باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا

الكلام فيه على أنواع ؛ الأول : أن التقدير هذا باب في بيان ما كان النبي عليه السلام يتخول الصحابة رضي الله عنهم بالموعظة ، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وهو مضاف إلى ما بعده من الجملة ، وكلمة " ما " مصدرية ، تقديره : باب كون النبي عليه السلام يتخولهم .
الثاني : وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول هو العلم والمذكور في هذا الباب هو التخول بالعلم .
الثالث : قوله " يتخولهم " بالخاء المعجمة وفي آخره اللام ، معناه يتعهدهم ، وهو من التخول وهو التعهد ؛ [2/44] يعني كان يتعهدهم ويراعي الأوقات في وعظهم ويتحرى منها ما كان مظنة القبول ، ولا يفعله كل يوم لئلا يسأم ، والخائل القائم المتعهد للحال - ذكره الخطابي ، والآن يأتي مزيد الكلام فيه إن شاء الله تعالى .
قوله " بالموعظة " قال الصغاني : الوعظ والعظة والموعظة مصادر قولك وعظته أعظه ، والوعظ هو النصح والتذكير بالعواقب ، وعطف العلم على الموعظة من باب عطف العام على الخاص عكس وملائكته وجبريل ، وذكره الموعظة لكونها مذكورة في الحديث ، وأما العلم فإنما ذكره استنباطا .
قوله " كي لا ينفروا " ؛ أي لئلا يملوا عنه ويتباعدوا منه ، يقال نفر ينفر من باب ضرب يضرب ، ونفر ينفر من باب نصر ينصر ، نفورا بالضم ونفار بالفتح ، والنفور أيضا جمع نافر كشاهد وشهود ، ويقال في الدابة نفار - بكسر النون ، وهو اسم مثل الحران ، والتركيب يدل على تجاف وتباعد .
10 - حدثنا محمد بن يوسف قال : أخبرنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا .

مطابقة الحديث لإحدى الترجمتين - وهي قوله " بالموعظة " - ظاهرة ، والباب مترجم بترجمتين ؛ إحداهما قوله " بالموعظة " ، والأخرى قوله " كي لا ينفروا " ، فأورد فيه حديثين كل منهما يطابق واحدة منهما .
بيان رجاله : وهم خسمة ؛ الأول : محمد بن يوسف ، قال الشيخ قطب الدين في شرحه : هو محمد بن يوسف بن واقد الفريابي أبو عبد الله ، الضبي مولاهم ، سكن قيسارية من ساحل الشام ، أدرك الأعمش وروى عنه وعن السفيانين وغيرهم ، وروى عنه أحمد بن حنبل ومحمد الذهلي ومحمد بن مسلم ابن وارة وغيرهم ، وروى عنه البخاري في مواضع كثيرة ، وروى في كتاب الصداق عن إسحاق - غير منسوب - عنه ، وروى بقية الجماعة عن رجل عنه ، قال أحمد : كان رجلا صالحا . وقال النسائي وأبو حاتم : ثقة . وقال البخاري : كان من أفضل أهل زمانه . مات في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة ومائتين ، وقال الكرماني : هو محمد بن يوسف أبو أحمد البيكندي - وهذا وهم ؛ لأن البخاري حيث يطلق محمد بن يوسف لا يريد به إلا الفريابي وإن كان يروي أيضا عن البيكندي ؛ فافهم !
الثاني : سفيان الثوري .
فإن قلت : محمد بن يوسف الفريابي يروي عن سفيان بن عيينة أيضا كما ذكرنا ، فما المرجح هاهنا لسفيان الثوري ؟ قلت : الفريابي وإن كان يروي عن السفيانين ولكنه حيث يطلق لا يريد به إلا الثوري .
الثالث : سليمان بن مهران الأعمش .
الرابع : أبو وائل ، شقيق بن سلمة الكوفي .
الخامس : عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
بيان الأنساب : الفريابي بكسر الفاء وسكون الراء بعدها الياء آخر الحروف وبعد الألف باء موحدة ، نسبة إلى فرياب اسم مدينة من نواحي بلخ ، قال الصغاني : فرياب مثل جربال ، ويقال فيرياب مثل كيمياء ، ويقال فارياب مثل قاصعاء ، وأما فاراب فهي ناحية وراء نهر سيحون في تخوم بلاد الترك ، وفراب مثل سحاب قرية في سفح جبل على ثمانية فراسخ من سمرقند ، وفراب مثل كفار قرية من قرى أصبهان .
الضبي بفتح الضاد المعجمة وتشديد الباء الموحدة ، نسبة إلى ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر ، وفي قريش أيضا ضبة بن الحارث بن فهر - ذكره ابن حبيب ، وفي هذيل أيضا ضبة بن عمرو بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل .
البيكندي بكسر الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف الساكنة وفتح الكاف وسكون النون بعدها الدال المهملة ، نسبة إلى بيكند قرية من قرى بخارى .
بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث والعنعنة ، ومنها أن رواته كوفيون ما خلا الفريابي ، ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي .
فإن قلت : الأعمش مدلس ، وقد عنعن هنا ، وقد روى مسلم من طريق علي بن مسهر عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله فذكر الحديث ، قال علي بن مسهر : قال الأعمش : وحدثني عمرو بن مرة ، عن شقيق ، عن عبد الله - مثله ، فقد يوهم هذا أن الأعمش دلسه أولا عن شقيق ثم سمى الواسطة بينهما ! قلت : صرح أحمد في رواية هذا الحديث بسماع الأعمش عن شقيق فقال : سمعت شقيقا وهو أبو وائل - وكذا صرح الأعمش بالتحديث عند البخاري في الدعوات من رواية حفص بن غياث عنه قال : حدثني شقيق - وزاد في أوله أنهم كانوا ينتظرون عبد الله بن مسعود ليخرج إليهم فيذكرهم ، وأنه لما خرج قال : أما إني أخبر بمكانكم ، ولكنه يمنعني من الخروج إليكم - فذكر الحديث .
[2/45] بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري أيضا في الباب الذي يليه عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن أبي وائل عن ابن مسعود به ، وأخرجه أيضا في الدعوات عن عمر بن حفص عن أبيه عن الأعمش . وأخرجه مسلم في التوبة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع ، وأبو معاوية ومحمد بن نمير عن أبي معاوية ، وعن الأشج عن ابن إدريس ، وعن منجاب عن علي بن مسهر ، وعن إسحاق بن إبراهيم وابن خشرم عن عيسى بن يونس عن ابن أبي عمر عن سفيان - كلهم عن الأعمش ، زاد الأعمش في رواية ابن مسهر : وحدثني عمرو بن مرة ، عن شقيق ، عن عبد الله - مثله .
وأخرجه الترمذي في الاستئذان عن محمد بن غيلان عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري به ، وعن محمد بن بشار عن يحيى بن سعيد عن سليمان الأعمش به ، وفي نسخة عن محمد بن بشار عن يحيى عن سفيان عن الأعمش به ، وقال : حسن صحيح .
بيان اللغات : قوله " يتخولنا " بالخاء المعجمة وباللام ، من التخول وهو التعهد ، من خال المال وخال على الشيء خولا إذا تعهد ، ويقال خال المال يخوله خولا إذا ساسه وأحسن القيام عليه ، والخائل المتعاهد للشيء المصلح له ، وخول الله الشيء أي ملكه إياه ، وخول الرجل حشمه الواحد خائل . وقال أبو عمرو الشيباني : الصواب يتحولهم بالحاء المهملة ؛ أي يطلب أحوالهم التي ينشطون فيها للموعظة فيعظهم ولا يكثر عليهم فيملوا . وكان الأصمعي يرويه " يتخوننا " بالنون والخاء المعجمة ؛ أي يتعهدنا - حكاه عنهما صاحب نهاية الغريب ، وفي مجمع الغرائب قال الأصمعي : أظنه يتخونهم بالنون ، وهو بمعنى التعهد . وقيل : إن أبا عمرو بن العلاء سمع الأعمش يحدث هذا الحديث فقال " يتخولنا " باللام ، فرده عليه بالنون فلم يرجع لأجل الرواية ، وكلا اللفظين جائز ، والصواب بالخاء المعجمة وباللام . وقال ابن الأعرابي : معناه يتخذنا خولا ، ويقال يناجينا بها ، وقيل يصلحنا . وقال أبو عبيدة : يذللنا بها ، يقال خول الله لك أي ذلله لك وسخره ، وقيل يحبسهم عليها كما يحبس الخول .
قوله " كراهية السآمة " ، من كرهت الشيء أكرهه كراهة وكراهية ، والسآمة مثل الملالة بناء ومعنى . وقال أبو زيد : سئمت من الشيء أسأم سأما وسآمة وسآما - إذا مللته ، ورجل سؤوم .
بيان الإعراب : قوله " النبي " مرفوع لأنه اسم " كان " ، وقوله " يتخولنا " جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل النصب على أنها خبر " كان " .
فإن قلت : كان لثبوت خبرها ماضيا ، ويتخولنا إما حال وإما استقبال ، فما وجه الجمع بينهما ؟ قلت : كان يراد به الاستمرار ، وكذا الفعل المضارع ، فاجتماعهما يفيد شمول الأزمنة . وقال الأصوليون : قولهم كان حاتم يكرم الضيف يفيد تكرار الفعل في الأزمان ، والباء في " بالموعظة " تتعلق بيتخولنا .
قوله " في الأيام " صفة لموعظة ؛ أي بالموعظة الكائنة في الأيام .
قوله " كراهية السآمة " كلام إضافي منصوب على أنه مفعول له ؛ أي لأجل كراهية السآمة ، وصلة السآمة محذوفة لأنه يقال سأمت من الشيء ، والتقدير : كراهية السآمة من الموعظة . وقوله " علينا " إما يتعلق بالسآمة على تضمين السآمة معنى المشقة ؛ أي كراهة المشقة علينا ، إذ المقصود بيان رفق النبي عليه السلام بالأمة وشفقته عليهم ليأخذوا منه بنشاط وحرص لا عن ضجر وملل ، وإما يجعل صفة ، والتقدير : كراهية السآمة الطارئة علينا . وإما يجعل حالا ، والتقدير : كراهية السآمة حال كونها طارئة علينا . وإما يتعلق بالمحذوف ، والتقدير : كراهية السآمة شفقة علينا . فافهم !
بيان المعاني : المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظ الصحابة في أوقات معلومة ، ولم يكن يستغرق الأوقات خوفا عليهم من الملل والضجر ، كما كان نهاهم بقوله " لا يصلي أحد ضاما وركيه " ، وكما قال " ابدأوا بالعَشاء لئلا تشغلوا عن الإقبال على الله تعالى بغيره " وعن الصلاة وعن النية ، وقد وصفه الله تعالى بالرفق بأمته فقال : عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ الآية .
فإن قلت : أيجوز أن يكون المراد من السآمة سآمة رسول الله عليه الصلاة والسلام من القول ؟ قلت : لا يجوز ، ويدل عليه السياق وقرينة الحال .