( باب ذكر القين ، والحداد )

أي هذا باب في بيان ما جاء في ذكر القين بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون ، وقال ابن دريد : أصل القين الحداد ، ثم صار لكل صائغ عند العرب قينا ، وقال الزجاج : القين الذي يصلح الأسنة ، والقين أيضا الحداد .
قوله : " والحداد " عطف على " القين " من عطف التفسير ، وقال بعضهم : وكان البخاري اعتمد القول الصائر إلى التغاير بينهما ، وليس في الحديث الذي أورده في الباب ، إلا ذكر القين ، فكأنه ألحق الحداد به في الترجمة ؛ لاشتراكهما في الحكم . ( قلت ) : لا يحتاج إلى هذا التكلف الذي لا وجه له ، فالوجه ما ذكرناه ؛ لأن القين يطلق على معان كثيرة ؛ فيطلق على العبد قين ، وعلى الأمة قينة ، وكذلك يطلق على الجارية المغنية ، وعلى الماشطة قينة . فعطف الحداد على القين ليعلم أن مراده من القين هو الحداد لا غير ، وذلك كما في قوله تعالى : إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وفي الحديث " ليليني منكم ذوو الأحلام والنهى " وقالت النحاة : هذا من عطف الشيء على مرادفه ، والتقين التزين بأنواع الزينة ، وقالت أم أيمن : " أنا قينت عائشة رضي الله تعالى عنها ، أي [11/209] زينتها " .
والقين يجمع على أقيان وقيون ، وقان يقين قيانة صار قينا ، وقان الحديدة قينا عملها ، وقان الإناء قينا أصلحه . وفي ( التلويح ) : وفي بعض الأصول لم يذكر الحداد .
43 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن خباب قال : كنت قينا في الجاهلية ، وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه قال : لا أعطيك ، حتى تكفر بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت : لا أكفر ، حتى يميتك الله ، ثم تبعث ، قال : دعني حتى أموت وأبعث ، فسأوتى مالا وولدا ، فأقضيك ، فنزلت : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا .

مطابقته للترجمة في قوله : " كنت قينا في الجاهلية " .
( ذكر رجاله ) : وهم سبعة :
الأول : محمد بن بشار قد تكرر ذكره .
الثاني : ابن أبي عدي بفتح العين المهملة وكسر الدال ، وهو محمد بن أبي عدي ، واسمه إبراهيم .
الثالث : شعبة بن الحجاج .
الرابع : سليمان الأعمش .
الخامس : أبو الضحى بضم الضاد المعجمة ، واسمه مسلم بن صبيح ، وقد مر غير مرة .
السادس : مسروق بن الأجدع ، والأجدع لقب عبد الرحمن أبوه .
السابع : خباب - بفتح الخاء المعجمة وتشديد الباء الموحدة الأولى - ابن الأرت ، وقد مر في الصلاة .
( ذكر لطائف إسناده ) :
فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين . وفيه العنعنة في خمسة مواضع . وفيه أن شيخه يلقب ببندار ، ويكنى بأبي بكر ، وهو وشيخه بصريان ، وشعبة واسطي ، سكن البصرة ، والبقية كوفيون .
( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في المظالم عن إسحاق ، وفي التفسير عن بشر بن خالد . وفيه أيضا عن الحميدي . وعن محمد بن كثير . وعن يحيى بن وكيع ، وفي الإجارة عن عمرو بن حفص . وأخرجه مسلم في ذكر المنافقين ، عن أبي بكر وأبي سعيد الأشج . وعن أبي كريب . وعن ابن نمير . وعن إسحاق بن إبراهيم . وعن إبراهيم بن أبي عمر به . وأخرجه الترمذي في التفسير ، عن ابن أبي عمر به . وعن هناد بن السري . وأخرجه النسائي فيه ، عن محمد بن العلاء به .
( ذكر معناه ) :
قوله : " كنت قينا " أي حدادا .
قوله : " على العاص بن وائل " بالهمزة بعد الألف ، وذكر ابن الكلبي عن جماعة في الجاهلية أنهم كانوا زنادقة ، منهم العاص بن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، والوليد بن المغيرة ، وأبي بن خلف .
قوله : " فأتيته أتقاضاه " أي فأتيت العاص أطلب منه ديني ، قال مقاتل : صاغ خباب للعاصي شيئا من الحلي ، فلما طلب منه الأجر قال : ألستم تزعمون أن في الجنة الحرير والذهب والفضة والولدان ؟ قال خباب : نعم ، قال العاص : فميعاد ما بيننا الجنة . وقال الواحدي : قال الكلبي ومقاتل : كان خباب قينا ، وكان يعمل للعاص بن وائل ، وكان العاصي يؤخر حقه ، فأتاه يتقاضاه ، فقال : ما عندي اليوم ما أقضيك ، فقال خباب : لست بمفارقك حتى تقضيني ، فقال العاصي : يا خباب ، ما لك ؟ ما كنت هكذا ، وإن كنت لحسن الطلب ، قال : ذلك إذا كنت على دينك ، وأما اليوم فإنا على الإسلام ، قال : أفلستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا ؟ قال : بلى ، قال : فأخرني ، حتى أقضيك في الجنة - استهزاء - فوالله إن كان ما تقول حقا ، إني لأفضل فيها نصيبا منك . فأنزل الله تعالى الآية . انتهى . ( قلت ) : الآية هي قوله تعالى : أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا
قوله : " فقال : لا أعطيك " أي فقال العاصي : لا أعطيك حقك ، حتى تكفر بمحمد .
قوله : " فقلت : لا أكفر حتى يميتك الله ، ثم تبعث " وفي رواية مسلم " فقلت له : لن أكفر به حتى تموت ، ثم تبعث " وفي رواية الترمذي " فقلت : لا ، حتى تموت ، ثم تبعث قال : وإني لميت ثم مبعوث ؟ فقلت : نعم ، فقال : إن لي هنالك مالا وولدا ، فأقضيك " فنزلت : أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ الآية . ( فإن قلت ) : من عين للكفر أجلا فهو كافر الآن إجماعا ، فكيف يصدر هذا عن خباب ودينه أصح وعقيدته أثبت وإيمانه أقوى وآكد ؟ ( قلت ) : لم يرد به خباب هذا ، وإنما أراد : لا تعطيني حتى تموت وتبعث ، أو إنك لا تعطيني ذلك في الدنيا ، فهنالك يؤخذ قسرا منك ، وقال أبو الفرج : لما كان اعتقاد هذا المخاطب أنه لايبعث خاطبه على اعتقاده ، فكأنه قال : لا أكفر أبدا . وقيل : أراد خباب أنه إذا بعث لا يبقى كفر ؛ لأن الدار دار الآخرة .
قوله : [11/210] " حتى أموت " بالنصب أي حتى أن أموت .
قوله : " وأبعث " عطف عليه على صيغة المجهول .
قوله : " فسأوتى " على صيغة المجهول .
قوله : " فنزلت : أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا " ، أي فنزلت هذه الآية ، وهو قوله تعالى : أَفَرَأَيْتَ الَّذِي الآية .
قوله : " أَفَرَأَيْتَ " لما كانت مشاهدة الأشياء ورؤيتها طريقا إلى الإحاطة بها علما ، وإلى صحة الخبر عنها ، استعملوا " أرأيت " في معنى أخبر ، والفاء جاءت لإفادة معناها الذي هو التعقيب ، كأنه قال : أخبر أيضا بقصة هذا الكافر ، وأذكر حديثه عقب حديث أولئك ، والفاء بعد همزة الاستفهام عاطفة على جملة " الذي " يعني العاص بن وائل " كَفَرَ بِآيَاتِنَا " أي بالقرآن " وَقَالَ لأُوتَيَنَّ " أي لأعطين " مَالا وَوَلَدًا " يعني في الجنة بعد البعث . وقرأ حمزة والكسائي : " ولد " بضم الواو وسكون اللام ، وقرأ الباقون بفتحهما ، وهما لغتان ، كالعرب والعرب . وقيس تجعل الولد جمعا ، والولد واحدا ، وفي ( ديوان الأدب ) للفارابي في باب فعل بضم الفاء وسكون العين : الوُلْدُ لغة في الْوَلَدِ ، ويكون واحدا وجمعا ، وذكره أيضا في باب فِعْل بكسر الفاء وسكون العين ، وذكره أيضا في باب فَعَل بفتح الفاء والعين الْوَلَد . وفي ( المحكم ) الولد والولد ما ولد أيا ما كان ، وهو يقع على الواحد والجمع ، والذكر والأنثى ، وقد يجوز أن يكون الوُلْدُ جمعَ وَلَدٍ ، كوثن ووثن ، والولد كالولد ليس بجمع ، والولد أيضا الرهط .
قوله : " أَطَّلَعَ الْغَيْبَ " عن ابن عباس : أنظر في اللوح المحفوظ . وعن مجاهد : أعلم علم الغيب ، حتى يعلم أفي الجنة هو أو لا ؛ من قولهم : أطلع الجبل ، إذا ارتقى إلى علاه ، وطلع الثنية .
قوله : " أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا " عن ابن عباس : أم قال لا إله إلا الله . وعن قتادة : أم قدم عملا صالحا فهو يرجوه .
( ذكر ما يستفاد منه ) : فيه أن الحداد لا يضره مهنة صناعته إذا كان عدلا ، قال أبو العتاهية :
ألا إنما التقوى هو العز والكرمْ
وحبك للدنيا هو الذل والعدْم
وليس على حر تقي نقيصةٌ
إذا أسس التقوى وإن حاك أو حجمْ
وفيه " أن الكلمة من الاستهزاء يتكلم بها المرء فيكتب له بها سخطة إلى يوم القيامة " ألا ترى وعبد الله على استهزائه بقوله : سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا يعني من المال والولد ، بعد إهلاكنا إياه ، ويأتينا فردا ، أي نبعثه وحده تكذيبا لظنه . وفيه جواز الإغلاط في اقتضاء الدين لمن خالف الحق وظهر منه الظلم والعدوان .