النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ : فِي كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَكَيْفِيَّةِ ضَبْطِ الْكِتَابِ وَتَقْيِيدِهِ
اخْتَلَفَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي كِتَابَةِ الْحَدِيثِ‏ ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ كِتَابَةَ الْحَدِيثِ ، وَالْعِلْمِ ، وَأَمَرُوا بِحِفْظِهِ‏ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ‏ . ‏
وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ كَرَاهَةَ ذَلِكَ : عُمَرُ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَأَبُو مُوسَى ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ، فِي جَمَاعَةٍ آخَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ‏
. ‏
وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ‏ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " ‏لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا إِلَّا الْقُرْآنَ ، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ‏ " . ‏ أَخْرَجَهُ ‏مُسْلِمٌ‏ فِي صَحِيحِهِ‏ . ‏
وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ إِبَاحَةَ ذَلِكَ ، أَوْ فَعَلَهُ عَلِيٌّ ، وَابْنُهُ الْحَسَنُ ، [1/182] وَأَنَسٌ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، فِي جَمْعٍ آخَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏ . ‏
وَمِنْ صَحِيحِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّالِّ عَلَى جَوَازِ‏ ذَلِكَ : حَدِيثُ أَبِي شَاهٍ الْيَمَنِيِّ فِي الْتِمَاسِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ شَيْئًا سَمِعَهُ مِنْ خُطْبَتِهِ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ : " ‏اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ‏ " . ‏
وَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي الْكِتَابَةِ عَنْهُ لِمَنْ خَشِيَ عَلَيْهِ النِّسْيَانَ ، وَنَهَى عَنِ الْكِتَابَةِ عَنْهُ مَنْ وَثِقَ بِحِفْظِهِ ، مَخَافَةَ الِاتِّكَالِ عَلَى الْكِتَابِ‏ ، أَوْ نَهَى عَنْ كِتَابَةِ ذَلِكَ حِينَ خَافَ عَلَيْهِمُ اخْتِلَاطَ ذَلِكَ بِصُحُفِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَأَذِنَ فِي كِتَابَتِهِ حِينَ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ‏ . ‏
وَأَخْبَرَنَا ‏أَبُو الْفَتْحِ بْنُ عَبْدِ الْمُنْعِمِ الْفُرَاوِيُّ‏ - قِرَاءَةً عَلَيْهِ بِنَيْسَابُورَ جَبَرَهَا اللَّهُ - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي الْفَارِسِيُّ‏ ، أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ‏ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ‏ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ‏ ، ثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ‏ ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ‏ ، ثَنَا الْوَلِيدُ هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ قَالَ‏ : كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَقُولُ‏ : " كَانَ هَذَا الْعِلْمُ كَرِيمًا [1/183] يَتَلَقَّاهُ الرِّجَالُ بَيْنَهُمْ ، فَلَمَّا دَخَلَ فِي الْكُتُبِ دَخَلَ فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ " . ‏
ثُمَّ إِنَّهُ زَالَ ذَلِكَ الْخِلَافُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَسْوِيغِ ذَلِكَ وَإِبَاحَتِهِ ، وَلَوْلَا تَدْوِينُهُ فِي الْكُتُبِ لَدُرِسَ فِي الْأَعْصُرِ الْآخِرَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
ثُمَّ إِنَّ عَلَى كَتَبَةِ الْحَدِيثِ ، وَطَلَبَتِهِ صَرْفَ الْهِمَّةِ إِلَى ضَبْطِ مَا يَكْتُبُونَهُ ، أَوْ يُحَصِّلُونَهُ بِخَطِّ الْغَيْرِ مِنْ مَرْوِيَّاتِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَوَوْهُ شَكْلًا وَنَقْطًا يُؤْمَنُ مَعَهُمَا الِالْتِبَاسُ ، وَكَثِيرًا مَا يَتَهَاوَنُ بِذَلِكَ الْوَاثِقُ بِذِهْنِهِ وَتَيَقُّظِهِ ، وَذَلِكَ وَخِيمُ الْعَاقِبَةِ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مُعَرَّضٌ لِلنِّسْيَانِ ، وَأَوَّلُ نَاسٍ أَوَّلُ النَّاسِ ، وَإِعْجَامُ الْمَكْتُوبِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِعْجَامِهِ ، وَشَكْلُهُ يَمْنَعُ مِنْ إِشْكَالِهِ‏ . ثُمَّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَنَّى بِتَقْيِيدِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا يَكَادُ يَلْتَبِسُ‏ ، وَقَدْ أَحْسَنَ مِنْ قَالَ‏ : إِنَّمَا يُشْكَلُ مَا يُشْكِل‏ُ . ‏ [1/184] وَقَرَأْتُ بِخَطِّ صَاحِبِ كِتَابِ ( ‏سِمَاتُ الْخَطِّ وَرُقُومُهُ‏ ) عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَغْدَادِيِّ فِيهِ‏ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ الْإِعْجَامَ وَالْإِعْرَابَ إِلَّا فِي الْمُلْتَبِسِ‏ ، وَحَكَى غَيْرُهُ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُشْكَلَ مَا يُشْكِلُ وَمَا لَا يُشْكِلُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُبْتَدِئَ ، وَغَيْرَ الْمُتَبَحِّرِ فِي الْعِلْمِ لَا يُمَيِّزُ مَا يُشْكِلُ مِمَّا لَا يُشْكِلُ ، وَلَا صَوَابَ الْإِعْرَابِ مِنْ خَطَئِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
وَهَذَا بَيَانُ أُمُورٍ مُفِيدَةٍ فِي ذَلِكَ‏ :
أَحَدُهَا‏ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اعْتِنَاؤُهُ - مِنْ بَيْنِ مَا يَلْتَبِسُ - بِضَبْطِ الْمُلْتَبِسِ مِنْ أَسْمَاءِ النَّاسِ أَكْثَرَ ، فَإِنَّهَا لَا تُسْتَدْرَكُ بِالْمَعْنَى ، وَلَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِمَا قَبْلُ وَمَا بَعْدُ‏ . ‏
الثَّانِي‏ : يُسْتَحَبُّ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ أَنْ يُكَرِّرَ ضَبْطَهَا ، بِأَنْ يَضْبِطَهَا فِي مَتْنِ الْكِتَابِ ، ثُمَّ يَكْتُبَهَا قُبَالَةَ ذَلِكَ فِي الْحَاشِيَةِ مُفْرَدَةً مَضْبُوطَةً ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي إِبَانَتِهَا ، وَأَبْعَدُ مِنَ الْتِبَاسِهَا ، وَمَا ضَبَطَهُ فِي أَثْنَاءِ الْأَسْطُرِ رُبَّمَا دَاخَلَهُ نَقْطُ غَيْرِهِ وَشَكْلُهُ مِمَّا فَوْقَهُ وَتَحْتَهُ لَا سِيَّمَا عِنْدَ دِقَّةِ الْخَطِّ وَضِيقِ الْأَسْطُرِ ، وَبِهَذَا جَرَى رَسْمُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الضَّبْطِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
[1/185] الثَّالِثُ‏ : يُكْرَهُ الْخَطُّ الدَّقِيقُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يَقْتَضِيهِ‏ . ‏
رُوِّينَا عَنْ حَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ‏ قَالَ : رَآنِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَأَنَا أَكْتُبُ خَطًّا دَقِيقًا ، فَقَالَ‏ : " لَا تَفْعَلْ ، أَحْوَجُ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ يَخُونُكَ‏ " . ‏ وَبَلَغَنَا عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى خَطًّا دَقِيقًا قَالَ‏ : " هَذَا خَطُّ مَنْ لَا يُوقِنُ بِالْخُلْفِ مِنَ اللَّه‏ِ " . ‏
وَالْعُذْرُ فِي ذَلِكَ هُوَ مِثْلُ أَنْ لَا يَجِدَ فِي الْوَرَقِ سَعَةً ، أَوْ يَكُونَ رَحَّالًا يَحْتَاجُ إِلَى تَدْقِيقِ الْخَطِّ ، لِيَخِفَّ عَلَيْهِ مَحْمَلُ كِتَابِهِ ، وَنَحْوُ هَذَا ، [ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ ] . ‏
الرَّابِعُ‏ : يَخْتَارُ لَهُ فِي خَطِّهِ التَّحْقِيقَ دُونَ الْمَشْقِ وَالتَّعْلِيقِ‏ . ‏
بَلَغَنَا عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ قَالَ‏ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " شَرُّ الْكِتَابَةِ الْمَشْقُ ، وَشَرُّ الْقِرَاءَةِ الْهَذْرَمَةُ ، وَأَجْوَدُ الْخَطِّ أَبْيَنُهُ " ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
الْخَامِسُ‏ : كَمَا تُضْبَطُ الْحُرُوفُ الْمُعْجَمَةُ بِالنُّقَطِ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تُضْبَطَ الْمُهْمَلَاتُ غَيْرُ الْمُعْجَمَةِ بِعَلَامَةِ الْإِهْمَالِ ، لِتَدُلَّ عَلَى عَدَمِ إِعْجَامِهَا‏ . ‏
وَسَبِيلُ النَّاسِ فِي ضَبْطِهَا مُخْتَلِفٌ‏ : فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْلِبُ النَّقْطَ ، فَيَجْعَلُ النَّقْطَ الَّذِي فَوْقَ الْمُعْجَمَاتِ تَحْتَ مَا يُشَاكِلُهَا مِنَ الْمُهْمَلَاتِ ، فَيَنْقُطُ تَحْتَ الرَّاءِ وَالصَّادِ وَالطَّاءِ وَالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا مِنَ [1/186] الْمُهْمَلَاتِ‏ . وَذَكَرَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ أَنَّ النُّقَطَ الَّتِي تَحْتَ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ تَكُونُ مَبْسُوطَةً صَفًّا ، وَالَّتِي فَوْقَ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ تَكُونُ كَالْأَثَافِيِّ‏ . ‏
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ عَلَامَةَ الْإِهْمَالِ فَوْقَ الْحُرُوفِ الْمُهْمَلَةِ كَقُلَامَةِ الظُّفْرِ ، مُضْجَعَةً عَلَى قَفَاهَا‏ . ‏
وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ تَحْتَ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ حَاءً مُفْرَدَةً صَغِيرَةً ، وَكَذَا تَحْتَ الدَّالِ ، وَالطَّاءِ ، وَالصَّادِ ، وَالسِّينِ ، وَالْعَيْنِ ، وَسَائِرُ الْحُرُوفِ الْمُهْمَلَةِ الْمُلْتَبِسَةِ مِثْلُ ذَلِكَ‏ . ‏
فَهَذِهِ وُجُوهٌ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِهْمَالِ شَائِعَةٌ مَعْرُوفَةٌ‏ . ‏
وَهُنَاكَ مِنَ الْعَلَامَاتِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ ، وَلَا يَفْطِنُ لَهُ كَثِيرُونَ ، كَعَلَامَةِ مَنْ يَجْعَلُ فَوْقَ الْحَرْفِ الْمُهْمَلِ خَطًّا صَغِيرًا ، وَكَعَلَامَةِ مَنْ يَجْعَلُ تَحْتَ الْحَرْفِ الْمُهْمَلِ مِثْلَ الْهَمْزَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
السَّادِسُ‏ : لَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْطَلِحَ مَعَ نَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ بِمَا لَا يَفْهَمُهُ غَيْرُهُ ، فَيُوقِعُ غَيْرَهُ فِي حَيْرَةٍ ، كَفِعْلِ مَنْ يَجْمَعُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ رِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَيَرْمُزُ إِلَى رِوَايَةِ كُلِّ رَاوٍ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ مِنِ اسْمِهِ ، أَوْ حَرْفَيْنِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏ ، فَإِنْ بَيَّنَ - فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ ، أَوْ آخِرِهِ - مُرَادَهُ بِتِلْكَ الْعَلَامَاتِ وَالرُّمُوزِ ، فَلَا بَأْسَ‏ . ‏ وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَجَنَّبَ الرَّمْزَ ، وَيَكْتُبَ عِنْدَ كُلِّ رِوَايَةٍ اسْمَ رَاوِيهَا بِكَمَالِهِ مُخْتَصَرًا ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْعَلَامَةِ بِبَعْضِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏ . ‏
[1/187] السَّابِعُ‏ : يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَ كُلِّ حَدِيثَيْنِ دَارَةً تَفْصِلُ بَيْنَهُمَا ، وَتُمَيِّزُ‏ . ‏ وَمِمَّنْ بَلَغَنَا عَنْهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَبُو الزِّنَادِ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ‏ ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ‏ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ‏ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . ‏
وَاسْتَحَبَّ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ‏ أَنْ تَكُونَ الدَّارَاتُ غُفْلًا ، فَإِذَا عَارَضَ فَكُلُّ حَدِيثٍ يَفْرُغُ مِنْ عَرْضِهِ يَنْقُطُ فِي الدَّارَةِ الَّتِي تَلِيهِ نُقْطَةً ، أَوْ يَخُطُّ فِي وَسَطِهَا خَطًّا‏ . ‏ قَالَ‏ : " وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يُعْتَدُّ مِنْ سَمَاعِهِ إِلَّا بِمَا كَانَ كَذَلِكَ ، أَوْ فِي مَعْنَاهُ " ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
الثَّامِنُ‏ : يُكْرَهُ لَهُ فِي مِثْلِ ( ‏عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ) أَنْ يَكْتُبَ ( ‏عَبْدَ‏ ) فِي آخِرِ سَطْرٍ ، وَالْبَاقِيَ فِي أَوَّلِ السَّطْرِ الْآخَرِ‏ . ‏
وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ فِي ( ‏عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ فُلَانٍ ) ، وَفِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّعْبِيدِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكْتُبَ ( ‏عَبْدَ‏ ) فِي آخِرِ سَطْرٍ ، وَاسْمَ اللَّهِ مَعَ سَائِرِ النَّسَبِ فِي أَوَّلِ السَّطْرِ الْآخَرِ‏ . ‏ وَهَكَذَا يُكْرَهُ أَنْ يَكْتُبَ ( ‏قَالَ رَسُولُ‏ ) فِي آخِرِ سَطْرٍ ، وَيَكْتُبَ فِي أَوَّلِ السَّطْرِ الَّذِي يَلِيهِ ( ‏اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ ) ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
[1/188] التَّاسِعُ‏ : يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى كِتْبَةِ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذِكْرِهِ ، وَلَا يَسْأَمَ مِنْ تَكْرِيرِ ذَلِكَ عِنْدَ تَكَرُّرِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْفَوَائِدِ الَّتِي يَتَعَجَّلُهَا طَلَبَةُ الْحَدِيثِ ، وَكَتَبَتُهُ ، وَمَنْ أَغْفَلَ ذَلِكَ حُرِمَ حَظًّا عَظِيمًا ، وَقَدْ رُوِّينَا لِأَهْلِ ذَلِكَ مَنَامَاتٍ صَالِحَةً‏ . ‏
وَمَا يَكْتُبُهُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ دُعَاءٌ يُثْبِتُهُ لَا كَلَامٌ يَرْوِيهِ ، فَلِذَلِكَ لَا يَتَقَيَّدُ فِيهِ بِالرِّوَايَةِ ، وَلَا يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى مَا فِي الْأَصْلِ‏ . ‏
وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ ذِكْرِ اسْمِهِ ، نَحْوُ ( ‏عَزَّ وَجَلَّ ) ، وَ‏ ( ‏تَبَارَكَ وَتَعَالَى ) وَمَا ضَاهَى ذَلِكَ‏ . ‏ وَإِذَا وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَدْ جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ كَانَتِ الْعِنَايَةُ بِإِثْبَاتِهِ وَضَبْطِهِ أَكْثَرَ‏ ، وَمَا وُجِدَ فِي خَطِّ ‏أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ إِغْفَالِ ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ اسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ ، فَلَعَلَّ سَبَبَهُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى التَّقَيُّدَ فِي ذَلِكَ بِالرِّوَايَةِ ، وَعَزَّ عَلَيْهِ اتِّصَالُهَا فِي ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَنْ فَوْقَهُ مِنَ الرُّوَاةِ . ‏
قَالَ ‏الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ‏ : " وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُطْقًا لَا خَطًّا‏ " ، قَالَ‏ : " وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي ذَلِكَ‏ " . ‏
وَروى عَنْ ‏عَلِيِّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ ، وَ‏عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيِّ ، قَالَا‏ : " مَا تَرَكْنَا الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ سَمِعْنَاهُ ، [1/189] وَرُبَّمَا عَجَّلْنَا فَنُبَيِّضُ الْكِتَابَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ حَتَّى نَرْجِعَ إِلَيْهِ " ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
ثُمَّ ليَتَجَنَّبْ فِي إِثْبَاتِهَا نَقْصَيْنِ‏ :
أَحَدُهُمَا‏ : أَنْ يَكْتُبَهَا مَنْقُوصَةَ صُورَةٍ رَامِزًا إِلَيْهَا بِحَرْفَيْنِ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ‏ . ‏
وَالثَّانِي‏ : أَنْ يَكْتُبَهَا مَنْقُوصَةَ مَعْنًى ، بِأَنْ لَا يَكْتُبَ ( ‏وَسَلَّمَ‏ ) ، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي خَطِّ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ‏ . ‏ سَمِعْتُ ‏أَبَا الْقَاسِمِ مَنْصُورَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْعِمِ‏ ، و‏َأُمَّ الْمُؤَيَّدِ بِنْتَ أَبِي الْقَاسِمِ‏ بِقِرَائَتِي عَلَيْهِمَا قَالَا‏ : سَمِعْنَا أَبَا الْبَرَكَاتِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْفُرَاوِيَّ‏ لَفْظًا ، قَالَ‏ : سَمِعْتُ الْمُقْرِئَ ظَرِيفَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ‏ : سَمِعْتُ ‏عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَافِظَ قَالَ‏ : سَمِعْتُ ‏أَبِي‏ يَقُولُ‏ : سَمِعْتُ ‏حَمْزَةَ الْكِنَانِيَّ‏ يَقُولُ‏ : كُنْتُ أَكْتُبُ الْحَدِيثَ ، وَكُنْتُ أَكْتُبُ عِنْدَ ذِكْرِ النَّبِيِّ " ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ‏ " وَلَا أَكْتُبُ " ‏وَسَلَّمَ‏ " ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ ، فَقَالَ لِي‏ : مَا لَكَ لَا تُتِمُّ الصَّلَاةَ عَلَيَّ ؟ قَالَ‏ : فَمَا كَتَبْتُ بَعْدَ ذَلِكَ " ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ‏ " إِلَّا كَتَبْتُ " ‏وَسَلَّمَ‏ " . ‏
وَقَعَ فِي الْأَصْلِ فِي شَيْخِ الْمَقْرِي ظَرِيفِ " ‏عَبْدُ اللَّهِ‏ " وَإِنَّمَا هُوَ [1/190] " ‏عُبَيْدُ اللَّهِ " بِالتَّصْغِيرِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَبُوهُ ، هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ ، فَقَوْلُهُ " ‏الْحَافِظ‏ِ " إِذًا مَجْرُورٌ‏ . ‏
قُلْتُ‏ : وَيُكْرَهُ أَيْضًا الِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِهِ " ‏عَلَيْهِ السَّلَامُ " ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏ ‏ . ‏
الْعَاشِرُ‏ : عَلَى الطَّالِبِ مُقَابَلَةُ كِتَابِهِ بِأَصْلِ سَمَاعِهِ ، وَكِتَابِ شَيْخِهِ الَّذِي يَرْوِيهِ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ إِجَازَةً‏ . ‏
رُوِّينَا عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ هِشَامٍ : " كَتَبْتَ ؟ " قَالَ‏ : " نَعَمْ " ، قَالَ‏ : " عَرَضْتَ كِتَابَكَ ؟ " قَالَ‏ : " لَا " ، قَالَ‏ : " لَمْ تَكْتُبْ‏ " . ‏
[1/191] وَرُوِّينَا عَنِ الشَّافِعِيِّ الْإِمَامِ ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَا‏ : " مَنْ كَتَبَ وَلَمْ يُعَارِضْ كَمَنْ دَخَلَ الْخَلَاءَ وَلَمْ يَسْتَنْجِ " . ‏
وَعَنِ الْأَخْفَشِ قَالَ‏ : " إِذَا نُسِخَ الْكِتَابُ وَلَمْ يُعَارَضْ ، ثُمَّ نُسِخَ وَلَمْ يُعَارَضْ خَرَجَ أَعْجَمِيًّا‏ " . ‏
ثُمَّ إِنَّ أَفْضَلَ الْمُعَارَضَةِ‏ : أَنْ يُعَارِضَ الطَّالِبُ بِنَفْسِهِ كِتَابَهُ بِكِتَابِ الشَّيْخِ مَعَ الشَّيْخِ ، فِي حَالِ تَحْدِيثِهِ إِيَّاهُ مِنْ كِتَابِهِ ، لِمَا يَجْمَعُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الِاحْتِيَاطِ ، وَالْإِتْقَانِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ‏ ، وَمَا لَمْ تَجْتَمِعْ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ نَقَصَ مِنْ مَرْتَبَتِهِ بِقَدْرِ مَا فَاتَهُ مِنْهَا‏ . ‏ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى مِنْ إِطْلَاقِ أَبِي الْفَضْلِ الْجَارُودِيِّ الْحَافِظِ الْهَرَوِيِّ قَوْلَهُ : " أَصْدِقِ الْمُعَارَضَةَ مَعَ نَفْسِكَ‏ " . ‏
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْظُرَ مَعَهُ فِي نُسْخَتِهِ مَنْ حَضَرَ مِنَ السَّامِعِينَ ، مِمَّنْ لَيْسَ مَعَهُ نُسْخَةٌ ، لَا سِيَّمَا إِذَا أَرَادَ النَّقْلَ مِنْهَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي الْكِتَابِ ، وَالْمُحَدِّثُ يَقْرَأُ ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُحَدِّثَ بِذَلِكَ عَنْهُ ؟ فَقَالَ‏ : " أَمَّا عِنْدِي فَلَا يَجُوزُ ، وَلَكِنَّ عَامَّةَ الشُّيُوخِ هَكَذَا سَمَاعُهُمْ‏ " .
[1/192] قُلْتُ‏ : وَهَذَا مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ التَّشْدِيدِ فِي الرِّوَايَةِ ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَذْهَبِهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . ‏ وَالصَّحِيحُ‏ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ السَّمَاعُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْظُرْ أَصْلًا فِي الْكِتَابِ حَالَةَ الْقِرَاءَةِ ، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يُقَابِلَهُ بِنَفْسِهِ ، بَلْ يَكْفِيهِ مُقَابَلَةُ نُسْخَتِهِ بِأَصْلِ الرَّاوِي ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَالَةَ الْقِرَاءَةِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُقَابَلَةُ عَلَى يَدَيْ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ ثِقَةً مَوْثُوقًا بِضَبْطِهِ‏ . ‏
قُلْتُ‏ : وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مُقَابَلَتهُ بِفَرْعٍ قَدْ قُوبِلَ الْمُقَابَلَةَ الْمَشْرُوطَةَ بِأَصْلِ شَيْخِهِ أَصْلِ السَّمَاعِ ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَابَلَ بِأَصْلِ أَصْلِ الشَّيْخِ الْمُقَابَلِ بِهِ أَصْلُ الشَّيْخِ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ الْمَطْلُوبَ أَنْ يَكُونَ كِتَابُ الطَّالِبِ مُطَابِقًا لِأَصْلِ سَمَاعِهِ وَكِتَابِ شَيْخِهِ ، فَسَوَاءٌ حَصَلَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ‏ . ‏
وَلَا يُجْزِئُ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ قَالَ‏ : " لَا يَصِحُّ مُقَابَلَتُهُ مَعَ أَحَدٍ غَيْرِ نَفْسِهِ ، وَلَا يُقَلِّدُ غَيْرَهُ ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كِتَابِ الشَّيْخِ وَاسِطَةٌ ، وَلْيُقَابِلْ نُسْخَتَهُ بِالْأَصْلِ بِنَفْسِهِ حَرْفًا حَرْفًا حَتَّى يَكُونَ عَلَى ثِقَةٍ وَيَقِينٍ مِنْ مُطَابَقَتِهَا لَهُ‏ " . ‏ وَهَذَا مَذْهَبٌ مَتْرُوكٌ وَهُوَ مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ التَّشْدِيدِ الْمَرْفُوضَةِ فِي أَعْصَارِنَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
أَمَّا إِذَا لَمْ يُعَارِضْ كِتَابَهُ بِالْأَصْلِ أَصْلًا‏ : فَقَدْ سُئِلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائِينِيُّ عَنْ جَوَازِ رِوَايَتِهِ مِنْهُ ، فَأَجَازَ ذَلِكَ‏ . ‏ وَأَجَازَهُ [1/193] الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ أَيْضًا ، وَبَيَّنَ شَرْطَهُ‏ ، فَذَكَرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ نُسْخَتُهُ نُقِلَتْ مِنَ الْأَصْلِ ، وَأَنْ يُبَيِّنَ عِنْدَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَمْ يُعَارِضْ‏ ، وَحَكَى عَنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرٍ الْبَرْقَانِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيَّ‏ : " هَلْ لِلرَّجُلِ أَنْ يُحَدِّثَ بِمَا كَتَبَ عَنِ الشَّيْخِ ، وَلَمْ يُعَارِضْ بِأَصْلِهِ ؟ " فَقَالَ‏ : " نَعَمْ ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ لَمْ يُعَارِضْ " ، قَالَ‏ : وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ الْبَرْقَانِيِّ ، فَإِنَّهُ رَوَى لَنَا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً قَالَ فِيهَا : " ‏أَخْبَرَنَا فُلَانٌ ، وَلَمْ أُعَارِضْ بِالْأَصْلِ‏ " . ‏
قُلْتُ‏ : وَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطٍ ثَالِثٍ ، وهو‏ : أَنْ يَكُونَ نَاقِلُ النُّسْخَةِ مِنَ الْأَصْلِ غَيْرَ سَقِيمِ النَّقْلِ ، بَلْ صَحِيحَ النَّقْلِ قَلِيلَ السَّقْطِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
ثُمَّ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعِيَ فِي كِتَابِ شَيْخِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَي مَنْ فَوْقَهُ مِثْلَ مَا ذَكَرْنَا ، أَنَّهُ يُرَاعِيهِ مِنْ كِتَابِهِ ، وَلَا يَكُونَنَّ كَطَائِفَةٍ مِنَ الطَّلَبَةِ‏ إِذَا رَأَوْا سَمَاعَ شَيْخٍ لِكِتَابٍ قَرَءُوهُ عَلَيْهِ مِنْ أَيِّ نُسْخَةٍ اتَّفَقَتْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
الْحَادِيَ عَشَرَ‏ : الْمُخْتَارُ فِي كَيْفِيَّةِ تَخْرِيجِ السَّاقِطِ فِي الْحَوَاشِي - وَيُسَمَّى اللَّحَقَ بِفَتْحِ الْحَاءِ - وَهُوَ أَنْ يَخُطَّ مِنْ مَوْضِعِ سُقُوطِهِ مِنَ السَّطْرِ خَطًّا صَاعِدًا إِلَى فَوْقِهِ ، ثُمَّ يَعْطِفُهُ بَيْنَ السَّطْرَيْنِ عَطْفَةً [1/194] يَسِيرَةً إِلَى جِهَةِ الْحَاشِيَةِ ، الَّتِي يَكْتُبُ فِيهَا اللَّحَقَ ، وَيَبْدَأُ فِي الْحَاشِيَةِ بِكِتْبَةِ اللَّحَقِ مُقَابِلًا لِلْخَطِّ الْمُنْعَطِفِ ، وَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي حَاشِيَةِ ذَاتِ الْيَمِينِ‏ ، وَإِنْ كَانَتْ تَلِي وَسَطَ الْوَرَقَةِ إِنِ اتَّسَعَتْ لَهُ ، وَلْيَكْتُبْهُ صَاعِدًا إِلَى أَعْلَى الْوَرَقَةِ لَا نَازِلًا بِهِ إِلَى أَسْفَلُ . ‏
قُلْتُ‏ : فَإِذَا كَانَ اللَّحَقُ سَطْرَيْنِ ، أَوْ سُطُورًا فَلَا يَبْتَدِئُ بِسُطُورِهِ مِنْ أَسْفَلَ إِلَى أَعْلَى ، بَلْ يَبْتَدِئُ بِهَا مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ ، بِحَيْثُ يَكُونُ مُنْتَهَاهَا إِلَى جِهَةِ بَاطِنِ الْوَرَقَةِ إِذَا كَانَ التَّخْرِيجُ فِي جِهَةِ الْيَمِينِ ، وَإِذَا كَانَ فِي جِهَةِ الشِّمَالِ وَقَعَ مُنْتَهَاهَا إِلَى جِهَةِ طَرَفِ الْوَرَقَةِ‏ ، ثُمَّ يَكْتُبُ عِنْدَ انْتِهَاءِ اللَّحَقِ ( ‏صَحَّ‏ ) . ‏
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُ مَعَ ( ‏صَحَّ‏ ) ( ‏رَجَعَ‏ ) ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُ فِي آخِرِ اللَّحَقِ الْكَلِمَةَ الْمُتَّصِلَةَ بِهِ دَاخِلَ الْكِتَابِ فِي مَوْضِعِ التَّخْرِيجِ ، لِيُؤْذِنَ بِاتِّصَالِ الْكَلَامِ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ بَعْضِ أَهْلِ الصَّنْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ ، وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ صَاحِبِ ‏كِتَابِ " الْفَاصِلُ بَيْنَ الرَّاوِي وَالْوَاعِي‏ " مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ مَعَ طَائِفَةٍ‏ . ‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَرْضِيٍّ ، إِذْ رُبَّ كَلِمَةٍ تَجِيءُ فِي الْكَلَامِ مُكَرَّرَةً حَقِيقَةً ، فَهَذَا التَّكْرِيرُ يُوقِعُ بَعْضَ النَّاسِ فِي تَوَهُّمِ مِثْلِ ذَلِكَ فِي بَعْضِهِ‏ . ‏
وَاخْتَارَ الْقَاضِي ابْنُ خَلَّادٍ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ أَنْ يَمُدَّ عَطْفَةَ خَطِّ [1/195] التَّخْرِيجِ مِنْ مَوْضِعِهِ حَتَّى يُلْحِقَهُ بِأَوَّلِ اللَّحَقِ فِي الْحَاشِيةِ‏ ، وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مَرْضِيٍّ ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ زِيَادَةُ بَيَانٍ فَهُوَ تَسْخِيمٌ لِلْكِتَابِ وَتَسْوِيدٌ لَهُ ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ كَثْرَةِ الْإِلْحَاقَاتِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا كِتْبَةَ اللَّحَقِ صَاعِدًا إِلَى أَعْلَى الْوَرَقَةِ ، لِئَلَّا يَخْرُجَ بَعْدَهُ نَقْصٌ آخَرُ فَلَا يَجِدُ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْحَاشِيَةِ فَارِغًا لَهُ ، لَوْ كَانَ كَتَبَ الْأَوَّلَ نَازِلًا إِلَى أَسْفَلَ‏ ، وَإِذَا كَتَبَ الْأَوَّلَ صَاعِدًا فَمَا يَجِدُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ نَقْصٍ يَجِدُ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْحَاشِيَةِ فَارِغًا لَهُ‏ . ‏
وَقُلْنَا أَيْضًا يُخْرِجُهُ فِي جِهَةِ الْيَمِينِ ; لِأَنَّهُ لَوْ خَرَّجَهُ إِلَى جِهَةِ الشِّمَالِ ، فَرُبَّمَا ظَهَرَ مِنْ بَعْدِهِ فِي السَّطْرِ نَفْسِهِ نَقْصٌ آخَرُ ، فَإِنْ خَرَّجَهُ قُدَّامَهُ إِلَى جِهَةِ الشِّمَالِ أَيْضًا وَقَعَ بَيْنَ التَّخْرِيجَيْنِ إِشْكَالٌ‏ ، وَإِنْ خَرَجَ الثَّانِي إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ الْتَقَتْ عَطْفَةُ تَخْرِيجٍ جِهَةَ الشِّمَالِ ، وَعَطْفَةُ تَخْرِيجٍ جِهَةَ الْيَمِينِ أَوْ تَقَابَلَتَا ، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ الضَّرْبَ عَلَى مَا بَيْنَهُمَا ، بِخِلَافِ مَا إِذَا خَرَجَ الْأَوَّلُ إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ‏ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَخْرُجُ الثَّانِي إِلَى جِهَةِ الشِّمَالِ ، فَلَا يَلْتَقِيَانِ وَلَا يَلْزَمُ إِشْكَالٌ ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَتَأَخَّرَ النَّقْصُ إِلَى آخِرِ السَّطْرِ ، فَلَا وَجْهَ حِينَئِذٍ إِلَّا تَخْرِيجُهُ إِلَى جِهَةِ الشِّمَالِ لِقُرْبِهِ مِنْهَا ، وَلِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّا لَا نَخْشَى ظُهُورَ نَقْصٍ بَعْدَهُ‏ . ‏
وَإِذَا كَانَ النَّقْصُ فِي أَوَّلِ السَّطْرِ تَأَكَّدَ تَخْرِيجُهُ إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقُرْبِ مَعَ مَا سَبَقَ‏ . ‏
[1/196] وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ فِي الْحَوَاشِي - مِنْ شَرْحٍ ، أَوْ تَنْبِيهٍ عَلَى غَلَطٍ ، أَوِ اخْتِلَافِ رِوَايَةٍ أَوْ نُسْخَةٍ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، مِمَّا لَيْسَ مِنَ الْأَصْلِ - فَقَدْ ذَهَبَ الْقَاضِي الْحَافِظُ عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ لِذَلِكَ خَطُّ تَخْرِيجٍ ، لِئَلَّا يَدْخُلَ اللَّبْسُ ، وَيُحْسَبَ مِنَ الْأَصْلِ ، وَأَنَّهُ لَا يُخَرَّجُ إِلَّا لِمَا هُوَ مِنْ نَفْسِ الْأَصْلِ ، لَكِنْ رُبَّمَا جَعَلَ عَلَى الْحَرْفِ الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ التَّخْرِيجِ عَلَامَةً كَالضَّبَّةِ أَوِ التَّصْحِيحِ إِيذَانًا بِهِ‏ . ‏
قُلْتُ‏ : التَّخْرِيجُ أَوْلَى وَأَدَلُّ ، وَفِي نَفْسِ هَذَا الْمُخْرَجِ مَا يَمْنَعُ الْإِلْبَاسَ‏ ، ثُمَّ هَذَا التَّخْرِيجُ يُخَالِفُ التَّخْرِيجَ لِمَا هُوَ مِنْ نَفْسِ الْأَصْلِ‏ فِي أَنَّ خَطَّ ذَلِكَ التَّخْرِيجِ يَقَعُ بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا سَقَطَ السَّاقِطُ ، وَخَطُّ هَذَا التَّخْرِيجِ يَقَعُ عَلَى نَفْسِ الْكَلِمَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا خُرِّجَ الْمَخْرَجَ فِي الْحَاشِيَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
الثَّانِيَ عَشَرَ‏ : مِنْ شَأْنِ الْحُذَّاقِ الْمُتْقِنِينَ الْعِنَايَةُ بِالتَّصْحِيحِ وَالتَّضْبِيبِ وَالتَّمْرِيضِ‏ :
أَمَّا التَّصْحِيحُ‏ : فَهُوَ كِتَابَةُ ( ‏صَحَّ‏ ) عَلَى الْكَلَامِ أَوْ عِنْدَهُ ، وَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا صَحَّ رِوَايَةً وَمَعْنًى ، غَيْرَ أَنَّهُ عُرْضَةٌ لِلشَّكِّ ، أَوِ الْخِلَافِ ، فَيَكْتُبُ عَلَيْهِ ( ‏صَحَّ‏ ) لِيُعْرَفَ أَنَّهُ لَمْ يُغْفَلْ عَنْهُ ، وَأَنَّهُ قَدْ ضُبِطَ وَصَحَّ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ‏ . ‏
[1/197] وَأَمَّا التَّضْبِيبُ وَيُسَمَّى أَيْضًا التَّمْرِيضَ ، فَيُجْعَلُ عَلَى مَا صَحَّ وُرُودُهُ كَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ ، غَيْرَ أَنَّهُ فَاسِدٌ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى ، أَوْ ضَعِيفٌ ، أَوْ نَاقِصٌ ، مِثْلُ‏ : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ جَائِزٍ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ ، أَوْ‏ يَكُونَ شَاذًّا عِنْدَ أَهْلِهَا يَأْبَاهُ أَكْثَرُهُمْ ، أَوْ مُصَحَّفًا ، أَوَيَنْقُصَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ كَلِمَةً أَوْ أَكْثَرَ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏ ، فَيُمَدُّ عَلَى مَا هَذَا سَبِيلُهُ خَطٌّ ، أَوَّلُهُ مِثْلُ الصَّادِ ، وَلَا يُلْزَقُ بِالْكَلِمَةِ الْمُعَلَّمِ عَلَيْهَا ، كَيْلَا يُظَنَّ ضَرْبًا ، وَكَأَنَّهُ صَادُ التَّصْحِيحِ بِمَدَّتِهَا دُونَ حَائِهَا ، كُتِبَتْ كَذَلِكَ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ مَا صَحَّ مُطْلَقًا مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ وَغَيْرِهَا ، وَبَيْنَ مَا صَحَّ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ دُونَ غَيْرِهَا ، فَلَمْ يُكْمَلْ عَلَيْهِ التَّصْحِيحُ‏ ، وَكُتِبَ حَرْفٌ ‏نَاقِصٌ‏ عَلَى حَرْفٍ نَاقِصٍ إِشْعَارًا بِنَقْصِهِ وَمَرَضِهِ مَعَ صِحَّةِ نَقْلِهِ وَرِوَايَتِهِ وَتَنْبِيهًا بِذَلِكَ لِمَنْ يَنْظُرُ فِي كِتَابِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَقَفَ عَلَيْهِ وَنَقَلَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ ، وَلَعَلَّ غَيْرَهُ قَدْ يُخَرِّجُ لَهُ وَجْهًا صَحِيحًا ، أَوْ يَظْهَرُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْآنَ‏ . ‏ وَلَوْ غَيَّرَ ذَلِكَ وَأَصْلَحَهُ عَلَى مَا عِنْدَهُ لَكَانَ مُتَعَرِّضًا لِمَا وَقَعَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَجَاسِرِينَ الَّذِينَ غَيَّرُوا وَظَهَرَ الصَّوَابُ فِيمَا أَنْكَرُوهُ ، وَالْفَسَادُ فِيمَا أَصْلَحُوهُ‏ . ‏
وَأَمَّا تَسْمِيَةُ ذَلِكَ ضَبَّةً : فَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ اللُّغَوِيِّ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الْإِفْلِيلِيِّ‏ : أَنَّ ذَلِكَ لِكَوْنِ الْحَرْفِ مُقْفَلًا بِهَا لَا يَتَّجِهُ لِقِرَاءَةٍ كَمَا أَنَّ الضَّبَّةَ مُقْفَلٌ بِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏ . ‏
[1/198] قُلْتُ‏ : وَلِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ عَلَى كَلَامٍ فِيهِ خَلَلٌ أَشْبَهَتِ الضَّبَّةَ الَّتِي تُجْعَلُ عَلَى كَسْرٍ أَوْ خَلَلٍ ، فَاسْتُعِيرَ لَهَا اسْمُهَا ، وَمِثْلُ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ فِي بَابِ الِاسْتِعَارَاتِ‏ . ‏
وَمِنْ مَوَاضِعِ التَّضْبِيبِ‏ : أَنْ يَقَعَ فِي الْإِسْنَادِ إِرْسَالٌ أَوِ انْقِطَاعٌ ، فَمِنْ عَادَتِهِمْ تَضْبِيبُ مَوْضِعِ الْإِرْسَالِ وَالِانْقِطَاعِ ، وَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ التَّضْبِيبِ عَلَى الْكَلَامِ النَّاقِصِ‏ . ‏
وَيُوجَدُ فِي بَعْضِ أُصُولِ الْحَدِيثِ الْقَدِيمَةِ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ جَمَاعَةٌ مَعْطُوفَةٌ أَسْمَاؤُهُمْ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ عَلَامَةٌ تُشْبِهُ الضَّبَّةَ فِيمَا بَيْنَ أَسْمَائِهِمْ ، فَيَتَوَهَّمُ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ أَنَّهَا ضَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بِضَبَّةٍ ، وَكَأَنَّهَا عَلَامَةُ وَصْلٍ فِيمَا بَيْنَهَا ، أُثْبِتَتْ تَأْكِيدًا لِلْعَطْفِ ، خَوْفًا مِنْ أَنْ تُجْعَلَ " ‏عَنْ‏ " مَكَانَ الْوَاوِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى . ‏
ثُمَّ إِنَّ بَعْضَهُمْ رُبَّمَا اخْتَصَرَ عَلَامَةَ التَّصْحِيحِ فَجَاءَتْ صُورَتُهَا تُشْبِهُ صُورَةَ التَّضْبِيبِ ، وَالْفِطْنَةُ مِنْ خَيْرِ مَا أُوتِيَهُ الْإِنْسَانُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
الثَّالِثَ عَشَرَ‏ : إِذَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُنْفَى عَنْهُ بِالضَّرْبِ ، أَوِ الْحَكِّ ، أَوِ الْمَحْوِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ‏ . ‏ وَالضَّرْبُ خَيْرٌ مِنَ الْحَكِّ وَالْمَحْوِ‏ . ‏
[1/199] رُوِّينَا عَنِ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ‏ : قَالَ أَصْحَابُنَا " ‏الْحَكُّ تُهْمَةٌ‏ " . ‏ وَأَخْبَرَنِي مَنْ أَخْبَرَ عَنِ ‏الْقَاضِي عِيَاضٍ‏ قَالَ‏ : سَمِعْتُ شَيْخَنَا ‏أَبَا بَحْرٍ سُفْيَانَ بْنَ الْعَاصِ الْأَسَدِيَّ‏ يَحْكِي عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏ : " كَانَ الشُّيُوخُ يَكْرَهُونَ حُضُورَ السِّكِّينِ مَجْلِسَ السَّمَاعِ حَتَّى لَا يُبْشَرَ شَيْءٌ ; لِأَنَّ مَا يُبْشَرُ مِنْهُ رُبَّمَا يَصِحُّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى‏ ، وَقَدْ يَسْمَعُ الْكِتَابَ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى شَيْخٍ آخَرَ يَكُونُ مَا بُشِرَ وَحُكَّ مِنْ رِوَايَةِ هَذَا صَحِيحًا فِي رِوَايَةِ الْآخَرِ ، فَيَحْتَاجُ إِلَى إِلْحَاقِهِ بَعْدَ أَنْ بُشِرَ ، وَهُوَ إِذَا خُطَّ عَلَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوَّلِ وَصَحَّ عِنْدَ الْآخَرِ اكْتُفِيَ بِعَلَامَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ بِصِحَّتِهِ‏ " . ‏
ثُمَّ إِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الضَّرْبِ‏ :
فَرُوِّينَا عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ‏ قَالَ‏ : " أَجْوَدُ الضَّرْبِ أَنْ لَا يَطْمِسَ الْمَضْرُوبَ عَلَيْهِ ، بَلْ يَخُطَّ مِنْ فَوْقِهِ خَطًّا جَيِّدًا بَيِّنًا يَدُلُّ عَلَى إِبْطَالِهِ ، وَيَقْرَأَ مِنْ تَحْتِهِ مَا خُطَّ عَلَيْهِ‏ " . ‏
وَرُوِّينَا عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ مَا مَعْنَاهُ‏ : أَنَّ اخْتِيَارَاتِ الضَّابِطِينَ اخْتَلَفَتْ فِي الضَّرْبِ‏ ، فَأَكْثَرُهُمْ عَلَى مَدِّ الْخَطِّ عَلَى الْمَضْرُوبِ عَلَيْهِ مُخْتَلِطًا بِالْكَلِمَاتِ الْمَضْرُوبِ عَلَيْهَا ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ ( ‏الشَّقَّ ) أَيْضًا . ‏
[1/200] وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَخْلِطُهُ ، وَيُثْبِتُهُ فَوْقَهُ ، لَكِنَّهُ يَعْطِفُ طَرَفَيِ الْخَطِّ عَلَى أَوَّلِ الْمَضْرُوبِ عَلَيْهِ وَآخِرِهِ‏ . ‏
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَقْبِحُ هَذَا ، وَيَرَاهُ تَسْوِيدًا ، وَتَطْلِيسًا ، بَلْ يُحَوِّقُ عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ الْمَضْرُوبِ عَلَيْهِ بِنِصْفِ دَائِرَةٍ ، وَكَذَلِكَ فِي آخِرِهِ‏ ، وَإِذَا كَثُرَ الْكَلَامُ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهِ فَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ كُلِّ سَطْرٍ مِنْهُ وَآخِرِهِ ، وَقَدْ يَكْتَفِي بِالتَّحْوِيقِ عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ أَجْمَعَ‏ . ‏
وَمِنَ الْأَشْيَاخِ مَنْ يَسْتَقْبِحُ الضَّرْبَ ، وَالتَّحْوِيقَ ، وَيَكْتَفِي بِدَائِرَةٍ صَغِيرَةٍ أَوَّلَ الزِّيَادَةِ وَآخِرَهَا ، وَيُسَمِّيهَا صِفْرًا كَمَا يُسَمِّيهَا أَهْلُ الْحِسَابِ‏ . ‏
وَرُبَّمَا كَتَبَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ ( ‏لَا ) فِي أَوَّلِهِ ، وَ‏ ( ‏إِلَى‏ ) فِي آخِرِهِ‏ ، وَمِثْلُ هَذَا يَحْسُنُ فِيمَا صَحَّ فِي رِوَايَةٍ ، وَسَقَطَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
وَأَمَّا الضَّرْبُ عَلَى الْحَرْفِ الْمُكَرَّرِ‏ : فَقَدْ تَقَدَّمَ بِالْكَلَامِ فِيهِ الْقَاضِي ‏أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ خَلَّادٍ الرَّامَهُرْمُزِيُّ‏ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى تَقَدُّمِهِ‏ ، فَرُوِّينَا عَنْهُ قَالَ‏ : قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا‏ : " أَوْلَاهُمَا بِأَنْ يُبْطَلَ الثَّانِي ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ كُتِبَ عَلَى صَوَابٍ ، وَالثَّانِي كُتِبَ عَلَى الْخَطَأِ ، فَالْخَطَأُ أَوْلَى بِالْإِبْطَالِ‏ " ، وَقَالَ آخَرُونَ‏ : " إِنَّمَا الْكِتَابُ عَلَامَةٌ لِمَا يُقْرَأُ ، فَأَوْلَى الْحَرْفَيْنِ بِالْإِبْقَاءِ أَدَلُّهُمَا عَلَيْهِ ، وَأَجْوَدُهُمَا صُورَةً‏ " . ‏
[1/201] وَجَاءَ ‏الْقَاضِي عِيَاضٌ‏ آخِرًا فَفَصَّلَ تَفْصِيلًا حَسَنًا‏ ، فَرَأَى أَنَّ تَكَرُّرَ الْحَرْفِ إِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ سَطْرٍ فَلْيَضْرِبْ عَلَى الثَّانِي ; صِيَانَةً لِأَوَّلِ السَّطْرِ عَنِ التَّسْوِيدِ ، وَالتَّشْوِيهِ‏ ، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِ سَطْرٍ فَلْيَضْرِبْ عَلَى أَوَّلِهِمَا صِيَانَةً لِآخِرِ السَّطْرِ ، فَإِنَّ سَلَامَةَ أَوَائِلِ السُّطُورِ ، وَأَوَاخِرِهَا عَنْ ذَلِكَ أَوْلَى‏ ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَحَدُهُمَا فِي آخِرِ سَطْرٍ ، وَالْآخَرُ فِي أَوَّلِ سَطْرٍ آخَرَ فَلْيَضْرِبْ عَلَى الَّذِي فِي آخِرِ السَّطْرِ ، فَإِنَّ أَوَّلَ السَّطْرِ أَوْلَى بِالْمُرَاعَاةِ‏ ، فَإِنْ كَانَ التَّكَرُّرُ فِي الْمُضَافِ ، أَوِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ ، أَوْ فِي الصِّفَةِ ، أَوْ فِي الْمَوْصُوفِ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ‏ لَمْ نُرَاعِ حِينَئِذٍ أَوَّلَ السَّطْرِ ، وَآخِرَهُ ، بَلْ نُرَاعِي الِاتِّصَالَ بَيْنَ الْمُضَافِ ، وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ ، وَنَحْوَهُمَا فِي الْخَطِّ ، فَلَا نَفْصِلُ بِالضَّرْبِ بَيْنَهُمَا ، وَنَضْرِبُ عَلَى الْحَرْفِ الْمُتَطَرِّفِ مِنَ الْمُتَكَرِّرِ دُونَ الْمَتَوَسِّطِ‏ . ‏
وَأَمَّا الْمَحْوُ‏ : فَيُقَابِلُ الْكَشْطَ فِي حُكْمِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَتَتَنَوَّعُ طُرُقُهُ‏ ، وَمِنْ أَغْرَبِهَا - مَعَ أَنَّهُ أَسْلَمَهَا - مَا رُوِيَ عَنْ ‏سَحْنُونِ بْنِ سَعِيدٍ التَّنُوخِيِّ‏ الْإِمَامِ الْمَالِكِيِّ‏ : أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا كَتَبَ الشَّيْءَ ثُمَّ لَعِقَهُ‏ ، وَإِلَى هَذَا يُومِي مَا رُوِّينَا عَنْ ‏إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏ : " مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ يُرَى فِي ثَوْبِ الرَّجُلِ وَشَفَتَيْهِ مِدَادٌ " ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
الرَّابِعَ عَشَرَ‏ : لِيَكُنْ فِيمَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الرِّوَايَاتُ قَائِمًا بِضَبْطِ مَا تَخْتَلِفُ [1/202] فِيهِ فِي كِتَابِهِ ، جَيِّدَ التَّمْيِيزِ بَيْنَهَا ، كَيْلَا تَخْتَلِطَ وَتَشْتَبِهَ فَيَفْسُدَ عَلَيْهِ أَمْرُهَا‏ ، وَسَبِيلُهُ‏ : أَنْ يَجْعَلَ أَوَّلًا مَتْنَ كِتَابِهِ عَلَى رِوَايَةٍ خَاصَّةٍ‏ ، ثُمَّ مَا كَانَتْ مِنْ زِيَادَةٍ لِرِوَايَةٍ أُخْرَى أَلْحَقَهَا‏ ، أَوْ مِنْ نَقْصٍ أَعْلَمَ عَلَيْهِ ، أَوْ مِنْ خِلَافٍ كَتَبَهُ إِمَّا فِي الْحَاشِيَةِ ، وَإِمَّا فِي غَيْرِهَا ، مُعَيِّنًا فِي كُلِّ ذَلِكَ مَنْ رَوَاهُ ، ذَاكِرًا اسْمَهُ بِتَمَامِهِ‏ ، فَإِنْ رَمَزَ إِلَيْهِ بِحَرْفٍ ، أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّهُ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ بِذَلِكَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ أَوْ آخِرِهِ ، كَيْلَا يَطُولَ عَهْدُهُ بِهِ فَيَنْسَى ، أَوْ يَقَعَ كِتَابُهُ إِلَى غَيْرِهِ فَيَقَعُ مِنْ رُمُوزِهِ فِي حَيْرَةٍ وَعَمًى‏ . ‏
وَقَدْ يُدْفَعُ إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى الرُّمُوزِ عِنْدَ كَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ‏ . ‏
وَاكْتَفَى بَعْضُهُمْ فِي التَّمْيِيزِ بِأَنْ خَصَّ الرِّوَايَةَ الْمُلْحَقَةَ بِالْحُمْرَةِ ، فَعَلَ ذَلِكَ ‏أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ‏ مِنَ الْمَشَارِقَةِ ، وَ‏أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ‏ مِنَ الْمَغَارِبَةِ ، مَعَ كَثِيرٍ مِنَ الْمَشَايِخِ وَأَهْلِ التَّقْيِيدِ‏ . ‏
فَإِذَا كَانَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُلْحَقَةِ زِيَادَةٌ عَلَى الَّتِي فِي مَتْنِ الْكِتَابِ كَتَبَهَا بِالْحُمْرَةِ‏ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَقْصٌ وَالزِّيَادَةُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي مَتْنِ الْكِتَابِ حَوَّقَ عَلَيْهَا بِالْحُمْرَةِ ، ثُمَّ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ تَبْيِينُ مَنْ لَهُ الرِّوَايَةُ الْمُعْلَمَةُ بِالْحُمْرَةِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ، أَوْ آخِرِهِ عَلَى مَا سَبَقَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
الْخَامِسَ عَشَرَ‏ : غَلَبَ عَلَى كَتَبَةِ الْحَدِيثِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الرَّمْزِ فِي قَوْلِهِمْ ( ‏حَدَّثَنَا ) ، وَ‏ ( ‏أَخْبَرَنَا ) غَيْرَ أَنَّهُ شَاعَ ذَلِكَ وَظَهَرَ حَتَّى لَا يَكَادَ يَلْتَبِسُ‏ . ‏
[1/203] أَمَّا ( ‏حَدَّثَنَا ) فَيُكْتَبُ مِنْهَا شَطْرُهَا الْأَخِيرُ ، وَهُوَ الثَّاءُ وَالنُّونُ وَالْأَلِفُ‏ . ‏ وَرُبَّمَا اقْتُصِرَ عَلَى الضَّمِيرِ مِنْهَا وَهُوَ النُّونُ وَالْأَلِفُ‏ . ‏ وَأَمَّا ( ‏أَخْبَرَنَا ) فَيُكْتَبُ مِنْهَا الضَّمِيرُ الْمَذْكُورُ مَعَ الْأَلِفِ أَوَّلًا‏ . ‏
وَلَيْسَ بِحَسَنٍ مَا يَفْعَلُهُ طَائِفَةٌ مِنْ كِتَابَةِ ( ‏أَخْبَرَنَا ) بِأَلِفٍ مَعَ عَلَامَةِ حَدَّثَنَا الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا ، وَإِنْ كَانَ ‏الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ‏ مِمَّنْ فَعَلَهُ‏ . ‏
وَقَدْ يُكْتَبُ فِي عَلَامَةِ ( ‏أَخْبَرَنَا ) رَاءٌ بَعْدَ الْأَلِفِ ، وَفِي عَلَامَةِ ( ‏حَدَّثَنَا ) دَالٌ فِي أَوَّلِهَا‏ . ‏ وَمِمَّنْ رَأَيْتُ فِي خَطِّهِ الدَّالَ فِي عَلَامَةِ ( حَدَّثَنَا ) ‏الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ‏ ، و‏‏َأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ‏ ، و‏‏َالْحَافِظُ أَحْمَدُ الْبَيْهَقِيُّ‏ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . ‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏
وَإِذَا كَانَ لِلْحَدِيثِ إِسْنَادَانِ أَوْ أَكْثَرُ فَإِنَّهُمْ يَكْتُبُونَ عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ إِسْنَادٍ إِلَى إِسْنَادٍ مَا صُورَتُهُ ( ‏ح‏ ) ، وَهِيَ حَاءٌ مُفْرَدَةٌ مُهْمَلَةٌ .
وَلَمْ يَأْتِنَا عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ بَيَانٌ لِأَمْرِهَا ، غَيْرَ أَنِّي وَجَدْتُ بِخَطِّ الْأُسْتَاذِ الْحَافِظِ ‏أَبِي عُثْمَانَ الصَّابُونِيِّ‏ ، وَالْحَافِظِ ‏أَبِي مُسْلِمٍ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ اللَّيْثِيِّ الْبُخَارِيِّ‏ ، وَالْفَقِيهِ الْمُحَدِّثِ ‏أَبِي سَعِيدٍ الْخَلِيلِيِّ‏ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَكَانِهَا بَدَلًا عَنْهَا ( صَحَّ‏ ) ‏صَرِيحَةً‏ . ‏ وَهَذَا يُشْعِرُ بِكَوْنِهَا رَمْزًا إِلَى ( ‏صَحَّ‏ ) . ‏ وَحَسُنَ إِثْبَاتُ ( صَحَّ‏ ) هَاهُنَا ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ حَدِيثَ هَذَا الْإِسْنَادِ قد سَقَطَ‏ ، وَلِئَلَّا يُرَكَّبَ الْإِسْنَادُ الثَّانِي عَلَى الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ ، فَيُجْعَلَا إِسْنَادًا وَاحِدًا‏ . ‏
[1/204] وَحَكَى لِي بَعْضُ مَنْ جَمَعَتْنِي ، وَإِيَّاهُ الرِّحْلَةُ بِخُرَاسَانَ ، عَمَّنْ وَصَفَهُ بِالْفَضْلِ مِنَ الْأصْبَهَانيِّينَ‏ أَنَّهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ مِنَ التَّحْوِيلِ ، أَيْ مِنْ إِسْنَادٍ إِلَى إِسْنَادٍ آخَرَ‏ . ‏ وَذَاكَرْتُ فِيهَا بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الغرِبِ ، وَحَكَيْتُ لَهُ عَنْ بَعْضِ مَنْ لَقِيتُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ‏ أَنَّهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِنَا ( ‏الْحَدِيثَ‏ ) ، فَقَالَ لِي‏ : أَهْلُ الْمَغْرِبِ - وَمَا عَرَفْتُ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافًا - يَجْعَلُونَهَا حَاءً مُهْمَلَةً ، وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهَا ( ‏الْحَدِيثَ‏ ) . ‏
وَذَكَرَ لِي‏ : أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ الْبَغْدَاذيِّينَ يَذْكُرُ أَيْضًا أَنَّهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِذَا انْتَهَى إِلَيْهَا فِي الْقِرَاءَةِ ( ‏حا‏ ) وَيَمُرُّ‏ . ‏
وَسَأَلْتُ أَنَا الْحَافِظَ الرَّحَّالَ ‏أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ الْقَادِرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الرُّهَاوِيَّ‏ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهَا ، فَذَكَرَ أَنَّهَا حَاءٌ مِنْ ‏حَائِلٍ‏ أَيْ تَحَوُّلٍ بَيْنَ الْإِسْنَادَيْنِ‏ ، قَالَ‏ : وَلَا يُلْفَظُ بِشَيْءٍ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إليها فِي الْقِرَاءَةِ ، وَأَنْكَرَ كَوْنَهَا مِنْ ( الْحَدِيثِ ) وَغَيْرَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَعْرِفْ غَيْرَ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ مَشَايِخِهِ ، وَفِيهِمْ عَدَدٌ كَانُوا حُفَّاظَ الْحَدِيثِ فِي وَقْتِهِ‏ . ‏
قَالَ الْمُؤَلِّفُ‏ : وَأَخْتَارُ أَنَا - وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ - أَنْ يَقُولَ الْقَارِئُ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَيْهَا : ( ‏حا‏ ) وَيَمُرُّ ، فَإِنَّهُ أَحْوَطُ الْوُجُوهِ وَأَعْدَلُهَا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى . ‏
[1/205] السَّادِسَ عَشَرَ‏ : ذَكَرَ ‏الْخَطِيبُ الْحَافِظُ‏ ‏‏أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يَكْتُبَ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ اسْمَ الشَّيْخِ الَّذِي سَمِعَ الْكِتَابَ مِنْهُ ، وَكُنْيَتَهُ وَنَسَبَهُ ، ثُمَّ يَسُوقُ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ عَلَى لَفْظِهِ‏ ، قَالَ‏ : وَإِذَا كَتَبَ الْكِتَابَ الْمَسْمُوعَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ فَوْقَ سَطْرِ التَّسْمِيَةِ أَسْمَاءَ مَنْ سَمِعَ مَعَهُ ، وَتَارِيخَ وَقْتِ السَّمَاعِ ، وَإِنْ أَحَبَّ كَتَبَ ذَلِكَ فِي حَاشِيَةِ أَوَّلِ وَرَقَةٍ مِنَ الْكِتَابِ ، فَكُلًّا قَدْ فَعَلَهُ شُيُوخُنَا‏ . ‏
قُلْتُ‏ : كِتْبَةُ التَّسْمِيعِ حَيْثُ ذَكَرَهُ أَحْوَطُ لَهُ وَأَحْرَى بِأَنْ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ ، وَلَا بَأْسَ بِكِتْبَتِهِ آخِرَ الْكِتَابِ وَفِي ظَهْرِهِ وَحَيْثُ لَا يَخْفَى مَوْضِعُهُ‏ . ‏
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّسْمِيعُ بِخَطِّ شَخْصٍ مَوْثُوقٍ بِهِ غَيْرِ مَجْهُولِ الْخَطِّ ، وَلَا ضَيْرَ حِينَئِذٍ فِي أَنْ لَا يَكْتُبَ الشَّيْخُ الْمُسْمِعُ خَطَّهُ بِالتَّصْحِيحِ ، وَهَكَذَا لَا بَأْسَ عَلَى صَاحِبِ الْكِتَابِ إِذَا كَانَ مَوْثُوقًا بِهِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى إِثْبَاتِ سَمَاعِهِ بِخَطِّ نَفْسِهِ ، فَطَالَمَا فَعَلَ الثِّقَاتُ ذَلِكَ‏ . ‏
وَقَدْ حَدَّثَنِي بِمَرْوَ الشَّيْخُ ‏أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ الْحَافِظِ أَبِي سَعْدٍ الْمَرْوَزِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ مِنَ الْأَصْبَهَانِيَّةِ‏ أَنَّ ‏عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ ، قَرَأَ بِبَغْدَادَ جُزْءًا عَلَى ‏أَبِي أَحْمَدَ الْفَرَضِيِّ‏ ، وَسَأَلَهُ خَطَّهُ لِيَكُونَ حُجَّةً لَهُ‏ . ‏ فَقَالَ لَهُ ‏أَبُو أَحْمَدَ‏ : " يَا بُنَيَّ ، عَلَيْكَ بِالصِّدْقِ ، فَإِنَّكَ إِذَا عُرِفْتَ بِهِ لَا يُكَذِّبُكَ أَحَدٌ ، وَتُصَدَّقُ فِيمَا تَقُولُ وَتَنْقُلُ ، وَإِذَا كَانَ غَيْرُ [1/206] ذَلِكَ ، فَلَوْ قِيلَ لَكَ‏ : مَا هَذَا خَطُّ ‏أَبِي أَحْمَدَ الْفَرَضِيِّ‏ ، مَاذَا تَقُولُ لَهُمْ ؟ " .
ثُمَّ إِنَّ عَلَى كَاتِبِ التَّسْمِيعِ التَّحَرِّيَ وَالِاحْتِيَاطَ ، وَبَيَانَ السَّامِعِ ، ( وَالْمَسْمُوعِ ) مِنْهُ بِلَفْظٍ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ ، وَمُجَانَبَةَ التَّسَاهُلِ فِيمَنْ يُثْبِتُ اسْمَهُ ، وَالْحَذَرَ مِنْ إِسْقَاطِ اسْمِ أَحَدٍ مِنْهُمْ لِغَرَضٍ فَاسِدٍ‏ . ‏ فَإِنْ كَانَ مُثْبِتُ السَّمَاعِ غَيْرَ حَاضِرٍ فِي جَمِيعِهِ ، لَكِنْ أَثْبَتَهُ مُعْتَمِدًا عَلَى إِخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بِخَبَرِهِ مِنْ حَاضِرِيهِ ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . ‏
ثُمَّ إِنَّ مَنْ ثَبَتَ سَمَاعُهُ فِي كِتَابِهِ فَقَبِيحٌ بِهِ كِتْمَانُهُ إِيَّاهُ ، وَمَنْعُهُ مِنْ نَقْلِ سَمَاعِهِ ، وَمِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ ، وَإِذَا أَعَارَهُ إِيَّاهُ فَلَا يُبْطِئُ بِهِ‏ . رُوِّينَا عَنِ ‏الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ‏ : " إِيَّاكَ وَغُلُولَ الْكُتُبِ‏ " ، قِيلَ لَهُ‏ : " وَمَا غُلُولُ الْكُتُبِ ؟ " قَالَ‏ : " حَبْسُهَا عَنْ أَصْحَابِهَا‏ " . ‏
وَرُوِّينَا عَنِ ‏الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ‏ : " لَيْسَ مِنْ فِعَالِ أَهْلِ الْوَرَعِ ، وَلَا مِنْ فْعَالِ الْحُكَمَاءِ أَنْ يَأْخُذَ سَمَاعَ رَجُلٍ فَيَحْبِسَهُ عَنْهُ ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏ " . ‏ وَفِي رِوَايَةٍ : " وَلَا مِنْ فِعَالِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَأْخُذَ سَمَاعَ رَجُلِ وَكِتَابَهُ فَيَحْبِسَهُ عَلَيْهِ‏ " . ‏ فَإِنْ مَنَعَهُ إِيَّاهُ فَقَدَ رُوِّينَا‏ : أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ بِالْكُوفَةِ سَمَاعًا مَنَعَهُ إِيَّاهُ فَتَحَاكَمَا إِلَى قَاضِيهَا ‏حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ، فَقَالَ لِصَاحِبِ [1/207] الْكِتَابِ‏ : " أَخْرِجْ إِلَيْنَا كُتُبَكَ فَمَا كَانَ مِنْ سَمَاعِ هَذَا الرَّجُلِ بِخَطِّ يَدِكَ أَلْزَمْنَاكَ ، وَمَا كَانَ بِخَطِّهِ أَعْفَيْنَاكَ مِنْهُ‏ " . ‏
قَالَ ‏ابْنُ خَلَّادٍ‏ : " سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيَّ عَنْ هَذَا ، فَقَالَ‏ : لَا يَجِيءُ فِي هَذَا الْبَابِ حُكْمٌ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا ; لِأَنَّ خَطَّ صَاحِبِ الْكِتَابِ دَالٌّ عَلَى رِضَاهُ بِاسْتِمَاعِ صَاحِبِهِ مَعَهُ‏ " . ‏ قَالَ ‏ابْنُ خَلَّادٍ‏ : وَقَالَ غَيْرُهُ " ‏لَيْسَ بِشَيْءٍ‏ " . ‏
وَرَوَى ‏الْخَطِيبُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ‏ ، عَنْ ‏إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ‏ الْقَاضِي‏ : أَنَّهُ تُحُوكِمَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ، ثُمَّ قَالَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ‏ : " إِنْ كَانَ سَمَاعُهُ فِي كِتَابِكَ بِخَطِّكَ فَيَلْزَمُكَ أَنْ تُعِيرَهُ ، وَإِنْ كَانَ سَمَاعُهُ فِي كِتَابِكَ بِخَطِّ غَيْرِكَ فَأَنْتَ أَعْلَمُ‏ " . ‏
قُلْتُ‏ : ‏حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ مَعْدُودٌ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَ‏أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ‏ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ ‏الشَّافِعِيِّ‏ ، وَ‏إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ‏ لِسَانُ أَصْحَابِ مَالِكٍ ، وَإِمَامُهُمْ ، وَقَدْ تَعَاضَدَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إلى‏ أَنَّ سَمَاعَ غَيْرِهِ إِذَا ثَبَتَ فِي كِتَابِهِ بِرِضَاهُ فَيَلْزَمُهُ إِعَارَتُهُ إِيَّاهُ‏ . ‏ وَقَدْ كَانَ لَا يَبِينُ لِي وَجْهُهُ ، ثُمَّ وَجَّهْتُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةٍ لَهُ عِنْدَهُ ، فَعَلَيْهِ أَدَاؤُهَا بِمَا حَوَتْهُ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ بَذْلُ مَالِهِ ، كَمَا يَلْزَمُ مُتَحَمِّلَ الشَّهَادَةِ أَدَاؤُهَا ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ [1/208] بَذْلُ نَفْسِهِ بِالسَّعْيِ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِأَدَائِهَا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . ‏
ثُمَّ إِذَا نَسَخَ الْكِتَابَ فَلَا يَنْقُلُ سَمَاعَهُ إِلَى نُسْخَتِهِ إِلَّا بَعْدَ الْمُقَابَلَةِ الْمَرْضِيَّةِ‏ . ‏ وَهَكَذَا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُلَ سَمَاعًا إِلَى شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ ، أَوْ يُثْبِتَهُ فِيهَا عِنْدَ السَّمَاعِ ابْتِدَاءً ، إِلَّا بَعْدَ الْمُقَابَلَةِ الْمَرْضِيَّةِ بِالْمَسْمُوعِ ، كَيْلَا يَغْتَرَّ أَحَدٌ بِتِلْكَ النُّسْخَةِ غَيْرِ الْمُقَابَلَةِ ، إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ مَعَ النَّقْلِ وَعِنْدَهُ كَوْنَ النُّسْخَةِ غَيْرَ مُقَابَلَةٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏‏‏‏ . ‏