَّهُ لَجِبْرِيلُ " وَفِي حَدِيثِ أَبِي عَامِرٍ : " ثُمَّ وَلَّى فَلَمَّا لَمْ نَرَ طَرِيقَهُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : سُبْحَانَ اللَّهُ ، هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ . وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا جَاءَنِي قَطُّ وإِلَّا وَأَنَا أَعْرِفُهُ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَرَّةُ " ، وَفِي رِوَايَةِ التَّيْمِيِّ : " ثُمَّ نَهَضَ فَوَلَّى ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : عَلَيَّ بِالرَّجُلِ ، فَطَلَبْنَاهُ كُلَّ مَطْلَبٍ فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ . فَقَالَ : هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا ؟ هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ لِيُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ ، خُذُوا عَنْهُ ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا شُبِّهَ عَلَيَّ مُنْذُ أَتَانِي قَبْلَ مَرَّتِي هَذِهِ ، وَمَا عَرَفْتُهُ حَتَّى وَلَّى " . قَالَ ابْنُ حِبَّانَ تَفَرَّدَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ بِقَوْلِهِ " خُذُوا عَنْهُ " . قُلْتُ : وهو مِنَ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ ، وَفِي قَوْلِهِ " جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ " إِشَارَةٌ إِلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ ، فَمَا تَفَرَّدَ إِلَّا [1/152] بِالتَّصْرِيحِ ، وَإِسْنَادُ التَّعْلِيمِ إِلَى جِبْرِيلَ مَجَازِيٌّ ; لِأَنَّهُ كَانَ السَّبَبَ فِي الْجَوَابِ ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالْأَخْذِ عَنْهُ . وَاتَّفَقَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ الصَّحَابَةَ بِشَأْنِهِ بَعْدَ أَنِ الْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ . وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ فِي رِوَايَةِ كَهْمَسٍ : " ثُمَّ انْطَلَقَ ، قَالَ عُمَرُ : فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ : يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ ؟ قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ " ; فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِأَنَّ قَوْلَهُ " فَلَبِثْتُ مَلِيًّا " أَيْ : زَمَانًا بَعْدَ انْصِرَافِهِ ، فَكَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتٍ ، وَلَكِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ . لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ ، وَالتِّرْمِذِيِّ : " فَلَبِثْتُ ثَلَاثًا " لَكِنِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ فِيهَا التَّصْحِيفَ ، وَأَنَّ " مَلِيًّا " صُغِّرَتْ مِيمُهَا فَأَشْبَهَتْ " ثَلَاثًا " لِأَنَّهَا تُكْتَبُ بِلَا أَلِفٍ ، وَهَذِهِ الدَّعْوَى مَرْدُودَةٌ ، فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ : " فَلَبِثْنَا لَيَالِيَ ، فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ثَلَاثٍ " وَلِابْنِ حِبَّانَ : " بَعْدَ ثَالِثَةٍ " ، وَلِابْنِ مَنْدَهْ : " بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ " . وَجَمَعَ النَّوَوِيُّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَحْضُرْ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَجْلِسِ ، بَلْ كَانَ مِمَّنْ قَامَ إِمَّا مَعَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا فِي طَلَبِ الرَّجُلِ أَوْ لِشُغْلٍ آخَرَ وَلَمْ يَرْجِعْ مَعَ مَنْ رَجَعَ لِعَارِضٍ عَرَضَ لَهُ ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَاضِرِينَ فِي الْحَالِ ، وَلَمْ يَتَّفِقِ الْإِخْبَارُ لِعُمَرَ إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : " فَلَقِيَنِي " وَقَوْلُهُ : " فَقَالَ لِي يَا عُمَرُ " فَوَجَّهَ الْخِطَابَ لَهُ وَحْدَهُ ، بِخِلَافِ إِخْبَارِهِ الْأَوَّلِ ، وهو جَمْعٌ حَسَنٌ .
( تَنْبِيهَاتٌ ) : الْأَوَّلُ : دَلَّتِ الرِّوَايَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عَرَفَ أَنَّهُ جِبْرِيلُ إِلَّا فِي آخِرِ الْحَالِ ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ حَسَنِ الْهَيْئَةِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لَدَيْهِمْ ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي فَرْوَةَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ " وَإِنَّهُ لَجِبْرِيلُ نَزَلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ " فَإِنَّ قَوْلَهُ نَزَلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَهْمٌ ; لِأَنَّ دِحْيَةَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ : " مَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ " ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ ، الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لَهُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ النَّسَائِيُّ فَقَالَ فِي آخِرِهِ : " فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ " حَسْبُ . وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَحْفُوظَةُ لِمُوَافَقَتِهَا بَاقِيَ الرِّوَايَاتِ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ : فِي قَوْلِهِ : " يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ " دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ الْحَسَنَ يُسَمَّى عِلْمًا وَتَعْلِيمًا ; لِأَنَّ جِبْرِيلَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ سِوَى السُّؤَالِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ سَمَّاهُ مُعَلِّمًا ، وَقَدِ اشْتَهَرَ قَوْلُهُمْ : حُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ الْفَائِدَةَ فِيهِ انْبَنَتْ عَلَى السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ مَعًا .
الثَّالِثُ : قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : هَذَا الْحَدِيثُ يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ لَهُ أُمُّ السُّنَّةِ ، لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ جُمَلِ عِلْمِ السُّنَّةِ . وَقَالَ الطِّيبِيُّ : لِهَذِهِ النُّكْتَةِ اسْتَفْتَحَ بِهِ الْبَغَوِيُّ كِتَابَيْهِ " الْمَصَابِيحَ " و" شَرْحَ السُّنَّةِ " اقْتِدَاءً بِالْقُرْآنِ فِي افْتِتَاحِهِ بِالْفَاتِحَةِ ; لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ عُلُومَ الْقُرْآنِ إِجْمَالًا . وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : اشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى جَمِيعِ وَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مِنْ عُقُودِ الْإِيمَانِ ابْتِدَاءً وَحَالًا وَمَآلًا ، وَمِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ ، وَمِنْ إِخْلَاصِ السَّرَائِرِ وَالتَّحَفُّظِ مِنْ آفَاتِ الْأَعْمَالِ ، حَتَّى إِنَّ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ كُلَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَيْهِ وَمُتَشَعِّبَةٌ مِنْهُ . قُلْتُ : وَلِهَذَا أَشْبَعْتُ الْقَوْلَ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ ، مَعَ أَنَّ الَّذِيَ ذَكَرْتُهُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ قَلِيلٌ ، فَلَمْ أُخَالِفْ طَرِيقَ الِاخْتِصَارِ . وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
قَوْلُهُ : ( قَال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ) يَعْنِي الْمُؤَلِّفَ " جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الْإِيمَانِ " أَيِ : الْإِيمَانِ الْكَامِلِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ كُلِّهَا .