( القسم السَّابِعُ ) مِنْ أَقْسَامِ أَخْذِ الْحَدِيثِ وَتَحَمُّلِهِ ( الْوَصِيَّةُ ) مِنَ الرَّاوِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَوْ سَفَرِهِ لِلطَّالِبِ ( بِالْكِتَابِ ) أَوْ نَحْوِهِ مِنْ مَرْوِيِّهِ ( وَبَعْضُهُمْ ) كَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ( أَجَازَ لِلْمُوصَى لَهُ ) الْمُعَيَّنِ وَاحِدًا فَأَكْثَرَ ( بِالْجُزْءِ ) مِنْ أُصُولِهِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا فَأَكْثَرَ ، وَلَوْ بِكُتُبِهِ كُلِّهَا ( مِنْ رَاوٍ ) لَهُ رِوَايَةٌ بِالْمُوصَى بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلِمَهُ صَرِيحًا بِأَنَّ هَذَا مِنْ مَرْوِيِّهِ حِينَ ( قَضَى أَجَلَهُ ) بِالْمَوْتِ ( يَرْوِيهِ ) ; أَيْ : أَنْ يَرْوِيَهُ كَمَا فَعَلَ أَبُو قِلَابَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْجَرْمِيُّ الْبَصْرِيُّ أَحَدُ الْأَعْلَامِ مِنَ التَّابِعِينَ حَيْثُ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ بِالشَّامِ إِذْ هَرَبَ إِلَيْهَا لَمَّا أُرِيدَ لِلْقَضَاءِ بِكُتُبِهِ إِلَى تِلْمِيذِهِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ إِنْ كَانَ حَيًّا وَإِلَّا فَلْتُحْرَقْ ، وَنُفِّذَتْ وَصِيَّتُهُ وَجِيءَ بِالْكُتُبِ الْمُوصَى بِهَا مِنَ الشَّامِ لِأَيُّوبَ الْمُوصَى لَهُ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ وَأَعْطَى فِي كِرَائِهَا بِضْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا ، ثُمَّ سَأَلَ ابْنَ سِيرِينَ : أَيَجُوزُ لَهُ التَّحْدِيثُ بِذَلِكَ ؟ فَأَجَازَهُ . رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي ( الْكِفَايَةِ ) ( أَوْ ) حِينَ تَوَجَّهَه ( لِسَفَرٍ أَرَادَهُ ) إِلْحَاقًا لَهُ بِالْمَوْتِ ، بَلْ عَزَا شَيْخُنَا الْجَوَازَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِقَوْمٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ : إِنَّ الرِّوَايَةَ بِالْوَصِيَّةِ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ . وَسَبَقَهُمَا الْقَاضِي عِيَاضٌ فَقَالَ : هَذَا طَرِيقٌ قَدْ رُوِيَ فِيهِ عَنِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ إِجَازَةُ الرِّوَايَةِ بِهِ . ثُمَّ عَلَّلَهَا بِأَنَّ فِي دَفْعِهَا لَهُ نَوْعًا مِنَ الْإِذْنِ وَشَبَهًا مِنَ الْعَرْضِ وَالْمُنَاوَلَةِ .
[2/518] قَالَ : وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الضَّرْبِ الَّذِي قَبْلَهُ ( وَ ) لَكِنْ ( رُدَّ ) الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ حَسْبَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ الْخَطِيبُ ، بَلْ نَقَلَهُ عَنْ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِهَا وَابْتِيَاعِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الرِّوَايَةِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْوِجَادَةِ .
قَالَ : وَعَلَى ذَلِكَ أَدْرَكْنَا كَافَّةَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ تَقَدَّمَتْ مِنَ الرَّاوِي إِجَازَةٌ لِلَّذِي صارَتْ إِلَيْهِ الْكُتُبُ بِرِوَايَةِ مَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ سَمَاعَاتِهِ ; فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ حِينَئِذٍ فِيمَا يَرْوِيهِ مِنْهَا : أَخبرنَا وَحدثَنَا . عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ الْإِجَازَةِ .
وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ حَيْثُ قَالَ : إِنَّ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ بَعِيدٌ جِدًّا ، وَهُوَ زَلَّةُ الْعَالِمِ ( مَا لَمْ يُرِدِ ) الْقَائِلُ بِهِ ( الْوِجَادَةُ ) الْآتِيَةُ بَعْدُ ; أَيِ : الرِّوَايَةُ بِهَا . قَالَ : وَلَا يَصِحُّ تَشْبِيهُهُ بِوَاحِدٍ مِنْ قِسْمَيِ الْإِعْلَامِ وَالْمُنَاوَلَةِ ، فَإِنَّ لِمُجَوِّزٍيهِمَا مُسْتَنَدًا ذَكَرْنَاهُ لَا يَتَقَرَّرُ مِثْلُهُ وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ هَاهُنَا .
قَالَ شَيْخُنَا : وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الرِّوَايَةَ بِالْوَصِيَّةِ نُقِلَتْ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ ، وَالرِّوَايَةُ بِالْوِجَادَةِ لَمْ يُجَوِّزْهَا أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَّا مَا نُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ فِي حِكَايَةٍ قَالَ فِيهَا : وَعَنْ كِتَابِ أَبِيهِ بِتَيَقُّنٍ أَنَّهُ بِخَطِّ أَبِيهِ دُونَ غَيْرِهِ .
فَالْقَوْلُ بِحَمْلِ الرِّوَايَةِ بِالْوَصِيَّةِ عَلَى الْوِجَادَةِ غَلَطٌ ظَاهِرٌ . وَسَبَقَهُ ابْنُ أَبِي الدَّمِ فَقَالَ : الرِّوَايَةُ بِالْوِجَادَةِ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي بُطْلَانِهَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ ، فَهِيَ عَلَى هَذَا أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنَ الْوِجَادَةِ بِلَا خِلَافٍ ، فَالْقَوْلُ [2/519] بِأَنَّ قَوْلَ مَنْ أَجَازَ الرِّوَايَةَ بِالْوَصِيَّةِ مُؤَوَّلٌ عَلَى إِرَادَةِ الرِّوَايَةِ بِالْوِجَادَةِ ، مَعَ كَوْنِهِ لَا يَقُولُ بِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِالْوِجَادَةِ ، غَلَطٌ ظَاهِرٌ .
وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ عَمِلَ بِالْوِجَادَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْبُطْلَانُ هُوَ الْحَقُّ الْمُتَعَيِّنُ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ بِتَحْدِيثٍ لَا إِجْمَالًا وَلَا تَفْصِيلًا ، وَلَا تَتَضَمَّنُ الْإِعْلَامَ لَا صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً .
عَلَى أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ الْمُفْتِيَ بِالْجَوَازِ كَمَا تَقَدَّمَ تَوَقَّفَ فِيهِ بَعْدُ ، وَقَالَ لِلسَّائِلِ نَفْسِهِ : لَا آمُرُكَ وَلَا أَنْهَاكَ . بَلْ قَالَ الْخَطِيبُ عَقِبَ حِكَايَتِهِ : يُقَالُ : إِنَّ أَيُّوبَ كَانَ قَدْ سَمِعَ تِلْكَ الْكُتُبَ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْفَظُهَا ، فَلِذَلِكَ اسْتَفْتَى ابْنَ سِيرِينَ فِي التَّحْدِيثِ مِنْهَا . وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ وَرَدَ عَنْهُ كَرَاهَةُ الرِّوَايَةِ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي لَيْسَتْ مَسْمُوعَةً .
فَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ : قُلْتُ لَهُ : مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ يَجِدُ الْكِتَابَ ، أَيَقْرَؤُهُ أَوْ يَنْظُرُ فِيهِ ؟ قَالَ : لَا ، حَتَّى يَسْمَعَهُ مِنْ ثِقَةٍ . فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ فَضْلًا عَنِ الْوَصِيَّةِ .
وَنَحْوُهُ قَوْلُ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ : أَرَدْتُ أَنْ أَضَعَ عِنْدَهُ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ ، وَقَالَ : لَا يَلْبَثُ عِنْدِي كِتَابٌ .
[2/520]