باب ما ذكر في ذهاب موسى صلى الله عليه في البحر إلى الخضر

الكلام فيه على أنواع ؛ الأول : أن التقدير هذا باب في بيان ما ذكر - إلى آخره ، وارتفاع " باب " على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وهو مضاف إلى ما بعده ، والذهاب بالفتح مصدر ذهب ، قال الصغاني : وذهب مر ذاهبا ومذهبا وذهوبا وذهب مذهبا حسنا .
الثاني : وجه المناسبة بين البابين أن المذكور في الباب الأول هو الاغتباط في العلم ، وهذا الباب في الترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم ، وما يغتبط فيه يتحمل فيه المشقة ، ووجه آخر وهو أن المغتبط شأنه الاغتباط وإن بلغ المحل الأعلى من كل الفضائل ، وهذا الباب فيه أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يمنعه بلوغه من السيادة المحل الأعلى من طلب الفضيلة والكمال حتى قاسى تعب البر وركوب البحر .
الثالث : أن هذا التركيب يفيد أن موسى عليه الصلاة والسلام ركب البحر لما توجه في طلب الخضر مع أن الذي ثبت عند البخاري وغيره أنه خرج إلى البر ، وإنما ركب البحر في السفينة هو والخضر بعد أن التقيا ، ويمكن أن يوجه هذا بتوجيهين ؛ أحدهما أن المقصود من الذهاب إنما حصل بتمام القصة ، ومن تمامها أنه ركب مع الخضر البحر فأطلق على جميعها ذهابا مجازا من قبيل إطلاق اسم الكل على البعض أو من قبيل تسمية السبب باسم ما تسبب عنه ، والآخر أن الظرف - وهو قوله " في البحر " في قوله " وكان يتبع أثر الحوت في البحر " - يحتمل أن يكون لموسى ويحتمل أن يكون للحوت ، وإذا كان كذلك فلعله قويَ عنده أحدُ الاحتمالين بما روى عبد بن حميد عن أبي العالية أن موسى عليه الصلاة والسلام التقى بالخضر في جزيرة من جزائر البحر ، انتهى . والتوصل إلى جزيرة في البحر لا يقع إلا بسلوك البحر وبما رواه أيضا من طريق الربيع بن أنس قال : انجاب الماء عن مسلك الحوت فصار طاقة مفتوحة فدخلها موسى عليه الصلاة والسلام على أثر الحوت حتى انتهى إلى الخضر - فهذان [2/59] الأثران الموقوفان برجال ثقات يوضحان أنه ركب البحر إليه ، وعن هذا قال ابن رشيد : يحتمل أن يكون ثبت عند البخاري أن موسى عليه الصلاة والسلام توجه في البحر لما طلب الخضر ، وحمل ابن المنير كلمة " إلى " بمعنى مع ؛ يعني مع الخضر . وقال بعضهم : يحمل قوله " إلى الخضر " على أن فيه حذفا ؛ أي إلى قصد الخضر ، لأن موسى عليه السلام لم يركب البحر لحاجة نفسه ، وإنما ركبه تبعا للخضر . قلت : هذا لا يقع جوابا عن الإشكال المذكور ، وإنما هو كلام طائح ولا يخفى ذلك .
الرابع : أن موسى عليه السلام هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام ، ولد وعمر عمران سبعون سنة ، وعمر عمران مائة وسبعا وثلاثين سنة ، وعمر موسى عليه السلام مائة وعشرين سنة . وقال الفربري : مات موسى وعمره مائة وستون سنة ، وكانت وفاته في التيه في سابع آذار لمضي ألف سنة وستمائة وعشرين سنة من الطوفان في أيام منوجهر الملك ، وكان عمره لما خرج ببني إسرائيل من مصر ثمانين سنة ، وأقام بالتيه أربعين سنة ، ولما مات الريان بن الوليد الذي ولي يوسف على خزائن مصر وأسلم على يديه ملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى ، وكان جبارا ، وقبض الله يوسف عليه السلام ، وطال ملكه ثم هلك ، وملك بعده أخوه الوليد بن مصعب بن ريان بن أراشة بن شروان بن عمرو بن فاران بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام ، وكان أعتى من قابوس ، وامتدت أيام ملكه حتى كان فرعون موسى عليه السلام الذي بعثه الله إليه ، ولم يكن في الفراعنة أعتى منه ولا أطول عمرا في الملك منه ، عاش أربعمائة سنة ، وموسى معرب موشى بالشين المعجمة ، سمته به آسية بنت مزاحم امرأة فرعون لما وجدوه في التابوت ، وهو اسم اقتضاه حاله لأنه وجد بين الماء والشجر ، فمو بلغة القبط الماء وشى الشجر ، فعرب فقيل موسى . وقال الصغاني : هو عبراني عرب . وقال أبو عمرو بن العلاء : موسى اسم رجل وزنه مفعل فعلى ، هذا يكون مصروفا في النكرة . وقال الكسائي : وزنه فعلى ، وهو لا ينصرف بحال . قلت : إن كان عربيا يكون اشتقاقه من الموس وهو حلق الشعر ، فالميم أصلية ، ويقال من أوسيت رأسه إذا حلقته بالموسى ، فعلى هذا الميم زائدة . وقال ابن فارس : النسبة إليه موسي ؛ وذلك لأن الياء فيه زائدة - كذا قال الكسائي . وقال ابن السكيت في كتاب التصغير : تصغير اسم رجل مويسى ، كأن موسى فعلى ، وإن شئت قلت مويسي بكسر السين وإسكان الياء غير منونة ، ويقال في النكرة هذا مويسى ومويس آخر - فلم تصرف الأول لأنه أعجمي معرفة ، وصرفت الثاني لأنه نكرة ، وموسى في هذا التصغير مفعل . قال : فأما موسى الحديدة فتصغيرها مويسية ، فمن قال هذه موسى ومويس . قال : وهي تذكر وتؤنث ، وهي من الفعل مفعل والياء أصلية .
الخامس : البحر خلاف البر ، قيل سمي بذلك لعمقه واتساعه ، والجمع أبحر وبحار وبحور . وقال ابن السكيت : تصغير بحور وبحار أبيحر ، ولا يجوز أن تصغر بحار على لفظها فتقول بحير ؛ لأن ذلك مضارع الواحد فلا يكون بين تصغير الواحد وتصغير الجمع إلا التشديد ، والعرب تنزل المشدد منزلة المخفف ، والتركيب يدل على البسط والتوسع .
واختلفوا في البحرين في قوله تعالى : لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ - فقيل : هو ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق . وقيل : طنجة . وقيل : أفريقية . وذكر السهيلي أنها بحر الأردن وبحر القلزم ، وقيل : بحر المغرب وبحر الزقاق . قلت : بحر فارس ينبعث من بحر الهند شمالا بين مكران ، وهي على فم بحر فارس من شرقيه وبين عمان ، وهي على فم بحر فارس من غربيه ، وبحر الروم هو بحر أفريقية والشام يمتد من عند البحر الأخضر إلى المشرق ويتصل بطرسوس ، وبحر طنجة بينها وبين سبتة وغيرهما من بر العدوة من الأندلس ، وبحر أفريقية هو بحر طرابلس الغرب يمتد منها شرقا حتى يتجاوز حدود أفريقية ، وهو الذي يتصل بإسكندرية ، والكل يسمى بحر الروم ، وإنما يضاف إلى البلاد عند الاتصال إليها ، وبحر القلزم يأخذ من القلزم وهي بلدة للسودان على طرفه الشمال جنوبا بميله إلى المشرق حتى يصير عند القصير ، وهي فرصة قوص والأردن - بضم الهمزة وسكون الراء وضم الدال المهملتين وتشديد النون في آخرها ، بلدة من بلاد الغور من الشام ولا أعرف بحرا ينسب إليها ، وإنما نسب إليها نهر كبير يسمى نهر الأردن ، وهو نهر الغور ، ويسمى الشريعة أيضا ، وآخره ينتهي إلى البحيرة المنتنة وهي بحيرة زغر . وبحر الزقاق بين طنجة وبر الأندلس هناك يسمى بحر الزقاق ، وهو يضيق هناك ، وبحر الغرب هو البحر الأخضر الذي لا يعرف منه إلا ما يلي الغرب من أقاصي الحبشة إلى خلف بلاد الرومية ، وهي بحيث لا يدرك آخرها لأن المراكب لا تجري فيها ، وله خليج إلى الأندلس وطنجة .
السادس : الخضر والكلام فيه على [2/60] أنواع ؛ الأول في اسمه ، فذكر ابن قتيبة في المعارف عن وهب بن منبه أنه بليا - بفتح الباء الموحدة وسكون اللام وبالياء آخر الحروف ، ويقال إبليا بزيادة الهمزة في أوله . وقيل : اسمه خضرون - ذكره أبو حاتم السجستاني . وقيل : أرميا ، وقيل : اسمه اليسع - قاله مقاتل ، ويسمى بذلك لأن علمه وسع ست سماوات وست أرضين ، ووهاه ابن الجوزي ، واليسع اسم أعجمي ليس بمشتق . وقيل اسمه أحمد - حكاه القشيري ووهاه ابن دحية ؛ فإنه لم يسم أحد قبل نبينا عليه السلام بذلك . وقيل : عامر - حكاه ابن دحية في كتابه مرج البحرين ، والأول هو المشهور . والخضر بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمة لقبه - ويجوز إسكان الضاد مع كسر الخاء وفتحها كما في نظائره .
الثاني في سبب تلقيبه بذلك ، وهو ما جاء في الصحيح في كتاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال : إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء - والفروة وجه الأرض ، وقيل النبات المجتمع اليابس ، وقيل سمي به لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله - قاله مجاهد . وقال الخطابي : إنما سمي به لحسنه وإشراق وجهه ، وكنيته أبو العباس .
الثالث في نسبه ، فقال ابن قتيبة هو بليا بن ملكان - بفتح الميم وسكون اللام - ابن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام . وقيل : خضرون بن عماييل بن الفتر بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام . وقيل : هو ابن حلقيا . وقيل : ابن قابيل بن آدم - ذكره أبو حاتم السجستاني . وقيل : إنه كان ابن فرعون صاحب موسى ملك مصر - وهذا غريب جدا ، قال ابن الجوزي : رواه محمد بن أيوب عن أبي لهيعة - وهما ضعيفان . وقيل : إنه ابن ملك ، وهو أخو إلياس - قاله السدي . وقيل : ابن بعض من آمن بإبراهيم الخليل وهاجر معه . وروى الحافظ ابن عساكر عن سعيد بن المسيب أنه قال : الخضر أمه رومية وأبوه فارسي . وروى أيضا بإسناده إلى الدارقطني : حدثنا محمد بن الفتح القلانسي ، حدثنا العباس بن عبد الله ، حدثنا داود بن الجراح ، حدثنا مقاتل بن سليمان ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : الخضر بن آدم لصلبه ، ونُسئ له في أجله حتى يكذب الدجال - وهذا منقطع غريب . وقال الطبري : قيل إنه الرابع من أولاده ، وقيل إنه من ولد عيصوا - حكاه ابن دحية . وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه من سبط هارون ، وكذا قال ابن إسحاق . وقال عبد الله بن مؤدب : إنه من ولد فارس . وقال بعض أهل الكتاب : إنه ابن خالة ذي القرنين .
الرابع في أي وقت كان ؛ قال الطبري : كان في أيام أفريدون . قال : وقيل كان مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان أيام إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، وذو القرنين عند قوم هو أفريدون ، ويقال : إنه كان وزير ذي القرنين وإنه شرب من ماء الحياة . وذكر الثعلبي اختلافا أيضا هل كان في زمن إبراهيم عليه السلام أم بعده بقليل أم بكثير ؟ وذكر بعضهم أنه كان في زمن سليمان عليه السلام وأنه المراد بقوله " قال الذي عنده علم من الكتاب " - حكاه الداودي . ويقال : كان في زمن كستاسب بن لهراسب . قال ابن جرير : والصحيح أنه كان مقدما على زمن أفريدون حتى أدركه موسى عليه السلام .
الخامس هل كان وليا أم نبيا ؟ وبالأول جزم القشيري ، واختلف أيضا هل كان نبيا مرسلا أم لا على قولين ، وأغرب ما قيل أنه من الملائكة ، والصحيح أنه نبي ، وجزم به جماعة . وقال الثعلبي : هو نبي على جميع الأقوال مُعمر محجوب عن الأبصار - وصححه ابن الجوزي أيضا في كتابه لقوله تعالى حكاية عنه : وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي - فدل على أنه نبي أوحي إليه ، ولأنه كان أعلم من موسى في علم مخصوص ، ويبعد أن يكون ولي أعلم من نبي وإن كان يحتمل أن يكون أوحي إلى نبي في ذلك العصر يأمر الخضر بذلك ، ولأنه أقدم على قتل ذلك الغلام وما ذلك إلا للوحي إليه في ذلك ؛ لأن الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفس بمجرد ما يلقى في خلده لأن خاطره ليس بواجب العصمة .
السادس في حياته ؛ فالجمهور على أنه باق إلى يوم القيامة ، قيل : لأنه دفن آدم بعد خروجهم من الطوفان فنالته دعوة أبيه آدم بطول الحياة . وقيل : لأنه شرب من عين الحياة . وقال ابن الصلاح : هو حي عند جماهير العلماء والصالحين ، والعامة معهم في ذلك ، وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين . ونقله النووي عن الأكثرين ، وقيل : إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حتى يرتفع القرآن . وفي صحيح مسلم في حديث الدجال أنه يقتل رجلا ثم يحييه ، قال إبراهيم بن سفيان راوي كتاب مسلم : يقال له إنه الخضر - وكذلك قال معمر في مسنده ، وأنكر حياته جماعة منهم البخاري وإبراهيم الحربي وابن المناوي وابن الجوزي .
فإن قيل : خضر علم ، فكيف دخل عليه آلة التعريف ؟ قيل له : قد يتأول العلم بواحد من الأمة المساوية فيجري مجرى رجل وفرس ، فيجري على إضافته وعلى إدخال اللام [2/61] عليه ، ثم بعض الأعلام دخول لام التعريف عليه لازم نحو النجم والثريا وبعضها غير لازم نحو الحارث ، والخضر من هذا القسم . قلت : العلم إذا لوحظ فيه معنى الوصف يجوز إدخال اللام عليه كالعباس والحسن وغيرهما .
وقوله تعالى : هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا .

" وقوله " مجرور عطفا على المضاف إليه في قوله " باب ما ذكر ... " إلخ ، وهذا أيضا من الترجمة ، وأشار بهذه الترجمة إلى شرف العلم حتى جازت المخاطرة في طلبه بركوب البحر ، وركبه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في طلبه بخلاف ركوب البحر في طلب الدنيا فإنه يكره عند جماعة - وإلى اتباع العلماء لأجل تحصيل العلوم التي لا توجد إلا عندهم .
قوله " هَلْ أَتَّبِعُكَ " حكاية عن خطاب موسى الخضر عليهما الصلاة والسلام ، سأله أن يعلمه من العلم الذي عنده مما لم يقف عليه موسى ، وكان له ذلك ابتلاء حيث لم يكل العلم إلى الله تعالى .
قوله " الآية " بالنصب على تقدير نذكر الآية ، ويجوز الرفع على أن يكون مبتدأ محذوف الخبر ؛ أي الآية بتمامها . وذكر الأصيلي في روايته باقي الآية ، وهو قوله " مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا " .
16 - حدثني محمد بن غرير الزهري قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثني أبي ، عن صالح ، عن ابن شهاب حدث أن عبيد الله بن عبد الله أخبره عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى ؛ قال ابن عباس : هو خضر ! فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال : إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه ، هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه ؟ قال : نعم ؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال : هل تعلم أحدا أعلم منك ؟ قال موسى : لا ! فأوحى الله إلى موسى : بلى ؛ عبدنا خضر ! فسأل موسى السبيل إليه ، فجعل الله له الحوت آية ، وقيل له : إذا فقدت الحوت فارجع ؛ فإنك ستلقاه . وكان يتبع أثر الحوت في البحر ، فقال لموسى فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره . قال : ذلك ما كنا نبغِي - فارتدا على آثارهما قصصا ، فوجدا خضرا فكان من شأنهما الذي قص الله عز وجل في كتابه .

مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة ؛ لأنها في ذهاب موسى عليه السلام إلى الخضر وركوبه البحر وسؤاله منه الاتباع لأجل التعلم ، والحديث يبين ذلك كله .
بيان رجاله : وهم تسعة ؛ الأول : محمد بن غرير - بغين معجمة مضمومة وراء مكررة بينهما ياء آخر الحروف ساكنة - ابن الوليد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، أبو عبد الله القرشي الزهري المدني نزيل سمرقند ، يعرف بالفربري ، روى عن يعقوب بن إبراهيم ومطرف بن عبد الله النيسابوري ، روى عنه البخاري وأبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي وعبد الله بن شبيب المكي ، قال الكلاباذي : أخرج له البخاري في الكتاب في ثلاثة مواضع ؛ هنا وفي الزكاة وفي بني إسرائيل ، وليس في الكتب الستة من اسمه على هذا المثال ، وهو من الأفراد .
الثاني : يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، أبو يوسف القرشي المدني الزهري ، ساكن بغداد ، روى عن أبيه وغيره ، وروى عنه أحمد ويحيى بن معين وعلي بن المديني وإسحاق ومحمد بن يحيى الذهلي . قال ابن سعد : كان ثقة مأمونا . ولم يزل ببغداد ثم خرج إلى الحسن بن سهل بفم الصلح ، فلم يزل معه حتى توفي هناك في شوال سنة ثمان ومائتين . قلت : فم الصلح بفتح الفاء وتخفيف الميم وكسر الصاد المهملة وسكون اللام وفي آخره حاء مهملة ، وهي بلدة على دجلة قريبة من واسط ، وقيل هو نهر ميسان .
الثالث : أبوه - أعني أبا يعقوب بن إبراهيم المذكور ، وهو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، وهو من [2/62] جملة شيوخ الشافعي رحمه الله ، وقد مر ذكره في باب تفاضل أهل الإيمان .
الرابع : صالح بن كيسان التابعي ، تقدم ذكره في آخر قصة هرقل ، توفي وهو ابن مائة ونيف وستين سنة ، ابتدأ بالتعليم وهو ابن تسعين سنة .
الخامس : محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، تقدم غير مرة .
السادس : عبيد بن عبد الله - بتصغير الابن وتكبير الأب - ابن عيينة بن مسعود ، أحد الفقهاء السبعة ، وقد مر ذكره .
السابع : عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما .
الثامن : الحر - بضم الحاء المهملة وتشديد الراء - ابن قيس - بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف ، وفي آخره سين مهملة - ابن حصن - بكسر الحاء وسكون الصاد المهملتين - ابن حذيفة بن بدر الفزاري - بفتح الفاء والزاي نسبة إلى فزارة بن شيبان بن بغيض بن ريث بن غطفان ، وهو ابن أخي عيينة بن حصن ، كان أحد الوفد الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك ، وكان من جلساء عمر رضي الله عنه .
التاسع : أبي بن كعب بن المنذر الأنصاري ، أقرأ هذه الأمة ، شهد العقبة وبدرا ، وكان عمر رضي الله عنه يقول : أبي سيد المسلمين . رُوي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وأربعة وستون حديثا ، اتفقا منها على ثلاثة أحاديث ، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بسبعة . مات سنة تسع عشرة - وقيل عشرين ، وقيل ثلاثين - بالمدينة ، روى له الجماعة .
بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ، ومنها أن فيه رواية صحابي عن صحابي ، ومنها أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض ، ومنها أن فيه أربعة زهريين وهم محمد بن غرير ويعقوب وأبوه إبراهيم وابن شهاب ، ومنها أن ستة منهم مدنيون وهم الرواة إلى ابن عباس رضي الله عنهما ، ومنها أنه قال " عن ابن شهاب حدث " وبعده قال " أخبره أن " لوحظ الفرق بأن التحديث عند قراءة الشيخ والإخبار عند القراءة على الشيخ ، فذاك وإلا فتغيير العبارة للتفنن في الكلام ، وحدث بغير هاء رواية الكشميهني ، وفي رواية غيره " حدثه " بالهاء وبغير الهاء أيضا محمول على السماع لأن صالحا غير مدلس ، وقوله " حدثنا محمد بن غرير " هكذا بصيغة الجمع في رواية الأكثرين ، وفي رواية الأصيلي " حدثني " بصيغة الإفراد .
بيان تعدد موضعه ومن أخراجه غيره : أخرجه البخاري في مواضع فوق العشرة ؛ هنا كما ترى ، وفي أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة السلام عن عمرو بن محمد ، وفي العلم أيضا عن خالد بن خلي عن محمد بن حرب ، وفي التوحيد عن عبد الله بن محمد عن أبي عمرو - كلاهما عن الزهري به . وفي أحاديث الأنبياء أيضا عن علي بن المديني ، وفي النذور والتفسير عن الحميدي ، وفي التفسير أيضا عن قتيبة ، وفي العلم أيضا عن عبد الله بن محمد عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مختصرا ، وفي التفسير والإجارة والشروط عن إبراهيم بن موسى عن هشام بن يوسف عن ابن جريج عن يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن سعيد به ، وأخرجه مسلم في أحاديث الأنبياء عن حرملة عن ابن وهب عن يونس عن الزهري به ، وعن عمرو بن محمد الناقد وابن راهويه وعبيد الله بن سعيد وابن أبي عمر عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن جبير ، وعن الناقد أيضا - وهو محمد بن عبد الأعلى - عن معتمر عن أبيه عن رقية عن أبي إسحاق عن ابن جبير به ، وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن محمد بن يوسف ، وعن عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى - كلاهما عن إسرائيل عن أبي إسحاق به . وأخرجه الترمذي في التفسير عن محمد بن يحيى بن أبي عمر به ، وقال : حسن صحيح - وعن محمد بن عبد الأعلى به . وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة به ، وعن محمد بن عبد الأعلى ، وعن عمران بن يزيد عن إسماعيل بن عبد الله بن سماعة عن الأوزاعي به ، وفي العلم عن أبي الحسين أحمد بن سليمان الرهاوي عن عبيد الله بن موسى به .
بيان اللغات : قوله " تماريت " أي تجادلت ، من التماري وهو التجادل والتنازع ، وهو بمعنى ماريت لأن باب المفاعلة لمشاركة اثنين وباب التفاعل لأكثر منهما ، يقال ماريت الرجل أماريه مراء أي جادلته ، ومادته الميم والراء والياء آخر الحروف .
قوله " لقيه " بضم اللام وكسر القاف وتشديد الياء آخر الحروف ، مصدر بمعنى اللقاء ، يقال لقيته لقاء بالمد ، ولقى بالضم والقصر ، ولقيا بالتشديد ، ولقيانا ولقيانة واحدة ، ولقية واحدة ، ولا تقل لقاة بالفتح [2/63] فإنها مولدة وليست من كلام العرب ، وهذه سبع مصادر .
قوله " شأنه " أي قصته .
قوله " في ملأ " بالقصر ، هي الجماعة - قاله عياض ، وقال غيره : الملأ الأشراف . وفي العباب : الملأ بالتحريك الجماعة ، والملأ أيضا الخلق ، يقال ما أحسن ملأ بني فلان أي عشرتهم وأخلاقهم ، والجمع أملاء ، والملأ أيضا الأشراف .
قوله " من بني إسرائيل " هم أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام ؛ لأن إسرائيل هو اسم يعقوب ، وأولاده اثنا عشر نفسا وهم يوسف وبنيامين وداني ويفتالي وزابلون وجاد ويستأخر وأشير وروبيل ويهوذا وشمعون ولاوي ، وهم الذين سماهم الأسباط ، وسموا بذلك لأن كل واحد منهم والد قبيلة ، والأسباط في كلام العرب الشجر الملتف الكثير الأغصان ، والأسباط من بني إسرائيل كالشعوب من العجم والقبائل من العرب ، وجميع بني إسرائيل من هؤلاء المذكورين .
قوله " الحوت " السمكة ، والجمع الحيتان والأحوات والحوتة .
قوله " آية " أي علامة .
قوله " وكان يتبع أثر الحوت " ؛ أي ينتظر فقدانه .
قوله " فتاه " أي صاحبه ، وهو يوشع بن نون ، وإنما قال " فتاه " لأنه كان يخدمه ويتبعه ، وقيل : كان يأخذ العلم عنه . قلت : يوشع بن نون بن اليشامع بن عميهوذا بن بارص بن بعدان بن ناخر بن تالخ بن راشف بن راقخ بن بريعا بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب عليهم الصلاة والسلام ، ويوشع بضم الياء آخر الحروف وفتح الشين المعجمة ، ونون مصروف كنوح .
قوله " إِذْ أَوَيْنَا " بالقصر ، من أوى فلان إلى منزله يأوي أويا .
قوله " إِلَى الصَّخْرَةِ " هي التي دون نهر الزيت بالمغرب - قاله الزمخشري . والصخرة في اللغة الحجر الكبير ، والجمع صخر وصخر وصخور وصخورة وصخرات .
قوله " نبغي " ؛ أي نطلب ، من بغيت الشيء طلبته .
قوله " فَارْتَدَّا " ؛ أي رجعا " عَلَى آثَارِهِمَا " هو جمع أثر بفتح الهمزة وفتح الثاء المثلثة ، وأثر الشيء ما شخص منه .
قوله " قَصَصًا " من قص أثره يقص قصا وقصصا ؛ أي تتبعه ، قال الله تعالى : وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ - أي تتبعي أثره . وقال الصغاني : قال تعالى فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ؛ أي رجعا من الطريق الذي سلكاه يقصان الأثر .
بيان الإعراب : قوله " تمارى هو " ؛ أبي ابن عباس ، وأتى بضمير الفصل لأنه لا يعطف على الضمير المرفوع المتصل إلا إذا أكد بالمنفصل ، فقوله " والحر بن قيس " عطف على الضمير الذي في " تمارى " ، وحسن ذلك تأكيده بقوله " هو " لأنه بدونه يوهم عطف الاسم على الفعل .
قوله " في صاحب موسى " يتعلق بقوله " تمارى " .
قوله " هو خضر " جملة اسمية وقعت مقول القول .
قوله " تماريت أنا وصاحبي " مثل " تمارى هو والحر بن قيس " ؛ حيث أكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل لتحسين العطف ، ويجوز أن ينتصب على أن يكون مفعولا معه ، وأراد بقوله " صاحبي " هو الحر بن قيس .
قوله " هل سمعت " استفهم به ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنهم .
قوله " يذكر شأنه " جملة حالية .
قوله " يقول " أيضا جملة حالية .
قوله " بينما " قد مر غير مرة أن أصله بين زيدت فيه ما ، والفصيح في جوابه ترك إذ وإذا وجوابه .
قوله " جاءه رجل " ، وفي بعض الروايات " إذ جاءه رجل " .
قوله " أعلم " بالنصب ؛ لأنه صفة " أحدا " .
قوله " بل عبدنا خضر " ؛ أي هو أعلم ، هكذا هو في أكثر الروايات ، وفي رواية الكشميهني " بلى عبدنا خضر " ، وبل للإضراب وهو من حروف العطف .
فإن قلت : ما المعطوف عليه المضروب عنه ؟ قلت : مقدر ، تقديره أوحى الله إليه لا تقل لا بل عبدنا خضر ؛ أي قل الأعلم عبدك خضر .
فإن قلت : فعلى هذا كان ينبغي أن يقول بل عبد الله أو عبدك ! قلت : ورد على طريقة الحكاية عن قول الله تعالى .
قوله " فسأل موسى " ؛ أي سأل موسى عن الله تعالى السبيل إلى خضر ، والفاء في " فجعل " للتعقيب .
قوله " له " ؛ أي لأجله ، والحوت وآية منصوبان على أنهما مفعولا " جعل " .
قوله : " فتاه " فاعل " فقال " .
قوله " أَرَأَيْتَ " ؛ أي أخبرني ، وهو مقول القول .
قوله " إذ " بمعنى حين ، وهاهنا حذف تقديره أرأيت ما دهاني " إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ " .
قوله " فإني " ، الفاء فيه تفسيرية يفسر بها ما دهاه من نسيان الحوت حين أويا إلى الصخرة .
قوله " وَمَا أَنْسَانِيهُ " ؛ أي أنساني ذكره " إِلا الشَّيْطَانُ " .
قوله " أن أذكره " بدل من الهاء في " أَنْسَانِيهُ " .
قوله " ذَلِكَ " في محل الرفع على الابتداء .
قوله " ما كنا نبغي " خبره ، وكلمة " ما " موصولة .
وقوله " كنا نبغي " صلتها ؛ أي ذلك الذي كنا نطلب ، والعائد إلى الموصول محذوف - أي ما كنا نبغيه ، ويجوز حذف الياء من " نبغي " للتخفيف ، وهكذا قرئ أيضا في القرآن ، وإثباتها أحسن وهي قراءة أبي عمرو .
قوله " قَصَصًا " نصب على تقدير يقصان قصصا ؛ أعنى النصب على المصدرية .
قوله " ما قص الله " في محل الرفع ؛ لأنه اسم كان .
وقوله " من شأنهما " مقدما خبره ، وفي بعض الرواية " فكان من شأنهما الذي قص الله " .
[2/64] بيان المعاني : قوله " تمارى هو والحر بن قيس " ، وكان لابن عباس في هذه القصة تماريان ؛ تمار بينه وبين الحر بن قيس أهو الخضر أم غيره ، وتمار بينه وبين نوف البكالي في موسى أهو موسى بن عمران الذي أنزلت عليه التوراة أم موسى بن ميشا بكسر الميم وسكون الياء آخر الحروف بعدها شين معجمة - هكذا قاله الكرماني في التماري الثاني ، وليس كذلك ؛ فإن هذا التماري كان بين سعيد بن جبير وبين البكالي على ما يجيء في التفسير ، وسياق سعيد بن جبير للحديث عن ابن عباس أتم من سياق عبيد الله بن عبد الله هذا بشيء كثير ، وسيأتي مبينا إن شاء الله تعالى .
قوله " في صاحب موسى " ؛ أي الذي ذهب موسى عليه الصلاة السلام إليه وقال له هل أتبعك لفتاه الذي كان رفيقه عند الذهاب .
قوله " فدعاه ابن عباس " ؛ أي فناداه ، وقال ابن التين : فيه حذف تقديره فقام إليه فسأله ؛ لأن المعروف عن ابن عباس التأدب مع من يأخذ عنه ، وأخباره في ذلك مشهورة .
قوله " فسأل موسى السبيل إليه " ؛ أي قال فادللني اللهم إليه .
قوله " فقال : هل تعلم أحدا أعلم منك ؟ قال موسى : لا " ، وجاء في كتاب التفسير وغيره " فسئل أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا ! فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه " ، وكذا جاء في مسلم ، وفيه أيضا " بينا موسى صلى الله عليه وسلم في قومه يذكرهم أيام الله - وأيام الله نعماؤه وبلاؤه - إذ قال : ما أعلم في الأرض رجلا خيرا وأعلم مني ! فأوحى الله إليه أن في الأرض رجلا هو أعلم منك " . وقال المازرى : أما على رواية من روى " هل تعلم أحدا أعلم منك ؟ فقال : أنا " فلا عتب عليه إذ أخبر عما يعلم ، وأما على رواية " أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا أعلم " - أي فيما يقتضيه شاهد الحال ودلالة النبوة ، ويظهر لي أن موسى صلى الله عليه وسلم كان من النبوة بالمكان الأرفع ، والعلم من أعظم المراتب ، فقد يعتقد أنه أعلم الناس بهذه المرتبة ، فإذا كان مراده بقوله " أنا أعلم " في اعتقادي لم يكن خبره كذبا . وقيل : قول المازري " فلا عتب عليه " مردود بقوله عليه السلام " فعتب الله عليه " ، لكن ينبغي العتب له أن لا ينفي العتب مطلقا ، بل عتب مخصوص . وقال القاضي عياض : وقيل مراد موسى صلى الله عليه وسلم بقوله " أنا أعلم " أي بوظائف النبوة وأمور الشريعة وسياسة الأمر ، والخضر أعلم منه بأمور أخر من علوم غيبية كما ذكر من خبرهما ، وكان موسى صلى الله عليه وسلم أعلم على الجملة والعموم مما لا يمكن جهل الأنبياء بشيء منه ، والخضر أعلم على الخصوص مما أعلم من الغيوب وحوادث القدر مما لا يعلم الأنبياء منه إلا ما أعلموا من غيبه ؛ ولهذا قال له الخضر إنك على علم من علم الله علمك لا أعلمه وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه . ألا تراه لم يعرف موسى بني إسرائيل حتى عرفه بنفسه إذ لم يعرفه الله به ؟ وهذا مثل قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : إني لا أعلم إلا ما علمني ربي . ومعنى قوله " فعتب الله عليه " أي لم يرض .
قوله " وآخذه به " ، وأصل العتب المؤاخذة ، يقال منه عتب عليه إذا واخذه وذكره له ، فالمؤاخذة والعتب في حق الله محال ، فمعنى قوله " فعتب الله عليه " لم يرض .
قوله " شرعا ودينا " ، وقد عتب الله عليه إذ لم يرد رد الملائكة " لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا " ، وقيل : جاء هذا تنبيها لموسى صلى الله عليه وسلم وتعليما لمن بعده ولئلا يقتدي به غيره في تزكية نفسه والعجب بحاله فيهلك ، وإنما ألجِئَ موسى للخضر للتأديب لا للتعليم .
قوله " فجعل الله له الحوت آية " ؛ أي علامة لمكان الخضر ولقائه ، وذلك أنه لما قال موسى أين أطلبه قال الله له : على الساحل عند الصخرة . قال : يا رب كيف لي به ؟ قال : تأخذ حوتا في مكتل ، فحيث فقدته فهو هناك . فقيل : أخذ سمكة مملوحة ، قال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني . وكان يمشي ويتبع أثر الحوت ؛ أي ينتظر فقدانه ، فرقد موسى صلى الله تعالى عليه وسلم فاضطرب الحوت ووقع في البحر ، قيل إن يوشع حمل الخبز والحوت في المكتل فنزلا ليلة على شاطئ عين تسمى عين الحياة ، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت . وقيل : توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء .
قوله " نَسِيتُ الْحُوتَ " ؛ أي نسيت تفقد أمره وما يكون منه مما جعل أمارة على الظفر بالطلبة من لقاء الخضر عليه السلام .
قوله " قال " ؛ أي موسى عليه الصلاة والسلام " ذلك " أي فقدان الحوت " هو الذي كنا نبغي " أي نطلب ؛ لأنه علامة وجدان المقصود .
قوله " فَارْتَدَّا " ؛ أي رجعا على آثارهما يقصان قصصا - أي يتبعان آثارهما اتباعا .
قوله " من شأنهما " ؛ أي شأن الخضر وموسى عليهما السلام ، والذي قص الله تعالى في كتابه إشارة إلى قوله تعالى : هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا - إلى قوله : وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ
بيان استنباط الأحكام :
الأول : قال ابن بطال فيه جواز التماري في العلم إذا كان كل واحد يطلب الحق ولم يكن تعنتا .
الثاني : فيه الرجوع إلى قول أهل العلم عند التنازع .
الثالث : فيه أنه يجب على العالم الرغبة في التزيد من العلم والحرص عليه [2/65] ولا يقنع بما عنده كما لم يكتف موسى عليه الصلاة والسلام بعلمه .
الرابع : فيه وجوب التواضع لأن الله تعالى عاتب موسى عليه السلام حين لم يرد العلم إليه ، وأراه من هو أعلم منه ، قلت : يعني في علم مخصوص .
الخامس : فيه حمل الزاد وإعداده للسفر بخلاف قول الصوفية .
السادس : قول النووي فيه : إنه لا بأس على العالم والفاضل أن يخدمه المفضول ويقضي له حاجته ، ولا يكون هذا من أخذ العوض على تعليم العلم والآداب بل من مروآت الأصحاب وحسن العشرة ، ودليله إتيان فتاه غداءهما .
السابع : فيه الرحلة والسفر لطلب العلم برا وبحرا .
الثامن : فيه قبول خبر الواحد الصدوق ، والله أعلم بالصواب .