( باب ما قيل في اللحام والجزار ) .

أي هذا باب في بيان ما قيل في اللحام وهو بياع اللحم ، والجزار الذي يجزر أي ينحر الإبل ، وكلاهما على وزن فعال بالتشديد ، وهذا الباب وقع هاهنا عند الأكثرين . ووقع عند ابن السكن بعد خمسة أبواب ، وقال بعضهم : وهو أليق ؛ لتتوالى تراجم الصناعات . ( قلت ) : توالي التراجم إنما هو أمر مهم ، والبخاري لا يتوقف غالبا في رعاية التناسب بين الأبواب .
33 - حدثنا عمر بن حفص قال : حدثنا أبي قال : حدثنا الأعمش قال : حدثني شقيق عن أبي مسعود قال : جاء رجل من الأنصار - يكنى أبا شعيب - فقال لغلام له قصاب : اجعل لي طعاما يكفي خمسة ؛ فإني أريد أن أدعو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خامس خمسة ؛ فإني قد عرفت في وجهه الجوع ، فدعاهم ، فجاء معهم رجل ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إن هذا قد تبعنا ، فإن شئت أن تأذن له فأذن له ، وإن شئت أن يرجع رجع ، فقال : لا ، بل قد أذنت له .

مطابقته للترجمة في قوله : " لغلام له قصاب " قال القرطبي : اللحام هو الجزار والقصاب على قياس قولهم : عطار وتمار للذي يبيع ذلك ، فهذا كما رأيت جعل اللحام والجزار والقصاب بمعنى واحد ، فعلى هذا تحصل المطابقة بين الترجمة والحديث ، ولكن في عرف الناس اللحام من يبيع اللحم ، والجزار من يجزر الجزور أي ينحره ، والقصاب من يذبح الغنم ، وأصله من القصب ، وهو القطع ، يقال : قصب القصاب الشاة أي قطعها عضوا عضوا .
( ذكر رجاله ) : وهم خمسة ذكروا غير مرة ، والأعمش هو سليمان ، وشقيق هو ابن سلمة أبو وائل ، وأبو مسعود هو عقبة بن عمرو الأنصاري البدري .
( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في المظالم ، عن أبي النعمان ، وفي الأطعمة ، عن محمد بن يوسف . وعن عبد الله بن أبي الأسود . وأخرجه مسلم في الأطعمة ، عن قتيبة وعثمان . وعن أبي بكر وإسحاق . وعن نصر بن علي وأبي سعيد الأشج . وعن عبد الله بن معاذ . وعن عبد الله بن عبد الرحمن . وعن سلمة بن شبيب . وأخرجه الترمذي في النكاح ، عن هناد . وأخرجه النسائي في الوليمة ، عن إسماعيل بن مسعود . وعن أحمد بن عبد الله .
( ذكر معناه ) :
قوله : " قصاب " بالجر ؛ لأنه صفة لغلام ، وسيأتي في المظالم من وجه آخر عن الأعمش بلفظ " كان له غلام لحام " .
قوله : " خامس خمسة " أي أحد خمسة ، وقال الداودي : جائز أن يقول : خامس خمسة وخامس أربعة . وعن المهلب : إنما صنع طعام خمسة لعلمه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيتبعه من أصحابه غيره .
قوله : " فجاء معهم رجل " أي سادسهم .
قوله : " إن هذا قد تبعنا " بكسر الباء الموحدة وفتح العين ؛ لأنه فعل ماض ، والضمير الذي فيه يرجع إلى الرجل و " نا " مفعوله .
قوله : " وإن شئت أن يرجع " أي الرجل الذي تبعهم " رجع " ، ولا يدخل معهم .
( ذكر ما يستفاد منه ) : فيه جواز الاكتساب بصنعة الجزارة وأنه لا بأس بذلك ، وقال ابن بطال : وإن كان في الجزارة شيء من الضعة ؛ لأنه يمتهن فيها نفسه ، وإن ذلك لا ينقصه ، ولا يسقط شهادته إذا كان عدلا . وفيه جواز استعمال السيد غلامه في الصنائع [11/198] التي يطيقها وأخذ كسبه منها . وفيه بيان ما كانوا فيه من شظف العيش وقلة الشيء ، وأنهم كانوا يؤثرون بما عندهم . وفيه تأكيد إطعام الطعام ، والضيافة ، خصوصا لمن علم حاجته لذلك . وفيه أن من صنع طعاما لغيره فلا بأس أن يدعوه إلى منزله ليأكل معه عنده ، ولكن هل الأولى أن يدعوه إلى الطعام أو يرسله إليه ؟ اختار مالك إرساله إليه ليأكل مع أهله إن كان له أهل ، فقال في الرجل يدعو الرجل : يلزمه إذا أراد أن يبعث بمثل ذلك إليه ليأكله مع أهله ؛ فإنه قبيح بالرجل أن يذهب يأكل الطيبات ويترك أهله . وفيه أنه ينبغي لمن دعا من له منزلة إلى طعامه - أن يدعو معه أصحابه الذين هم أهل مجالسته ، كما فعل أبو شعيب رضي الله تعالى عنه . وفيه أنه ينبغي لمن أراد أن يدعو جماعة أن يصنع لهم من الطعام كفايتهم ، ولا يضيق عليهم محتجا بأن طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية ؛ لأنه لا ينبغي التقصير على الضيف ، وربما جاء من لم يدعه كما وقع في قصة أبي شعيب . وفيه إجابة المدعو للداعي وأنه لم ينص على اسمه بل ذكر تبعا لغيره ، كجلساء فلان وأصحابه إذ لم ينقل أنه سمى معه جلساءه ، لكن يحتمل أن أبا شعيب حين رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعرف في وجهه الجوع - أنه رأى معه أربعة جالسين ، فكان ذلك تخصيصا لهم . وفيه أنه لو دعا رجلا إلى وليمة أو طعام سواء قلنا بالوجوب أو بالاستحباب ، وكان مع المدعو حالة الدعوة غيره - لم يدخل في الدعوة ، وليس كالهدية عند قوم يشركونه فيها ؛ للحديث الوارد في ذلك " من أهدي له هدية عند قوم يشركونه فيها " ، والحديث غير صحيح . وفيه أنه لا بأس لمن وجد جماعة يذهبون إلى مكان أن يتبعهم ؛ لأنه لو كان هذا ممتنعا لنهاه النبي - صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولرده ، وإنما الممتنع دخوله معهم بغير إذن صاحب الدعوة ورضاه . وفيه أنه لا ينبغي للمدعو أن يرد من تبعه إلى الدعوة بل يستأذنه عليه لجواز أن يأذن له . وفيه أنه ينبغي للمدعو أن يستأذن صاحب المنزل فيمن تبعه إلى الدعوة لئلا ينكسر خاطره ما لم يكن ثمة داع لعدم دخوله . وفيه أنه ينبغي للمدعو إذا استأذن لمن تبعه أن يتلطف في الاستئذان ، ولا يتحكم على صاحب المنزل بقوله ائذن لهذا ونحو ذلك . وفيه أنه ينبغي للمدعو إذا استأذن لمن تبعه أن يعلم صاحب الدعوة أن الأمر في الإذن إليه ، وأنه ليس للمدعو أن يحتكم عليه ويدعو معه من أراد لقوله - صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " وإن شئت رجع هذا " مع كونه - صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ - له أن يتصرف في مال كل من الأمة بغير حضوره وبغير رضاه ، ولكنه لم يفعل ذلك إلا بالإذن تطييبا لقلوبهم . وفيه أنه ينبغي للداعي إذا استأذن المدعو فيمن تبعه أن يأذن له كما فعل أبو شعيب ، وهذا من مكارم الأخلاق . وفيه في قوله : " إن هذا قد تبعنا " دليل على أنه لو كان معهم حالة الدعوة لدخل فيها ولم يحتج إلى الاستئذان . وفيه قال القاضي عياض : فيه تحريم طعام الطفيليين ، وقال أصحاب الشافعي : لا يجوز التطفل ، إلا إذا كان بينه وبين صاحب الدار انبساط . وروى أبو داود الطيالسي من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " من مشى إلى طعام لم يدع إليه مشى فاسقا وأكل حراما ودخل سارقا وخرج مغيرا " وروى البيهقي في ( سننه ) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " من دخل على قوم لطعام لم يدع إليه فأكل دخل فاسقا وأكل ما لا يحل له " وفي إسناده يحيى بن خالد ، وهو مجهول .